بينار تريمبلاى
يبدو الجمهور هادئاً في تركيا. قد يُخيَّل إلينا أن هذا الصمت يعني أن الجميع سعداء، بحسب ما تزعمه الإحصاءات الحكومية. من جهة أخرى، قد يراودنا الشكّ بأنه في المنظومة الحالية حيث تُحظَر الاحتجاجات، ويلقى الاعتراض عقاباً فورياً، وتعاني المحاكم من الضعف، ليس هناك تقريباً أي متنفّس ليعبّر الرأي العام من خلاله عن مظالمه. لعل صمت الجمهور يؤشّر إلى استياء وخوف عميقَين، وليس إلى الرضى عن الخدمات الحكومية.
خلال العامَين الماضيين، غالباً ما ردّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان العبارة الآتية، "لقد خُدِعنا"، كوسيلة للتهرّب من المسؤولية. هل يؤشّر غياب مساءلته إلى أنّ تركيا مقبلة على أزمة في الشرعية؟
على مشارف التصويت في الاستفتاء الذي من شأنه أن يمنح أردوغان نفوذاً غير مسبوق، يتكرّر السؤالان الآتيان: "لماذا يضغط أردوغان من أجل إجراء الاستفتاء؟ ما الذي سيحقّقه ولم يتمكّن من القيام به حتى الآن؟" غير أن أحلام أردوغان الرئاسية تتطوّر، وهذا ما تكشفه المقالات التي ينشرها موقع "المونيتور" منذ مطلع العام 2013.
إذاً لماذا هذه العجلة؟ على الرغم من أنه يبدو في الظاهر أن أردوغان يُحكم قبضته على مختلف جوانب الحكم، إنه يفقد السيطرة تدريجاً.
تغرق الأجهزة الحكومية في فوضى بيروقراطية. منذ محاولة الانقلاب في 15 تموز/يوليو، يشنّ "حزب العدالة والتنمية" الحاكم حرباً لتطهير البيروقراطية من أتباع رجل الدين فتح الله غولن الذي يحمّله أردوغان مسؤولية المحاولة الانقلابية. لم يؤدِّ هذا التطهير إلى خسارة مئات آلاف الأشخاص وظائفهم وحسب، من دون أسباب منطقية وواضحة في معظم الأحيان، بل تسبّب أيضاً بترسيخ الاستزلام لـ"حزب العدالة والتنمية".
لقد تراجعت كثيراً ثقة الرأي العام بهذه المؤسسات، وأردوغان مصمّم على عدم التحالف من جديد مع مجموعات شعبية وقوية مثل مجموعة غولن. بدلاً من ذلك، بات الآن بإمكان منظمات دينية مختلفة تشكيل علاقات ثنائية مع الحكومة وتقاسم مناصب مختلفة على هذا الأساس.
يقود هذا الترتيب الجديد إلى نتيجتَين مترابطتين:
أولاً، يصبح الحصول على وظيفة حكومية أسهل إذا كنت تنتمي إلى واحدة من هذه المنظمات الدينية. حكومة أردوغان هي الآن مدينة بالفضل للعديد من المجموعات الصغيرة. قد تكون استراتيجية جيدة في بداية الأمر، لكن مع تصاعد مطالب هذه المجموعات، وتقلُّص الثروة الاقتصادية التي سيتم توزيعها، يدرك أردوغان أنه لن يتمكّن من إرضاء هذه المجموعات المتنافسة لفترة طويلة. وكما أورد موقع "المونيتور" في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، تعلن بعض هذه المجموعات على الملأ أنها في صدد التسلّح تحسّباً لحدوث محاولة انقلابية أخرى.
هذه المناورات الساعية إلى إرساء توازن بين العديد من المجموعات الصغيرة المستزلَمة لدى الحزب الحاكم لا تتسبّب فقط بتضخّم في الوظائف الحكومية إنما تؤدّي أيضاً إلى إضعاف الاقتصاد وتقويض الثقة بمؤسسات الدولة.
يتمتع أردوغان بالفطنة الكافية لاستشعار المتاعب المحتملة التي تلوح في الأفق. لقد وعدَ أنصاره في 18 شباط/فبراير بأنه إذا فاز خيار الـ"نعم" في الاستفتاء في 16 نيسان/أبريل المقبل، سيعود رسمياً وعلى الفور إلى "حزب العدالة والتنمية" – على الرغم من أن الدستور الحالي يفرض عليه أن يكون محايداً. يُختصَر الوضع بما يأتي: إما تحب أردوغان وتصفّق له وإما تنتقده وتكرهه. ليست هناك مناطق رمادية.
النتيجة الثانية لحالة الفوضى هذه في ظل قانون الطوارئ تتمثّل في أزمة الشرعية العميقة وغياب سيادة القانون. على سبيل المثال، نرى أعداداً كبيرة من الفنّانين والأكاديميين والصحافيين والسياسيين يُساقون إلى الحجز. وقد أصبحت مداهمات الشرطة والتوقيفات وفرض حظر على الأشخاص لمنعهم من مغادرة البلاد مسألة روتينية. وتتّبع كلها نمطاً معيناً: التنافر بين الأجهزة البيروقراطية، والخلل المتكرر في التواصل بين الأجهزة المختلفة. مثالٌ على ذلك اعتُقِل إدريس بالوكن، وهو نائب عن "حزب الشعوب الديمقراطي" في تشرين الثاني/نوفمبر ثم أخلي سبيله في كانون الثاني/يناير، ليُصار إلى توقيفه من جديد في شباط/فبراير.
