لا نقصد من ضرورة التدخل الوصول إلى هذه النتيجة الهدامة والخطيرة بل نبغي إسهام المجتمع المدني بالتعاون مع السلطات العامة في عقلانية المحتوى الرقمي، الذي يتعرض له الشباب ومنع كل ما من شأنه التأثير السلبي عليهم وأبعادهم عن التعرض لبعض المحتويات التي لا تتناسب مع مستوى تفكيرهم ونضجهم العقلي...

يمثل الواقع الرقمي الوسط الخصب الذي يشتمل على كم غير محدد من المعلومات والمعرفة الإنسانية، وتعد المنصات البحثية والمواقع العلمية العنوان الأبرز فيما تقدم بما تحويه من مواضيع وخبرات ومهارات يمكن ان تشكل رصيداً انسانياً يعتد به، ومن مميزات هذه المواقع سهولة الوصول إليها وعدم التقييد بقيود الزمان أو المكان أو أي شكل من أشكال التمييز، كما تشكل قاعدة بيانات بحثية مهمة تستقى منها بعض البيانات العالمية التي يستحيل الحصول عليها في بعض الأحيان حتى من قبل أبناء البلد أو المدينة التي تخصها تلك البيانات.

 وساهمت المنظمات الدولية وفي مقدمتها الأمم المتحدة وأجهزتها المختلفة في تشكيل أو إدارة تلك المحتويات كما أسهم التطور المطرد في وسائل التواصل الاجتماعي إلى انتشار أكبر للبيانات والمعلومات المعرفية بعد ان أخذت أشكالا عصرية تتناسب مع معطيات المعرفة الحالية متمثلة في المقالات والمدونات الشخصية، والصور أو المقاطع الفيديو، والانفوغرافك والخرائط والرسوم البيانية التي تعد وبحق من أفضل طرق التوضيح وبالنتيجة هي تسهيل مهمة المتعلمين بعد ان أزالت بكفاءة حواجز اختلاف اللغة أو التلقي والتفاعل.

ويعرف المحتوى الرقمي بأنه كل ما يتصل بالمصادر العلمية أو البيانية والنتاجات الفكرية التي تمت صياغتها أو تحضيرها ونشرها الكترونياً، ويتضمن المحتوى الرقمي بشكل خاص بيانات يمكن إعدادها أو إرسالها وتخزينها رقمياً، حيث يمكن للأجهزة الإلكترونية التعامل معها وتأدية مهامها بالاعتماد عليها، وان هذا المحتوى من السعة والشمول والقدرة على استيعاب كل مجالات المعرفة، إذ يضم بين جنباته العديد من الميزات البحثية وترتبط جودة هذا المحتوى بمدى دقة وشمول المعلومات وطريقة تقديمها إلى المتلقي بما يسهل معه فهمها أو تفسيرها، ويشار إلى ان المحتوى قد يكون صحفياً أو إعلاميا أو ثقافياً أو علمياً.

 وللقدرة الفائقة للشبكات والوسائط في ضم وعرض محتوى متنوع ظهرت إلى الواجهة بعض المشكلات الاجتماعية والثقافية بسبب ما بات يعرف بالمحتوى الإعلامي أو الثقافي (غير المناسب) حيث يحمل بين ثناياه إساءة للذوق العام أو الآداب العامة، والغالب ان هذا المحتوى يجد صداه بين أوساط المراهقين ويحترفه بعض الأشخاص غير المسؤولين ممن يبحث عن الشهرة أو الفائدة المادية العاجلة على حساب المصلحة العامة، فيسيء إلى العادات والتقاليد والأعراف العراقية أو الإسلامية الراسخة في ضمير الإنسان العراقي.

