تتجذر ظاهرة العنف السياسي داخل الولايات المتحدة، على الرغم من تفادي المؤسسات الاعلامية الرئيسة تعميم الوصف، وتصرف الانظار بالتركيز على الفضائح السياسية داخل النخب الحاكمة، لتفادي معالجة مسبباتها وتجلياتها الكامنة في طبيعة النظام الاستغلالي وتهميش قطاعات واسعة من المجتمع.
في هذا الصدد، نستثني الصدامات شبه اليومية مع اجهزة الشرطة والأمن ذات الابعاد العنصرية، ونستعرض حادث إطلاق النار الاخير على مجموعة من النواب الجمهوريين في الكونغرس واصابة أحدهم بإصابات بليغة. الحادثة لم تكن الاولى في المشهد السياسي الاميركي، والتي جاءت في اعقاب تسديد مرشح عن الحزب الجمهوري لعضوية الكونغرس لكمات قاسية لمراسل صحفي يجري مقابلة معه.
الافراط في تسخير المفردات الحماسية بسياق سياسي، امام جمهور معبأ وربما لا يدرك كافة جوانب المسائل المثارة، من شأنه إطلاق العنان لقوى العنف والعنف المضاد، واستدخال كافة انواع الوسائل المتاحة لا سيما الاسلحة الاوتوماتيكية الوفيرة. عند اضافة ابعاد اخرى كالعنصرية والتمييز، سمات المجتمع الاميركي الثابة، تتفاقم مسألة العنف وتتعدد الدوافع والاهداف.
خطابات الرئيس ترامب، قبل وبعد فوزه في الانتخابات، فاضت باللغة الحماسية وتأجيج نزعات الصدام، اذ وصفته اسبوعية نيوزويك، ايار 2016، بأنه "شجع مؤيديه على اللجوء للعنف ضد المحتجين من مناوئيه، بل تعهد بتحمل كافة الغرامات المالية التي سيتحملها جمهوره" لقاء تصرفاته المنافية للقوانين. وحذرت المجلة من ان مسلكياته المتراكمة "ترفع منسوب مخاطر الاحتكام للعنف من قبل مناصريه."
المستشار القانوني الاميركي، نوح فيلدمان، الذي صاغ دستور العراق بعد غزوه واحتلاله، علق على مشاجرات مؤيدي ترامب العام الماضي بالقول ان "التحلي باللياقة والحداثة أمر صعب، اما الاطاحة بتلك القيم فهو بسيط."
المفكر الاميركي ذائع الصيت، نعوم تشومسكي، اوضح في مقابلة مع صحيفة الغارديان البريطانية، مطلع عام 2013، أن "الولايات المتحدة منحت لنفسها منذ فترة زمنية طويلة الحق في استخدام العنف لتحقيق أهدافها، لكنها الآن أصبحت أقل قدرة على تنفيذ سياساتها؛" متنبئاً بتنامي العنف الداخلي لاعتبارات متعددة.
وزير الخارجية السابق جون كيري ما فتيء يعبر عن "القلق العميق من العنف بسبب الدوافع السياسية المستمر.." في توصيفه للنزاعات المتعددة في دول العالم الاخرى، والنأي بأميركا "القيم والمثل العليا" عن تعرضها او ممارستها لمظاهر العنف المنظم.
العنف السياسي الاميركي قديم منذ بدء تكوين الكيان السياسي الاميركي. تشير كتب التاريخ الى صدامات متعددة وشرسة في النصف الاول من القرن الثامن عشر رافقتها حالة عداء وكراهية ضد المهاجرين؛ فضلا عن حادث نائب الرئيس آنذاك آرون بير، عام 1804، اذ أطلق النار على منافسه السياسي الكساندر هاميلتون وارداه قتيلا. اما في الماضي القريب، وبعد القفز عن مرحلة الحرب الأهلية المليئة بحوادث مكثفة مشابهة، فقد سجلت نحو 8 حالات خلال ستة عقود تراوحت بين تفجير مفرقعات مبنى الكونغرس الى اطلاق نار على اعضاء المجلس، منهم روبرت كنيدي، والحادث قبل الاخير عام 2011 الذي استهدف النائب عن ولاية اريزونا غابريلا غيفورد.
الماضي القريب يدلنا ايضا على حادثتي اغتيال الرؤساء، ابراهام لينكولن وجون كنيدي، ومحاولتين لاغتيال الرئيس جيرالد فورد والرئيس رونالد ريغان؛ اضافة لمحاولة اغتيال الرئيس اندرو جاكسون، 30 كانون2 1835، عقب مغادرته مبنى الكونغرس.
حادث عرضي ام منظم
عند استعراض التفاصيل الشحيحة المتوفرة عن الحادث الاخير، باستهداف حشد من اعضاء الحزب الجمهوري، يتضح البعد السياسي ودوافع الحادث بشكل جلي. النخب السياسية والاعلامية سعت بوعي تام الصاق التهمة بدافع تنافس الحزبين، لا سيما وان المتهم كان أحد المتطوعين في حملة المرشح بيرني ساندرز.
