جزء لا يتجزأ من مجتمعنا ولا يحق لاحد مطلقا ان يلغي او ينكر تواجدهم بيننا، رغم نظرات العطف تارة ونظرات النقص تارة اخرى، فهم يعيشون بيننا، يتنفسون هواءنا، كبروا وبقى حلم والديهم ان يروهم بأفضل حال، ورغم ما افتقدوه ما زالت لهم لمساتهم المبهرة التي يعجز المتعافون عن فعلها، لكن مجتمعنا وللأسف يوجد به من لا يتقبلهم مطلقا، ليصل لحد السخرية منهم، والانتقاص من ذاتهم وعقلياتهم، اطفال مرض التوحد الذين ينعتهم معظم الناس بالمجانين، نجدهم اليوم قد تجاوزوا تلك المرحلة بفضل الله ورعاية مركز الحسين عليه السلام للتوحد.
(شبكة النبأ المعلوماتية) بحثت في هذا الموضوع، واستقصت ما يتعلق بتوحد الاطفال، والتقت عددا من المعنيين بهذه المشكلة الصحية النفسية الاجتماعية، والهدف من ذلك وضع هذا المرض تحت الضوء لكي يتعرف عليه أولياء الامور من الآباء والامهات، حتى يجنبوا أطفالهم ويلاته.
معاناة الأهالي
تقول ام منتظر: اكتمل عمر ابني سنتين ولم يتكلم اية كلمة، وبسبب انشغالي وانغماس والده بالعمل لم نكترث له واستبعدنا اصابة طفلنا بهذا المرض، وبعد متابعتي له في حركة لعبه المتواصلة وهي (الترفيف) قررنا عرضه على الطبيب، حيث اكد لنا انه مصاب بمرض طيف التوحد.
من هنا دخل الرعب قلوبنا ودائما اشعر اني السبب والمذنبة الوحيدة لانشغالي عنه وتركه ساعات طوال امام التلفاز، ليتفرج على المحطات الكارتونية مما جعله يقلدهم في سلوكياتهم، وبعد فترة من الزمن علمت بوجود المركز، فسارعت بتسجيله والتحاقه به، وبعد ما عاينه الاختصاصي النفسي اكد انه مصاب بمرض طيف التوحد المتوسط وانه سيتماثل للشفاء ان واضب على الالتزام بتواجده بالمركز، انقضت سنة وقد تقدم بمرحلة العلاج وامتنع عن حركة الرفرفة بذراعيه كليا واصبح يفهم ما نقوله ويستمع الينا ونوجهه ايضا، حتى يتمكن من التأقلم مع المجتمع، ففي السابق لم يكن يستجيب لنا ويفعل ما يرغب به هو فقط، وقد تعلم بعض الكلمات الانكليزية واصبح اجتماعيا أكثر، بعد ما كان انطوائيا.
واكدت ام منتظر ان ابنها تجاوز مرحلة كبيرة من المرض والفضل يعود بعد الله الى مركز الحسين للتوحد .
ام زين العابدين.. غرقت بدموع عينيها وقد رافقتها ابتسامة خفيفة لتروي لنا حالة ابنها قبل حضوره الى المركز. تقول: بلغ زين العابدين 3 سنوات وكبرت معه حالة الدوران المستمر دون توقف، والجري في اركان البيت المتواصل دون سبب وكثيرا ما تعرضت للكلام الجارح من قبل الاقارب حتى اسرة زوجي الذين ينعتونه بالمجنون.
وبعد عرضه على الطبيب المختص اخبرني بأنه مصاب بمرض التوحد، ولانه كثير الحركة دون توقف خصوصا حركة الدوران اذ يستمر بها لساعات طوال كتب له دواء، اقراص مهدئة لم تغير من طباعة، سوى انه ادمن على النوم، ثم علمت بوجود هذا المركز فباشرت بتسجيله، واكدت ام زين العابدين على انها استطاعت ان تخلصه من حركة الدوران المستمر بفضل الدروس التي تلقاها من معلمة السلوك التطبيقي، واستجابته للمعالجة من خلال الجلسات العلاجيه التي يتلقاها في المركز، حتى انه اصبح يجلس على الكرسي ويتفرج على التلفاز، ففي السابق لم يكن يكترث حتى لمناداتي له، لدرجة اني انطويت في البيت بسبب نظرات الناس لي وكلام الغير ولعدم سيطرتي عليه.