 لذا تساءل البعض عن التكييف القانوني لهذه السلوكيات وبالعودة إلى بعض ما ورد في قانون العقوبات العراقي النافذ رقم (111) لسنة 1969 المعدل نجد أن المادة (۳۹۹) تنص على وجوب توقيع عقوبة الحبس بحق كل من أغوى ذكر أو أنثى بالفجور أو أغواه لامتهان مهنة الفسق، وقريب من هذا المعنى ما ورد في المادة (401) من قانون العقوبات التي تنص على أن "يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ستة أشهر وبغرامة ....أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من أتى عملاً مخلاً بالحياء" والمادة (403) التي تنص على تجريم كل فعل من شأنه ان يمثل محتوى مسيء، إذ ورد النص على أن "يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على سنتين والغرامة....أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من صنع أو استورد أو صدر أو حاز أو أحرز أو نقل بقصد الاستغلال أو التوزيع كتاباً أو مطبوعات أو كتابات أخرى أو رسوماً أو صوراً أو أفلاماً أو رموزاً أو غير ذلك من الأشياء إذا كانت مخلة بالحياء أو الآداب العامة، ويعاقب بالعقوبة ذاتها كل من أعلن عن شيء من ذلك أو عرضه على أنظار الجمهور أو باعه أو أجره أو عرضه للبيع أو الإيجار ولو بغير علانية وكل من وزعه أو سلمه للتوزيع بأي وسيلة كانت ويعتبر ظرفاً مشدداً إذا ارتكبت الجريمة بقصد إفساد الأخلاق" والأفعال التي تنطوي على ما تقدم تتعارض مع التربية القرآنية للمسلمين ولبني البشر كافة حيث ورد قوله تعالى في محكم الذكر الكريم ((إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ))، وأيضاً قوله تعالى ((لَّا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَن ظُلِمَ ۚ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا)).

 وفي الوقت الذي يكفل الدستور العراقي حرية الرأي والتعبير بكل الوسائل إلا أنه وضع قيوداً الغاية منها صيانة المصالح الأسمى التي تتمثل بالمصلحة العامة حيث ورد بالمادة (17) ما نصه "لكل فرد الحق في الخصوصية الشخصية بما لا يتنافى مع حقوق الآخرين والآداب العامة" وورد في المادة (38) "تكفل الدولة وبما لا يخل بالنظام العام والآداب: حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل، حرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر، حرية الاجتماع والتظاهر السلمي وتنظم بقانون" فالنصوص الدستورية المتقدمة بالغة الوضوح في صيانة الآداب عند ممارسة أي فعل أو التلفظ بأي قول لاسيما تلك التي تتداول في الوسط الرقمي باعتبارها محتوى غير جيد يمكن ان يسيء إلى الأعراف والتقاليد، فما تقدم يتنافى مع (الذوق العام، أو الآداب العامة المتعارف عليها، أو التقاليد الاجتماعية أو الإساءة إلى الموروث الثقافي أو الثوابت الدينية أو الإنسانية) وبالنتيجة يعد ما تقدم فعلاً مخالفاً للقانون مستوجباً الجزاء.

والثابت ان المشرع ينطلق دائماً وأبداً من مصلحة بعدها معتبرة فيحيطها بالحماية القانونية وان جرائم النشر الرقمي التي تتضمن محتوى غير مناسب تتضمن ولاشك عدوان غير مشروع على مصلحة المجتمع المحمية قانوناً، حيث تنهك معايير المجتمع العراقي الأخلاقية وتمثل صناعة من شأنها التغيير السلبي في الثقافة الفردية والاجتماعية لذا هي تمثل خطراً كبيراً على المنظومة الثقافية والحضارية وأن من أهم أسباب انتشار هذه الظواهر:

1- ان صناعتها لا تستلزم إنفاق مبالغ مالية كبيرة بل يمكن الاستعانة بهاتف نقال وعدد محدود من المساعدين.

2- استغلال وسائل التواصل الاجتماعي للترويج أو الاتصال لنشر المادة الإعلامية بين ملايين الناس في غضون مدة وجيزة.

3- ان إدارة المحتوى على المنصات الالكترونية لا يحتاج إلى مهارة معينة بل يتطلب متابعة مستمرة.

4- لا يتطلب تداول المحتوى تدريباً من نوع خاص أو تأهيلاً فنياً أو أكاديمياً معيناً.

وساعد على انتشار مثل هذه المهن العديد من العوامل أهمها:

1- تقنيات الذكاء الاصطناعي، وخوارزميات التواصل الفعال.

2- الشهرة والأموال الوفيرة التي تتولد عن إنتاج أو إدارة هذا المحتوى.

3- تجاهل السلطات العامة لهذه السلوكيات لمدة طويلة في السابق وارتباط بعض ممتهني هذه السلوكيات ببعض السياسيين والمتنفذين ما وفر لهم غطاءً وبيئة مؤاتيه للاستمرار في هذه السلوكيات.