ما يتوفر حول الحادث ينسب لرواية الأجهزة الأمنية، التي افادت بان المسلح يبلغ من العمر 66 عاما وكان بحوزته سلاح بندقية اوتوماتيكية وسلاح فردي وذخيرة، أطلق نحو 100 رصاصة قبل ان يصاب بتبادل لإطلاق النار، استهدف فيه النائب الجمهوري ستيف سكاليز. سكاليز يحتل المرتبة الثالثة في سلم هرم قيادات الحزب، بعد رئيس المجلس بول رايان ورئيس الأغلبية كيفن مكارثي.
ووفق السردية الرسمية، سأل المسلح سكاليز ان كان من الحزب الديموقراطي ام الجمهوري ثم عاجله بإطلاق النار مباشرة، مما يعزز مصداقية البعد السياسي المناويء للسياسات الحزبية.
ولم تتضح بعد ان قصد المسلح "اغتيال" سكاليز ام توجيه ذخيرته نحو جموع الجمهوريين، حسب الرواية الرسمية. الا ان المسلح استهدف سكاليز بالذات في التشهير به على وسائط التواصل مطلع عام 2015 بالقول ان سكاليز "نائب جمهوري ينبغي ان يمنى بخسارة منصبه، لكن (النخبة السياسية) كافأته بزيادة مرتبه".
وتضيف الاجهزة الأمنية ان المسلح كان من بين الناشطين على وسائط الاتصال الاجتماعي خاصة بين مجموعات مناوئة للحزب الجمهوري، بعضها اتخذ شعار "لننهي عصر الحزب الجمهوري" و"الطريق لجهنم ممهدة بالجمهوريين."
تجدر الاشارة الى ان من بين أبرز المنابر الاعلامية، نيويورك تايمز وشبكة ام أس أن بي سي، حرصت على استبعاد "البعد الروسي" من بين الاتهامات، وفضلت سردية توجهات سياسية مؤيدة للمرشح السابق بيرني ساندرز، اتساقاً مع مساعيها لإضفاء صفة تنافس الحزبين.
اشارت احدى الدراسات الخاصة بالتغطية الاعلامية اجرتها مؤسسة فير الى ان برنامج الشبكة المذكورة وتديره الاعلامية راشيل مادو خصص ازيد من نصف مساحته لترويج "التدخل الروسي" وضلوع ترامب. اما الابعاد الحقيقة كتعبير عن ارهاصات متنامية داخل المجتمع الاميركي للمطالبة بالحقوق فقد تم تجاهلها بالكامل. واتهمت المؤسسة "وسائل الاعلام الرئيسة" المرئية والمقروءة بالتواطؤ مع الحزب الجمهوري للقضاء على برنامج الرعاية الصحية الشامل – اوباما كير "خلف الابواب المغلقة".
المسلح المتهم، جيمس هودج كينسون، اعرب في وسائط التواصل الاجتماعي عن هواجسه من سياسات الرئيس ترامب واتهامه بـ "الخائن" ومؤيد لروسيا؛ ونشر عريضة بعنوان "ترامب دمّر ديموقرطيتنا.. آن الأوان للقضاء على ترامب وصحبه".
الفهم السياسي للمسلح اوضحه في صيغة رسم كاريكاتير نشره يوم 13 الشهر الجاري يلخص فيه انصياع الكونغرس للمؤسسات التجارية الكبرى. وجاء فيه "تعرف على آلية استصدار القوانين.. الشركات تصيغ المشروع وترشي (اعضاء) الكونغرس الى ان يتم المصادقة عليه".
صحيفة نيويورك تايمز سارعت لإلقاء مسؤولية التحريض على القتل على عاتق تيار "اليسار التقدمي،" والذي دعم المرشح ساندرز بقوة وانتظام. شكلت تلك السردية ارضية تناولتها كافة الوسائل الاخرى متفادية بوعي تام ما نقلته عن ترامب في منتصف شهر آذار 2016 مهددا مناوئيه "أحن الى الايام الخوالي.. ونتوق لنقل (المحتجين) على نقالات المرضى".
الدراسة المشار اليها حملت بيانات صادمة لجمهور قراء الصحف ونيويورك تايمز بشكل خاص، جاء فيها ان 41% من المتابعين يطلعون على مساحة ضئيلة بعد قراءة العناوين الرئيسة، وفي الغالب نسبة الذين يقرأون المقال بشكل تام لا تتعدى 11%. في هذا السياق تتضح حجم المخاطر والتهديدات التي يتعرض لها "المسلمون والمهاجرين" بعد كل تغريدة يطلقها الرئيس ترامب.
فوز الرئيس ترامب بالانتخابات رافقه سلسلة احتجاجات شعبية على امتداد الاراضي الاميركية، ابرزها مسيرة مليونية من النساء في اليوم التالي لتنصيبه، طافت شوارع العاصمة الاميركية سالكة الطريق عينه الذي سلكه الموكب الرئاسي في اليوم السابق.