الآن وبعد انقضاء ثلاثة اشهر تقدم كثيرا عن السابق في سلوكياته، وقد حضرت اليوم الى المركز ليتلقى بعض الدروس من قبل الباحثة الاجتماعية، حول كيفية مساعدته على النطق. واعربت أم زين العابدين عن سعادتها لتماثل إبنها للشفاء .
ام علي: لا يسعني القول غير ان هذا المركز أدى رسالة انسانية لا تقدر بثمن، ابني علي المرتضى محمد يبلغ من العمر 7 سنوات، كنت قبل هذه الفترة اعاني كثيرا بسبب مرضه الذي لم اهتدي لمعرفته او حتى معالجته، وبعد عناء طويل علمت بوجود هذا المركز، سافرت مع زوجي متوجهة الى كربلاء من قضاء (الصويرة) قاصدةً المركز حيث شخَّص الطبيب المختص حالته، بأنه مصاب بتوحد شديد وهي حالة سلوك عدواني وهستريا لدرجة انه يضرب نفسه ويضرب الاخرين، اضافةً الى سلوك انسحابي يسحب نفسه تفاعليا اجتماعيا من المحيط الخارجي، وبعد جلسات العلاج بالسلوك من قبل معلمته، استجاب علي المرتضى للعلاج وقد تقدم بتحسن حالته وتخطى مرحلة الضرب والصراخ والتكسير وقد انتقلنا من الصويرة الى كربلاء حتى نستكمل علاجه هنا، لعدم وجود مركز بهذه الامكانيات في مدينتنا، وبعد انقضاء اربعة شهور استطاع علي المرتضى الانضباط بسلوكه والكتابة، ثم دخل دورة تعليمية اخرى وهي كيفية التعامل والتعايش مع الغير دون عدوانية.
اجتاز علي المرتضى مرحلة المرض وشفي تماما بعد ستة شهور من مكوثه في المعهد، بفضل الله ورعاية الكادر التدريسي، عدنا الى مدينتنا الصويرة وعاد علي المرتضى بصحة جيدة وقد التحق بالمدرسة ليواصل حياته بشكل طبيعي بعدما كان المجتمع يرفضه رفضا قاطعا .
هوايات مكبوتة
دعاء عبد الكريم قاسم اخصائية السلوك التطبيقي التحليلي قالت: ان مرض التوحد تكون له ميزة وخاصية في الغالب تكمن داخل كل طفل مصاب بهذا المرض، وهي هواية مكبوتة ونحن بدورنا نسعى لتنميتها، فقد جالست مديرة المركز لاكتشاف بعض الاطفال المصابين بهذا المرض، لديهم هوايات اللعب على الكمبيوتر، من هنا انطلقت بعد موافقة الادارة باعطاء دروس بالحاسوب على برامج الورد والنطق بالكلمات الانكليزية وحتى الاحرف، وكانت الاستجابة سريعة من قبلهم لسرعة البديهية التي لديهم لان افكارهم غضة وغير مشوشة، فاكتشافنا للأشياء التي تستهويهم ويحبونها، وتلبيتها لهم تعد خطوة ايجابيه لإخراجهم من عالم الانطواء الذي يقبعون به ليتفاعلوا مع عالم جديد هم يحبونه، لكنه مكبوت بداخلهم حتى يساعدهم على التواصل مع المجتمع دون تردد.
الباحثة الاجتماعية راوية حسن مخيف تقول: ان التوحد يصعب على المرء اكتشافه، لكن عدم تكلم الطفل بعمر السنتين وعدم الانتباه يثير الريبة، وسرعان ما تتفاقم هذه الحالة وتتطور حتى تتحول الى توحد وهو عدم التأقلم مع العالم المحيط به، واحيانا رفضه الكلام او يكون عدوانيا او كثير الحركة، فيتصور البعض انه يعاني من تخلف فكري، وهم لا يعلمون ان ابنهم مصاب بمرض التوحد، من هنا يجب ان تتابع الامهات والاباء ايضا اطفالهم للمسارعة بعلاجه قبل ان يخسروه الى الابد .