ومن الثابت ان استمرار التغاضي عن هذه الظواهر الخطيرة سيكون سبباً رئيساً للعديد من حالات الانتحار لاسيما بين المراهقين وتمثل المواقع التي تقدم مثل هذا الخطاب في الغالب وسطاً مؤاتياً للترويج أو للاتجار بالمخدرات والجنس وحتى الأعضاء البشرية ما يشكل عامل جذب لعصابات الجريمة المنظمة وغطاء لأنشطتها الإجرامية الهدامة التي تزيد من معاناة المجتمع والفرد، لذا يقع واجباً على السلطات العامة التصدي لها وبكل حزم وقوة امتثالاً لما أمر به الدستور العراقي الذي تنص المادة (29) منه على أن (الأسرة أساس المجتمع، وتحافظ الدولة على كيانها وقيمها الدينية والأخلاقية والوطنية)، لذا يتحتم على الهيئات النظامية المختصة التفكير ملياً بضرورة سن تشريعات وقوانين تواكب التطورات التقنية الحديثة والتركيز على الجهود الوقائية والإجراءات الاحترازية لمنع وقوع الأفراد لاسيما من فئة المراهقين والشباب في براثن الرذيلة والجريمة وبالتالي يكونوا هدفاً للأجهزة الأمنية ومحلاً للعقوبات الجنائية.

ومن الواضح أهمية التذكير بدور الإعلام الوطني المهني الهادف والقادر على التعريف بحقائق الأمور والمخاطر التي تحيق بمثل هذه التصرفات والمألات التي تفضي إليها على ان تكون هذه المجهودات تكاملية وشاملة ووفق رؤية إستراتيجية، فمن نافلة القول إننا بحاجة لإقرار مناهج تربوية وتعليمية عصرية تعرف الشباب بأهمية التمسك بالقيم الأخلاقية والثقافية بوصفها ثوابت إنسانية، وضرورة التسلح الثقافي قبل الولوج في المجتمعات الرقمية، أو البدء باستعمال الخدمات التي تقدمها.

 أضف إلى أهمية التركيز على ربط هذه الفئات الاجتماعية بالواقع من خلال رفد المدن بالنوادي الثقافية والرياضية والترفيهية وإفساح المجال للأنشطة التفاعلية في المدرسة والجامعة، وان للأسرة أيضاً القدرة على التأثير المباشر في سلوك الشاب وتكوينه وطريقة تفكيره فالتربية السليمة هي حجر الزاوية في تكون الشخصية السوية للفرد، وبالنتيجة يكسب المجتمع فرداً إيجابياً، يضاف لما تقدم ضرورة التركيز على مفاهيم التربية الدينية والوطنية الصالحة، وإشراك منظمات المجتمع المدني فيما تقدم.

ولعل هنالك من يشكك في نوايا السلطات العامة وتدخلها الرسمي في تحديد أو إدارة المحتوى الرقمي بما من شأنه ان يحد أو يقيد حرية التعبير عن الرأي ولعل بعض هذا الرأي سليم إذ ان اقتراب السلطات الإدارية أكثر من المحتوى يهدد حرية الرأي والتفكير ويمكن ان يكون أداة قمع بيد السلطة، بيد إننا لا نقصد من ضرورة التدخل الوصول إلى هذه النتيجة الهدامة والخطيرة بل نبغي إسهام المجتمع المدني بالتعاون مع السلطات العامة في عقلانية المحتوى الرقمي، الذي يتعرض له الشباب ومنع كل ما من شأنه التأثير السلبي عليهم وأبعادهم عن التعرض لبعض المحتويات التي لا تتناسب مع مستوى تفكيرهم ونضجهم العقلي، لكي لا يكونوا صيداً سهلاً بيد جهات مغرضة هدفها إفساد الأخلاق وسلب المجتمع الفضيلة، وان تكون تلك المنصات سببا في تعليم الفرد وإكسابه المهارة ووسطاً حراً للنقاش العلمي والحوار الثقافي والحضاري بعيداً عن التعصب أو الانحراف أياً كان صورته أو مظهره لبناء مجتمع وأسرة متماسكة قادرة على التكاتف والتعاون بوجه المصاعب.

..........................................

** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2025

هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...

http://ademrights.org

ademrights@gmail.com

https://twitter.com/ademrights

اضف تعليق