منذ بدء التكوين البشري وبناء المجتمعات الإنسانية على مر العصور، كان للمعلم الدور البارز في بناء الإنسان، وأول من وضع مكانة وأهمية للمعلم في المجتمع الإسلامي، نبينا الكريم محمد (ص)، بقرار ربما لم يفهمه البعض، عندما عرض على الأسرى الكفار الذين لديهم القدرة على الكتابة والقراءة إطلاق سراحهم وكسب حريتهم بشرط أن يعلم كل واحد منهم عشرة من المؤمنين القراءة والكتابة، وبهذا القرار يكون (ص) اول من وضع مكانة وأهمية للمعلم في المجتمع الإسلامي، مدركا ان التعلم والتعليم هو روح الإسلام حيث لا يرتفع إلا بمنازل المعلمين.
ليبقى المعلم هو المنارة والشعلة المتوهجة والقدوة للآخرين حتى يومنا هذا، ليس لدينا فحسب، وإنما في كل شعوب العالم، ففي الصين مثلا، ينحني الناس للمعلم إجلالا واحتراما أينما حل، حتى وان ركب الباص! أو حين يدخل في أي مكان عام، حيث يجد طقوس الاحترام من الجميع، بالإضافة الى هذا التقدير المعنوي الكبير، فإن المعلم محترم من حيث الجانب المعنوي أيضا، إذ يتقاضى في المعلم في الصين أعلى راتب في مؤسسات الدولة.
فما بال مجتمعنا العراقي اليوم ونحن نرى تدني هيبة المعلم ومكانته بينهم؟، واين ذهب الاحترام والاجلال الذي كان يتمتع به المعلم؟.
وما هي الأسباب الأخلاقية أو الحقيقية التي تقف وراء عدم احترام من (كاد أن يكون رسولا) ونعني به المعلم، ولا يكتفي المجتمع والدولة بإهمال المعلم وإظهار عدم الاحترام له، بل هناك ظاهرة جديدة تفوق حالة عدم الاحترام، ونعني بها، تصاعد حالات الاعتداء المعنوي والجسدي التي بدأ يتلقاها بعض المعلمين من قبل ذوي الطلاب وتناقلتها وسائل الإعلام المختلفة مؤخرا في إشارة قوية الى أننا نعيش اليوم في غابة لا يحكمها قانون ولا توجد فيها قيم وأعراف.
عن هذه الظاهرة التقت (شبكة النبأ المعلوماتية) عددا من الأشخاص المعنيين أكثر من غيرهم بهذه القضية كي تستطلع آرائهم حول أسبابها وكيفية معالجتها وكل ما يتعلق بها وما يستجد فيها.
الباحثة الاجتماعية وهيبة عبد الجبار تقول: لو رجعنا الى سبعينات وثمانينات القرن الماضي لوجدنا ان هيبة المعلم ومكانته محفوظة من قبل الطلاب وأهلهم وكذلك من لدن الدولة، لكن بدأ عدم الاحترام يظهر بعد فرض الحصار وما جلبه معه من ظروف معيشية صعبة كالعوز، والفقر، وانهيار قيمة العملة العراقية، وإهمال الحكومة لهذه الشريحة المهمة، ماديا ومعنويا، حيث جعل ذلك من المعلم يعاني من حالة العوز المادي المستمر، فالراتب الذي يتقاضاه لا يكفيه سوى ايام قليلة مما دفع بعض المعلمين لأخذ الرشاوى وابتزاز الطلبة خصوصا المتمكنين ماديا في سبيل إعطائهم درجات عالية وما شابه من محاولات الاستفادة المادية لتعويض قلة الراتب.
بالإضافة الى ذلك اضطرار اغلب المعلمين الى العمل في مهن ثانوية لا تناسبهم أو لا ترتقي الى مستواهم المهني والثقافي، وكذلك إهمال العملية التربوية وعدم التركيز الصحيح على دروسهم بسبب نفسية المعلم المنهكة من ضنك العيش والعمل أكثر من طاقة الإنسان، فكل هذا سبب اهتزازا كبيرا لصورة المعلم المحترمة في نظر المجتمع.
