q

"فاجأ" الرئيس ترامب خصومه بخطاب سياسي ونبرة متوازنة لم يعهدها، امام جلسة مشتركة لمجلسي الكونغرس، منتهزا الفرصة للقفز على ازمات وتسريبات استخباراتية الطابع تلاحق طواقمه السياسية والاستشارية. واعتقد للوهلة الاولى ان اختياره عسكريا رفيع المستوى كمستشاره للأمن القومي، الجنرال ماكماستر، قد يكسبه بعض الوقت الثمين لتحقيق اجندته المستندة الى شعاراته الانتخابية والاقصائية.

تشكل شبه اجماع ايجابي حول مضمون خطابه "التصالحي،" وغير المألوف لترامب الذي يستمتع بإذلال منافسيه وخصومه وحتى مؤيديه ان لزم الأمر. ولم تدم الفرحة والمناخ الايجابي سوى ثمانية عشرة ساعة، اذ ما لبثت المؤسسات الاعلامية الرئيسة بتفجير "قنبلة سياسية" استهدفت وزير العدل الجديد، جيف سشينز، بنبش سجل تحركاته السياسية للدلالة على حجبه معلومات "هامة" وعدم افصاحه عن لقاءات عقدها مع السفير الروسي لدى واشنطن خلال الحملة الرئاسية، اثناء شهاداته امام زملائه اعضاء مجلس الشيوخ.

امام هذه اللوحة المليئة بالتناقضات والمتغيرات السريعة ينبغي التحلي بهدوء التوجه وموضوعية التحليل للكشف عن كنه ما تختزنه النخب السياسية والاستخباراتية الاميركية من تدابير، واستهدافها المستمر لشخص الرئيس الاميركي بتقييد حركته. بل الارجح تطويق الرئيس ترامب بسيل متدفق من التحقيقات واتساع دائرة المتهمين والمستهدفين، بعضها جوهرية وغالبيتها ثانوية لذر الرماد في العيون وإلحاق الضرر بشخص ترامب. اضافة لذلك، الاطلالة على مضمون الخطاب الرئاسي وما رمى اليه وما قد يستقرأ منه للتوجهات المستقبلية.

الصراع المفتوح في المرحلة الراهنة يعيد بقوة الى الاذهان الارهاصات الاجتماعية التي اجتاحت المجتمع الاميركي ابان عقد الستينيات من القرن الماضي، على خلفية مناهضة واسعة للعدوان الاميركي على فيتنام ودول اخرى مجاورة. فالأزمات آنذاك انطبق عليها وصف "أزمة تستولد أخرى،" كما جاء في كراس "حرائق البرايري" لمجموعة يسارية فاعلة آنذاك – طلاب من أجل مجتمع ديموقراطي، وَذَرْ اندرغراوند.

الاضطرابات الاجتماعية المتجددة تدل على "مكامن ضعف خطيرة ومميتة في صلب النظام السياسي." وما نحن بصدده في عصر ترامب يستعيد تفاقم صراع الاجنحة المختلفة داخل المؤسسة الحاكمة مضاف اليها مجموعة ينقصها الخبرة والحنكة السياسية من طاقم "استشاري" يحيط بالرئيس تجمعه التوجهات اليمينية والعنصرية وتشجيعها لنموذج اقتصادي يضمن سيطرة رأس المال المصرفي على الحياة اليومية، وتركيز الثروة بين ايدي القلة من كبار الاثرياء.

حصار ترامب

بعيدا عن سيل التسريبات المغرضة، حافظ ترامب وفريقه على تشخيص ازمة استهدافه بعزم قيادات الحزب الديموقراطي، لا سيما الرئيس اوباما، عدم اتاحة فرصة هدوء كافية لتنفيذ مهامه الرئاسية. كثير من المراقبين أهمل الادعاء نظرا لشخصنة المدعي.

كما "فاجأت" يومية نيويورك تايمز، 1 آذار، القراء بسرد مقتضب منسوب للرئيس اوباما قبل نهاية ولايته يحث فيه "الاجهزة الاستخباراتية المختلفة" على تقصي ونشر معلومات مرتبطة بالاتصالات التي اجريت بين حملة ترامب الانتخابية والجانب الروسي "بغية اعتراض اي محاولة من ترامب لتعديل السياسات العدائية المرسومة ضد موسكو" التي ارستها ادارة اوباما.