قال محامي دفاع بارز من اسطنبول لموقع "المونيتور": "في معظم الحالات، عندما نتكلّم مع المدّعين العامين، يقولون لنا إنهم ليسوا واثقين تماماً مما هو مطلوب منهم. يُسِرّ لنا مسؤولون بيروقراطيون كبار أنهم يعرفون أن موكّلينا على حق، ولا يدرون ما هي الأسباب وراء حملة المطاردة هذه. إلا أن هناك تضارباً في المصالح والأولويات بين الأجهزة المختلفة، ما يتسبّب بمزيد من الارتباك وباضطهاد الأبرياء وتحويلهم إلى ضحايا. هناك حتى قضايا وُجِّهَت فيها تهمٌ إلى أشخاص توفّوا منذ زمن بعيد. أصبح الشواذ هو المعيار. في نهاية اليوم، أجد نفسي محاولِاً تهدئة عناصر الشرطة والمدّعين العامين الذين يرزحون تحت وطأة عبء عاطفي شديد، لكنهم يستمرّون في خدمة منظومة يعلمون أنها تُمنى بالفشل".
الفوضى عارمة إلى درجة أنه في إحدى القضايا التي يمثل فيها قدري غورسل، كاتب العمود في موقع "المونيتور"، والعديد من الصحافيين المرموقين الآخرين، بصفة مدّعى عليهم، المدّعي مراد إنعام هو نفسه مدّعى عليه في قضية أخرى أمام المحاكم بتهمة الانتماء إلى حركة غولن.
حتى إنه بات روتيناً يومياً في تركيا أن يوجّه صحافيون شديدو الولاء لـ"حزب العدالة والتنمية" تهديدات علنية إلى شبكات وصحافيين آخرين مؤيّدين للحزب بتوقيفهم على خلفية مقالاتهم. لقد ولّدت حكومة أردوغان، في إطار سعيها إلى إنهاء الدولة العميقة، أجهزة حكومية مجزّأة تتنافس في ما بينها على حساب المصلحة العامة. يُظهِر ذلك أيضاً لماذا يُعتقَل الأشخاص، ثم يُفرَج عنهم، ليُصار مجدداً إلى توقيفهم بعد فترة قصيرة في التهم نفسها.
الوقت يداهم أردوغان. منذ أصبح رئيساً للبلاد في العام 2014، يتصرّف بطريقة تتعارض مع الدستور الحالي زاعِماً أنه لا يمكن حصره بمجرد منصب رمزي، بعدما انتُخِب بالتصويت الشعبي. حتّامَ تستطيع حكومة أردوغان أن تستمر في العمل على هذا المنوال مع التدهور السريع في الاقتصاد؟ يتداولون هذا السؤال همساً وبوتيرة متكررة في أنقرة. في حديث مسرَّب من العام 2014، يبدو أن إفكان آلا، الذي كان آنذاك كبير مستشاري أردوغان، طلب من بيروقراطي رفيع المستوى استخدام كل الوسائل الضرورية لتحقيق أهدافه مطمئناً إياه إلى أنه سيتم وضع قوانين لتشريع ممارساته. لقد أصبحت هذه الذهنية المعيار السائد، وفي كل أسبوع تقريباً، يتم إقرار قواعد وتنظيمات جديدة.
ليست التعديلات الـ18 في الاستفتاء ترفاً، بل خطوة أولى ضرورية للحفاظ على حكم أردوغان.
يشنّ "حزب العدالة والتنمية" حملة علنية ناشطة لتشجيع الناخبين على التصويت بـ"نعم" في الاستفتاء. في كل يوم، يخبرون الناخبين عن أحد التأثيرات الجانبية للديمقراطية. فعلى سبيل المثال، في 22 شباط/فبراير، حاول القيّمون على حساب أردوغان الرسمي عبر "تويتر" أن يشرحوا لماذا يُلحق فصل السلطات الأذى بالسياسة التركية. في نظر أردوغان، الضوابط والتوازنات، والمداولات السياسية هي السبب في الأزمة الاقتصادية والفوضى السياسية. وفي 26 شباط/فبراير أيضاً، قال رئيس الوزراء بن علي يلدريم، في أحد التجمّعات، إن المعارضين يشتكون من أن فوز الـ"نعم" في الاستفتاء سيؤدّي إلى قيام رجل واحد بفرض سيطرته الكاملة على السلطة.
ردّ بن يلدريم متسائلاً: "وكيف يُفترَض أن تسير الأمور؟" قبل أن يُضيف: "بالطبع سيكون حكم الرجل الواحد".
لا عجب في الانتشار الواسع الذي حققه مقطع الفيديو الذي نُشِر في 24 شباط/فبراير الماضي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ويظهر فيه وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو يقوم بجولة على إحدى الأسواق، ويتبادل أطراف الحديث مع الزبائن والباعة. يشتكي بائعٌ متقدّم في السن من الضائقة المادية والارتفاع الشديد في الأسعار. يبتعد تشاووش أوغلو ومرافقوه عندما يحتدم النقاش. فيخاطبه البائع قائلاً: "لا يمكنك أن تذهب من دون أن تجيبني. عليك أـن تجيبني". لكن الوزير امتنع عن الرد.
لم تعد الحكومة التركية تخضع للمساءلة على ممارساتها منذ وقت طويل. لا بد من طرح السؤال المقلق: ماذا ينوي أردوغان أن يفعل في حال عدم الموافقة على التعديلات؟
اضف تعليق