الاحتجاجات واكبت النتائج الانتخابية ايضا بمسيرة كبيرة جرت في اليوم التالي، 9 نوفمبر، في مدينة اوكلاند بولاية كاليفورنيا تخللها اعمال عنف واغلاق للطرق واضرام النيران ببعض الحاويات، وحرق الاعلام الاميركية لساعات متواصلة.
وتشكلت تنظيمات جديدة متعددة مناوئة لآليات الانتخابات، ابرزها كانت مجموعة محسوبة على التيار اليساري المناهض للحروب تحت يافطة "مقاومة،" واكبها تنظيم صغير يميل للعنف تحت اسم "انتيفا،" اختصارا لمصطلح مناهضة الفاشية.
تنامي الاحتجاجات اتخذت ابعادا شعبية وفنية في الآونة الاخيرة، بلغت جرأتها المطالبة بمحاكمة واعدام الرئيس ترامب، كما تجسد في مسرحية "شكبير في الحديقة العامة" في مدينة نيويورك اذ تضمنت مشهدا يجري فيه اغتيال شخصية جوليوس سيزر شبيهة بشخصية ترامب؛ والتي لقيت ترحيبا واسعا بين الاوساط الليبرالية.
المجلة الالكترونية الشهيرة، هافينغتون بوست، طالبت بتقديم الرئيس ترامب للمحاكمة التي "اضحت غير كافية؛ ينبغي على دونالد ترامب مواجهة العدالة" لمعاقبته على ما اقترفته يداه. واضافت ان تطهير اميركا يستدعي محاكمة الرئيس ترامب بتهمة الخيانة والتي – ان ثبتت عليه قانونيا – ينبغي اعدامه.
ماذا بعد؟
دشنت حادثة اطلاق النار على الجمهوريين ولوج مرحلة جديدة من الاحتجاجات وتحدي النخب السياسية، مع الاقرار بعفويتها وفرديتها في معظم الاحيان، الا ان حاجز الخوف قد انكسر.
تلقى مكتب النائبة عن الحزب الجمهوري لولاية نيويورك، كلوديا تيني، رسالة بريد الكترونية طابعها لغة التهديد عقب الحادث تفيد بـ "مقتل واحد وبقي 216.." في اشارة لعدد النواب الجمهوريين الآخرين في مجلس النواب.
وبرر المرسل حدة انفعاله/ا انه كان ينبغي على النائبة "توقع ما حدث. عندما تتعرضون لحياة البشر العاديين من اجل تسديد فاتورة لشريحة الاثرياء، فإن حياتكم تصبح في حكم المُلغاة."
انصار فصائل اليسار، او ما تبقى منه، ركزت في خطابها على سياسات ترامب الفاشلة والانتشار الواسع للاسلحة الفردية التي يعارض الجمهوريون وضع قيود عليها.
بعض اقطاب اليمين السياسي ذهبت لتنبيء بأن الولايات المتحدة تقف على مشارف حرب أهلية. المرشح الرئاسي الأسبق بات بيوكانين، كاتب خطابات الرئيس الاسبق نيكسون، حذر من "سير البلاد المتسارع نحو حرب أهلية."
واضاف بيوكانين ان المرحلة الآنية تتصف "بالصراع غير العنفي، على الرغم مما نشهده من صدامات بين قطبي المؤيدين والمناوئين لترامب والتي تشتد حدتها. أجهزة الشرطة تواجه صعوبة في الفصل بين المتشاجرين."
وحذر "البيت الابيض الذي يتعين عليه الاقرار بأن الصدامات غير مقبلة على نهاية، فهي جولة مواجهة للنهاية، والتي لن يستسلم فيها خصومه بسهولة الا حين رؤية (الرئيس) ماثلا امام القضاء او تفرض عليه الاستقالة يجر ذيال الخيبة."
ولم يستبعد بيوكانين، السياسي المخضرم، لجوء الرئيس ترامب الى "شن حرب عصابات في العاصمة، بتسخير الاسلحة القانونية والسياسية المتوفرة للتخلص من اعدائه داخل حكومته.. وتطهير الدولة العميقة وجَلْد المتعاونين معها من الاعلاميين." وختم متشائما بأن "آن الاوان لإضرام النيران في (قلعة) الباستيل."
كما شاطرته أبرز الابواق الاعلامية المحسوبة على التيارات اليمينية والمحافظة، صحيفة واشنطن تايمز، التي جزمت "ببدء المناوشات التمهيدية للجولة الثانية من الحرب الأهلية الاميركية؛" نافية ان يكون استخدامها للتوصيف كتعبير "مجازي" للتذكير بالحرب الأهلية، بل "بيان يعبر عن حقيقة ما تمر به الولايات المتحدة."
الحيلولة دون اندلاع جولة جديدة من الاضطرابات السياسية، وفق توصيف المؤسسة الاعلامية، يستدعي تضافر الاطراف السياسية "لخفض منسوب الخطاب السياسي، الذي لا نلمس تحقيقه على طرفي التوجه السياسي سواء بين اليسار او اليمين."
اضف تعليق