عنوان الصحيفة كان كاشفا ومثيرا "سارعت ادارة اوباما لحفظ واستبقاء المعلومات الاستخباراتية الخاصة بقرصنة روسيا للانتخابات،" موضحة ان اجهزة استخبارات "بريطانية وهولندية" قدمت معلومات للجانب الاميركي حول عقد لقاءات جرت في مدن اوروبية بين "شخصيات مقربة من الرئيس الروسي بوتين واعوان الرئيس المنتخب ترامب ..؛" وذلك بالرغم من اقرار الاجهزة الحكومية الاميركية بمشروعية اتصالات تجري بين فريق سياسي قادم ومسؤولي حكومات اجنبية.

واضافت الصحيفة ان من بين اهداف قرار الرئيس اوباما كان تأهيل الاجهزة الاستخباراتية الاميركية، 17 جهازا، بمعلومات باستطاعتها التهديد باستخدامها وابتزاز اي نوايا تشذ عن سياق المسارات "العدائية" القائمة.

تجدر الاشارة الى عزم اقطاب الحزب الديموقراطي النافذ في مجلسي الكونغرس تشكيل لجان تحقيق متعددة تحت ستار "التحقيق في طبيعة اتصالات ترامب واعوانه المقربين مع ممثلين رسميين عن الجانب الروسي. الأمر الذي يعيد الى الاذهان اجواء فضيحة "ووترغيت" التي اسفرت في نهاية المطاف عن تنحي الرئيس الاسبق نيكسون تحت وطأة الضغوط ومحاصرته بتصريحاته المتناقضة.

في خانة الرضى والاطراء، أعرب عدد غير قليل من خصوم ترامب عن ارتياحهم للهجة التصالحية، او هكذا ظنوا لبرهة قصيرة، وما ظهر منها من ميول تشير الى عودته لحضن المؤسسة الرسمية والتماهي مع خطابها الى حد ما.

مدير وكالة الاستخبارات المركزية الاسبق بالوكالة، جون ماكلاغلين، اعتبر نغمة ترامب "لم تكن كئيبة مثل خطاب تنصيبه، كما لم تكن مثيرة للاستنهاض بشكل مقنع." واضاف ان مضمون الخطاب لم يشذ عما اعتدنا عليه من جملة شعارات تحض على الشعور بالقومية.

اما مدير الموازنة في عهد الرئيس الاسبق ريغان، ديفيد ستوكمان، فقد اعرب عن ضيق ذرعه من "سياسات" ترامب قائلا لشبكة فوكس نيوز، 28 شباط، ان مشروع ميزانية ترامب "لا يستوفي الشروط" المطلوبة. واكد على معارضته الشديدة لعزم ترامب تخصيص "54 مليار دولار اضافي لميزانية البنتاغون .. نحن في عوض عن تلك الزيادة خاصة وان ميزانية الدفاع الراهنة تفوق عشرة اضعاف ما تنفقه روسيا على شؤون الدفاع. كما اننا لسنا بحاجة لتخصيص مبلغ 6 تريليون دولار للإنفاق العسكري للعقد القادم لملاحقة الصين التي لا تعرف وجهتها المقبلة."

يشار الى ان ميزانية البنتاغون المقررة للعام الجاري تبلغ نحو 600 مليار دولار. رئيس لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، جون ماكين، قدم "كتابا ابيض" للكونغرس مطلع العام الجاري يطالب فيه تحقيق زيادة في ميزانية الدفاع تبلغ نحو 91 مليار دولار – ضعف الزيادة المقترحة من ترامب تقريبا."