وواصلت راوية كلامها: إن اول مراحل العلاج هي تعليمه السلوك والجلوس على الطعام او في المجتمع او حتى التفرج على التلفاز، وكيفية اللعب وتتوقف هذه المرحلة على استيعاب الطفل لها، ثم يأتي تطبيق الخطوات الاخرى منها ، فأجالسهم سويا ليلعبوا معا حتى يستطيعوا التواصل الاجتماعي، وهناك خرطوم لتفريغ الطاقة للحالات الخاصة للأطفال الذين يكونون كثيري الحركة، وان كان الطفل يرفض التواصل والانعزال فنحن بدورنا نقنعه ونجبره للعب حتى يستجيب للعلاج، واضافت: انها تقوم بكتابة تعليمات العلاج على قصاصات واعطائها لذويهم ليتابعوا اطفالهم، وهناك من يستجيب ويتابع حالة الطفل ومنهم من لا يتكاتف معنا على إعانة طفله وهذا ما يسبب بعدم تحسن حالته بسرعة، وكأنهم ارسلوه للتخلص منه وهذا حقا ما توصلنا له موخرا. ثم ختمت حديثها: انها تتمنى تعاون الاهل مع المعهد حتى يتمكنوا من ايصالهم الى بر الامان.
ماذا يقول المسؤولون؟
مديرة المعهد زهراء رسول الزويني: ان التوحد او الذاتوتية هو اضطراب يظهر لدى الاطفال قبل السنة الثالثة من العمر ويؤثر على نشأة الطفل، وتطوره بثلاث طرق، اللغة او كيفية التكلم، والمهارات الاجتماعية او كيفية الاستجابة للآخرين، والتواصل معهم، ثمة انواع مختلفة من التوحد او الذاتوتية وتختلف اعراض التوحد من طفل الى اخر، لهذا يطلق عليه طيف التوحد.
واكدت الزويني: انه لايوجد علاج يتعاطاه المصاب بهذا المرض، فالطفل المريض يعيش بقية حياته مع التوحد ولكن التحري عن التوحد في وقت مبكر يسمح بالاستفادة في الكثير من الخيارات العلاجية، ويساهم بتماثله للشفاء، ان بعض المصابين بالتوحد يستطيعون العمل واعالة انفسهم، لكن البعض الاخر يكون في حاجة الى الكثير من المساعدات، ولاسيما اولئك الذين تضررت لديهم العمليات الذهنية او الذكاء او الذين لا قدرة لهم على الكلام والتواصل.
ان نوعية الحياة التي يعيشها الطفل المصاب بالتوحد تتوقف على التشخيص المبكر للتوحد، من الضروري ان تراقب الام طفلها من 24 شهرا حتى ستة اعوام، لمتابعة تصرفاته خشية ان يكون مصابا بهذا المرض. ويتسم بحركات متكررة للأيدي او الاصابع او اللعب بنفس اللعبة، والصعوبة والتكرار في الكلام او يكون صوته غير معبر بالصراخ، او لايعكس اية حالات من الوجدانية او العاطفية.
واضافت الزويني: هناك تنامي لهذا المرض وانتشاره بشكل مفاجئ وخصوصا انه يصيب الذكور اكثر من الاناث، وقالت حسب ما اثبتته بعض الدراسات ان سبب انتشاره في السنوات الاخيرة في العراق، يعود الى عوامل عدة اولها التلوث البيئي الناتج عن مخلفات الحروب وكثرة الانفجارات، فضلا عن اسباب اخرى منها نفسية ووراثية كالزواج المبكر وزواج الاقارب وتناول حبوب منع الحمل وبعض الحبوب التي تتناولها المرأة خلال فترة الحمل، وختمت الزويني: بأنها توجه كلمة اخيرة للاهالي بتجنب عادة الضرب لأطفالهم المصابين بهذا المرض واشارت الى انها تعلم انه من الضغوط التي تعايشها بالذات الام من رفض المجتمع لطفلها وما تتلقاه من كلام جارح احيانا حتى من زوجها، هو من يجعلها تتعامل مع صغيرها بقسوة لا ارادية.
يجب على الزوج والاسرة بكاملها مساندة الام بهذا الامتحان الذي خصهم الله تعالى به وان لا يبدأ الزوج بالتذمر وإهانتها واشعارها بالذنب وحتى تهديدها بالزواج من غيرها، مما يجعل نفسية الام مرهقة واكثر عصبية وحدة، فتسعى لتفريغ كل هذا الكبت والضغوط بأي شيء، وخصوصا ان الطفل يكون صعب الطباع فلا تقوى على تحمله فتضربه ضربا مبرحا، وهذا يضاعف من سوء حالته الصحية كثيرا.
اضف تعليق