وبعد تغيير الحكم وسقوط الطاغية تحسن المستوى المعيشي نوعا ما للمعلم وللموظف بصورة عامة، لكن ظهرت مشاكل جديدة كالانفلات الأمني وضعف السلطة والحرب على داعش وغيرها الكثير من المعضلات والإشكالات الاجتماعية والعملية والنفسية، التي أثَّرت بدورها سلبا على الواقع الدراسي سواء المدرسين او الطلاب على حد سواء، وليس مستبعدا أن تخلق مثل هذه الظروف ظواهر اجتماعية غريبة ومعيبة كظاهرة تعدي ذوي الطلبة على المعلمين، لسببين: أولا فقدان هيبة المعلم في فترة الحصار. وثانيا أما يكون المعلمون محتمين تحت مظلة عشائرهم، او مسنودين من جهات متنفذة تمتلك النفوذ والسلطة والمال.
الاستاذ (محمد غياض معاون في ثانوية للبنين) له رأي آخر قال فيه: لقد فتحت وزارة التربية الباب على مصراعيه لشكاوى الطلاب وذويهم وإغلاقها أمام منتسبيها، وهو قرار من مجموعة القرارات غير المدروسة التي أُتخذت من قبل الوزراء غير الكفوئين الذين تم تعيينهم حسب المحاصصة الحزبية، وكذلك عدم إقرار قانون حماية المعلم، إذ على الرغم من وصوله الى قبة البرلمان لكنه لم يقر حتى يومنا هذا، كونه يحمل في إحدى فقراته مخصصات مالية تشمل الكادر التدريسي!، وبهذا تبقى شريحة المعلمين من دون قانون صارم يحميها ويمنع الانتهاكات والتجاوزات التي يواجهها المعلمون من الطلبة او ذويهم كي يستردوا حقهم الكامل من المعتدين.
بينما المعلمة (ن) تنتسب الى إحدى المدارس الابتدائية، فقد بينت السبب بقولها: لقد أسهمت وسائل الإعلام في تشجيع بعض النفوس الضعيفة والجهلاء بحقوق الإنسان وموظفي الدولة لنشرها الأخبار السلبية المتكررة عن المعلمين، وإهمال الأخبار الايجابية وعدم التركيز على دور المعلم والتشجيع على احترامه وهيبته، وهذا الأمر ساعد على تفاقم الجانب السلبي كهذه الظاهرة.
أما السيدة أزهار علي مدربة في التنمية البشرية فتقول عن هذه الظاهرة: إن قيام التربية على الأسس الصحيحة والأخلاق الحسنة هي أكثر ما يردع الإنسان عن ارتكاب الأخطاء او التجاوز على الآخرين، وبعدها يأتي احترامه للقوانين وهذا مناط بمدى معرفته للقوانين والإيمان بها ثم تطبيقها.
ومشكلة الفرد العراقي انه يتصرف وفق القوانين العشائرية والأعراف والتقاليد أكثر من التزامه بالقوانين السارية التي تنظم حركة وأنشطة المجتمع، فـ (النهوة والحشم والفصل...... إلخ) هي ما يحفظها ويطبقها في حياته أكثر من القوانين الدستورية التي تحفظ حقوقه وحقوق غيره والتي يجهلها اغلبنا، ومنهم أولئك الذين بإمكانهم أخذ حقوقهم بطرق سلمية وقانونية وبشكل عادل، لكنهم يعتمدون على التهديدات وعضلات أجسادهم حين يشعرون بالظلم او عدم القدرة على التفاهم مع اي شخص، حتى وان كان موظفا في الدولة كالمعلم.. معتمدين بعدها على شيوخ عشائرهم والكبار منهم لفض الخلاف وفق الأعراف العشائرية.
عليه ربما تكون هذه الظاهرة المسيئة للمجتمع والمعلم والطالب على حد سواء، إحدى إفرازات المرحلة الجديدة التي يحاول العراقيون أن يتجاوزوها بسلام وبأقل الخسائر، ولعل ذلك يستدعي التعاون بين الجميع مع أهمية حضور الحكمة لدى الجميع، واعتماد الحلول المناسبة التي تحفظ للمعلم مكانته، وللطالب منزلته أيضا، فالتعاون على إيجاد الحلول المناسبة ممكن اذا ما سعى الى ذلك عقلاء القوم وحكماؤه.
اضف تعليق