حذر ستوكمان كخبير اقتصادي "متميز" من أزمة هائلة في عهد ترامب، ورسم صورة قاتمة للاقتصاد الاميركي والنظام الرأسمالي برمته في الاشهر المقبلة قائلا ".. سنشهد ازمة عويصة لرفع سقف الدين العام هذا الصيف كما لم نشهدها من قبل. هم (صناع القرار) استنفذوا كافة ما توفر من مدخرات مالية صافية خلفها الرئيس اوباما وادارته قبل الرحيل لسبب ما." واوضح ان الرئيس ترامب "لا يصغي ابدا لنصائح الخبراء ولم يتعلم شيئا، بل يمضي في اطلاق التصريحات السخيفة."

خطاب نمطي

اتسم خطاب ترامب بعناصر الاثارة البلاغية وقسوة اللهجة الموجهة للخصوم، والاشادة ببعض الافراد المقربين المدعويين لحضور الخطاب، اسوة بما سبقه من الرؤساء. بيد ان العلامة المميزة هذه المرة هو مثول رئيس اثخنته الجراح منذ الايام الاولى لولايته وقدم تنازلات "قاسية" لخصومه، وبدى في حلة رئاسية زاهية. الامر الذي حدى بخصومه في شبكة سي ان ان للتلفزة الاقرار بأنه "منذ تلك اللحظة اضحى رئيسا للولايات المتحدة."

وساد الانطباع "الايجابي" لسويعات قليلة عقب الخطاب، ودلت استطلاعات الرأي الفورية على ترحيب نحو 75% من الاميركيين بلهجة الخطاب الجديدة، بل ان بعض خصومه الديموقراطيين ضموا اصواتهم لفريق الحزب الجمهوري اشادة بترامب الذي اظهر "قدرته الرئاسية؛" وذهب انصاره في الحزب الجمهوري الى وصفه "بالموحد" الضامن لنسيج المجتمع الاميركي "وبرامجه للنهوض الاقتصادي، ومكافحة الارهاب والجريمة، وتعديل برنامج الرعاية الصحية الشامل."

كما اجمع الخصوم والمؤيدون على السواء على سلاسة الخطاب المكتوب وحسن الالقاء، ميزتين لا يتحلى بهما الرئيس ترامب مفضلا الارتجال والنرجسية. وسرت انباء من داخل طاقم ترامب بأن اللهجة "الجديدة" كانت من صنع وتأثير كريمته ايفانكا، لدورها في تشذيب بنود خطاب تناولت قضايا الصحة الخاصة بالمرأة.

احد عناصر "قوة" ترامب، في نظر الاميركيين، هو موقفه المتشدد من "الارهاب" الدولي بكل تلاوينه؛ وهو الذي دشن ولايته الرئاسية بالمصادقة على شن غارة ضد تنظيم القاعدة في الاراضي اليمنية، 28 كانون2 الماضي، ادت الى مصرع جندي اميركي من وحدة الضفادع البشرية، ويليام اوينز، وجرح ستة جنود آخرين؛ وعدد "غير محدد من المدنيين اليمنيين."

القيادة العسكرية الاميركية بررت العملية بان عنصر المفاجأة بقي تحت سيطرتها، بيد انها "لم تضع في الحسبان انضمام كافة مواطني المدينة (المستهدفة) لحمل السلاح وقتال" الاميركيين. وكما كان متوقعا من ترامب، سعى للتنصل من المسؤولية قائلا ان العملية "كان مخطط لها قبل استلامي مهام المنصب."

ونقلت نشرة ديلي بيست، 1 آذار الجاري، عن عزم الرئيس ترامب مواصلة شن الغارات " وتفويض قادة البنتاغون بمهام قرار التصدي والتنفيذ .." اتساقا مع وعوده الانتخابية بالتصرف كرئيس ادارة شركة وتكليف آخرين تنفيذ المهام المطلوبة. الأمر الذي يهيء وزير الدفاع جيمس ماتيس لشن هجمات متى واين يراها ضرورية وباستقلالية تامة، حتى في مناطق بعيدة لا تدرجها الولايات المتحدة ضمن خانة العمليات العسكرية؛ .. تتضمن استخدام طائرات الدرونز المسيرة، وشن غارات ضد مواقع للارهابيين، او في مهام لتحرير رهائن."

من بين المحطات الهامة في خطاب ترامب كان تراجعه عن تعهد الرئيس الاسبق جون كنيدي، مطلع الستينيات من القرن الماضي، الذي اوضح "تكفل الولايات المتحدة باعباء الدفاع عن الديموقراطية حول العالم." اما ترامب فقد اعطى الاولوية للحفاظ على المصالح الاميركية وتراجع الالتزامات الدولية الى مرتبة ادنى.

في عصر ترامب، الاولويات البارزة تنحصر في "الحرب على الارهاب؛ وتأمين حدود البلاد من تدفق الوافدين .. وحماية بلادنا من الارهاب الاسلامي المتشدد." اصراره على استخدام ذلك التوصيف يؤشر بوضوح على استمرار نفوذ مستشاره الخاص ستيف بانون (ولو الى حين) على حساب نصائح مستشاره للأمن القومي، الجنرال ماكماستر، الذي حذر بدوره من ذلك التوصيف الذي "يصب في خدمة اجندة العدو ويهدد بإقصاء جل اعداد المسلمين" المناهضين للارهاب.

بالمقابل، كان لافتا اطلالته على ايران باقتضاب ومر عليها مرور الكرام باستعادة قراره السابق "انزال عقوبات اضافية على مؤسسات وافراد يؤيدون برنامج ايران للصواريخ الباليستية، وتجديد الالتزام بتحالفنا غير القبل للانفصام مع دولة اسرائيل."

لافت ايضا كان قفزه عن المسألة السورية وتجاهلها باستثناء اشارته الضمنية الى الزاوية الانسانية التي تقتضي "انشاء الظروف المناسبة لتمكين المشردين العودة لمناطقهم بسلام .."

كلمة اخيرة

وعود ترامب المتناثرة وبرامجه الطموحة، لا سيما في زيادة الانفاق العسكري الاميركي لمستويات غير مسبوقة، مرهونة بقدرته على تحقيق تعاون خصومه الديموقراطيين.

يأخذ العديد من المراقبين على قرار الحزب الديموقراطي ترشيح حاكم ولاية كنتاكي السابق، ستيفن بيشير، القاء خطاب الرد على خطاب ترامب، كما يقتضي العرف السياسي عند الحزبين.

اوساط الحزب الديموقراطي اعربت عن عدم رضاها من اختيار سياسي متقاعد تبوأ مهمة الرد وكأن قادة الحزب يعربون بذلك عن عدم اكتراث لما سيترتب عليها من تداعيات، عوضا عن ايلاء المهمة لشخصية بارزة او لتهيؤ احدهم الظهور على المسرح الوطني. بل فسرها البعض بأن قادة الحزب لا يتوفر لديهم النية الجادة للرد على خطاب ترامب.

عثرات قادة الحزب الديموقراطي، في عصر ترامب، تعزز الاعتقاد بان الحزب لم يتغلب على ازماته الداخلية وصراع الاجنحة بعد هزيمته في الانتخابات الرئاسية، خاصة بين تيار يمثله المرشح السابق بيرني ساندرز ومؤسسة الحزب التقليدية – جناحي الرئيس اوباما والمرشحة كلينتون على السواء. وجاءت انتخابات رئيس اللجنة المركزية للحزب الديموقراطي، الاسبوع الماضي، ترجمة حية على هزيمة تيار ساندرز امام خصمه الثنائي: اوباما – كلينتون.

في ظل غياب اجندة وقيادة فاعلة للحزب الديموقراطي، يمضي ترامب وحزبه الجمهوري قدما في تنفيذ برامجه الداخلية في الانقضاض على "دولة الرفاهية الاجتماعية،" واقتطاع برامج لها جذور تاريخية لصالح ميزانيات الدفاع والأمن. بل سيعزز من الانطباعات الاولية التي ارساها في خطابه والتحلي "بثياب الاداء الرئاسي."

كما يواظب ترامب على ترويج مبالغاته عبر "تويتر،" كوسيلة تحريضية ضد الخصوم، أحدثها اتهامه الرئيس السابق اوباما بإصدار اوامره القيام بالتنصت على مكالمات ترامب الهاتفية – نيويورك تايمز، 4 آذار.

* نشرة التقرير الأسبوعي لمراكز الابحاث الأميركية

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق