إن إصلاح المشكلات التي يسببها الذكاء الاصطناعي ليس بمثل الحسم في مسألة التشكيل الاجتماعي الأفضل وكيف يمكن للتكنولوجيا أن تساعد في بنائه، كيف ستتمكن سردية ما أو رؤية معينة من الإمساك بالتغييرات، وكذلك الحال بالنسبة إلى تحقيقها أيضاً، فمن شأن الذكاء الاصطناعي والتقنيات الجديدة الأخرى إثارة الذعر، لكنها...
بقلم: ديان كولي
في ظل غياب رؤية مشتركة عن كيفية التحكم بقوى الذكاء الاصطناعي ستبذل المجتمعات قصارى جهدها لمواجهة المخاوف
خلال أشهر قليلة تمدد شبح الذكاء الاصطناعي على العالم، وفي وقت متأخر من عام 2022، أدى إطلاق "شات جي بي تي" الذي يعتبر الأبرز في الموجة الجديدة من نماذج الذكاء الاصطناعي إلى تأجيج المخاوف في شأن التداعيات الكوارثية للتكنولوجيا، وبحسب سرديات متنوعة فقد يؤدي الذكاء الاصطناعي إلى تعزيز سرعة انتشار المعلومات المضللة وقتل الديمقراطية وإلغاء ملايين الوظائف، بل حتى وضع نهاية للجنس البشري. وطغت تلك المخاوف على النقاشات حول الوعود التي تحملها تلك التكنولوجيا، وخلال العقود القليلة الماضية قوبلت التطورات السريعة للتكنولوجيا الرقمية وتقنيات الاتصالات بالترحاب غالباً مع نشوة غير مبررة حيالها.
وأوحت القفزات الحديثة في الذكاء الاصطناعي بأفكار مشوبة بحذر متشكك وواسع النطاق في شأن المسار الذي بات التغيير التكنولوجي منخرطاً فيه، ووضعت الادعاءات الإيجابية [للذكاء الاصطناعي التوليدي] قيد المساءلة من كثيرين ممن أدركوا أن الابتكار قد لا يندرج دوماً ضمن الأمور الحسنة.
لقد ألف الاختصاصيان في الاقتصاد دارون إسموغلو وسايمون جونسون كتاب "السلطة والتقدم، صراعنا طوال 1000 عام على التكنولوجيا والازدهار" Power and Progress: Our Thousand-Year Struggle Over Technology and Prosperity,، قبل إطلاق "شات جي بي تي" والنماذج الاخرى في الذكاء الاصطناعي، وفي ظل الذعر السائد حاضراً حيال الذكاء الاصطناعي يبدو تشديد الكتاب على الحضور الكلي الشامل للتفاؤل بالتقنية وكأنه قطعة آثار تعود لزمن غابر.
وفي المقابل توقع المؤلفان المخاوف السارية الآن، إذ حذرا من أن الذكاء الاصطناعي "أم كل التقنيات غير الملائمة"، وأنحيا باللائمة على الأوليغارشيا الليبرالية بأنها صنعت الأدوات المؤذية للذكاء الاصطناعي التي شرعت بالفعل في إزالة الوظائف الجيدة من العالم، ونبها إلى أن فشل الحكومات الوطنية في محاضرة الضرر الناجم من تلك الأدوات سيؤدي إلى مفاقمة الأشكال المختلفة من التفاوتات في مجتمعاتها. ووفق إسموغلو وجونسون فإنه يتوجب عل الدول إيجاد طرق في التشارك الواسع النطاق للمنافع المتأتية من تلك التطورات التقنية، إذ باتت الدول ملزمة بإيجاد "سياسات حكومية تتضمن رسم إطار مؤسساتي وحوافز، وتعززها سرديات إيجابية بغية تحفيز القطاع الخاص على النأي عن الإفراط في الأتمتة والمراقبة لمصلحة الميل إلى التقنيات الأكثر توافقاً العمال".
وفي سياق نقاشهما عن التحديات الراهنة يراجع الكاتبان أمثلة مستقاة من الـ1000 عام الماضية تتعلق بكيفية تعامل المجتمعات مع التغير التكنولوجي، إذ لم يمثل الابتكار قوة مستقلة وطبيعية يتوجب على الناس التأقلم معها، بل ليس له أن يكون كذلك، وبالأحرى فإن الطريقة التي يفهم بها الناس التقنيات والسرديات التي ينسجونها حول دور الابتكارات الجديدة تسهم في حسم مسار تداعياتها، سواء نحو التفاعلات الإيجابية أو التأثيرات التخريبية، وبمجرد ابتكار تقنيات جديدة وتطويرها وتطبيقها فإنها ستمتلك تأثيرات متباينة على الوظائف والأعمال والمداخيل استناداً إلى مدى استعمالها في خدمة القوى عاملة البشرية أو الاستغناء عنها والحلول بديلاً عنها، ولعل الشيء الأكثر أهمية في اللحظة الراهنة يتمثل في مدى التشارك الواسع في الفوائد الاقتصادية المتولدة من التقدم التقني، ولا يحصل ذلك إلا إذا استطاعت الدولة والمؤسسات الاجتماعية، على غرار النقابات، أن تؤدي دور الوزن المقابل والموازي لقوة السوق التي تحوزها الشركات التكنولوجية، ولا يغدو الناس مستسلمين وبلا حول في مواجهة التكنولوجيا الجديدة إلا إذا أتاح المجتمع حدوث ذلك.
سرديات سيئة ونتائج وخيمة
لطالما غيرت الابتكارات التكنولوجية العالم وبدلته تبديلاً، بدءاً من المحاريث المتطورة في القرون الواسطة ومروراً بآلة حلج القطن والنول الميكانيكي في القرن الـ 19، ووصولاً إلى التقنيات المحوسبة في القرن الـ20، وفي المقابل لم يسر التقدم بسلالة أبداً، وحملت كل موجة من الابتكارات مشكلاتها الخاصة وضيعت أناساً كثيرين.
ويكاد تصور المجتمعات عن دور التقنية أن يتساوى في الأهمية مع التكنولوجيا بذاتها، وتوخياً لأن يسير التغير التقني بصورة مفيدة لأوسع الشرائح الاجتماعية، يجب أن ينبث في المجتمع تصور مشترك عنها، فمثلاً عملت الرؤية المشتركة بصورة عامة على ضرورة الانتقال السريع نسبياً من الوقود الأحفوري إلى الطاقة المتجددة، وعلى تحفيز تسارع الابتكار للبدائل التي تكون في متناول العموم، على غرار الألواح الشمسية الفولطية وأدوات طاقة الرياح.
وفي مسار مغاير قد توصل السرديات السيئة عن التكنولوجيا إلى مخرجات رديئة، فمثلاً نجم إنشاء قناة بنما بين عامي 1903 و1914 عن رؤية متخبطة بصورة مذهلة، ولم يكن ذلك الممر المائي الذي يربط المحيطين الهادئ والأطلسي سوى تصور في دماغ فرديناند دي ليسبس، الديبلوماسي الفرنسي والمطور المكرم لقناة السويس المنجزة عام 1869.
وعلى رغم تطاول زمن شق قناة السويس وموازنتها المبالغ فيها وسوء أدائها بمعايير النقل، إلا أنها غذت حُمى شق الأقنية البحرية خلال الهزيع الأخير من القرن الـ 19، ما يوازي التفاؤل بالتكنولوجيا في تلك الأيام، إضافة إلى أنها درت أرباحاً طائلة على المستثمرين فيها. وبالركوب على تلك الموجة من النجاح صمم دي ليسبس تحقيق حلمه المديد عن شق قناة عبر أميركا الوسطى، وعلى غرار ما حدث مع مخططاته في شأن قناة السويس، نسج دي ليسبس رؤية مؤثرة عن قوة تلك التكنولوجيا في ربط أرجاء العالم ببعضها بعضاً وتعزيز التجارة العالمية.
وفي مسار مغاير جاء تصميم ذلك المشروع على شكل كارثة هندسية رافقها سوء التخطيط والتنفيذ، إضافة إلى الكارثة الإنسانية التي تعرض لها العمال خلال موجة من وباء الحمى الصفراء. [تتمثل الحمى الصفراء بحدوث ارتفاع مفاجئ وحاد في حرارة الجسم يرافقه غثيان وقيء، مع احمرار العينين واصفرار لون الجلد الناجم عن التهاب في الكبد، وتنجم من الإصابة بفيروس ينقله البعوض]. وسرعان ما وضعت "شركة قناة بنما" تحت الحراسة القضائية، وقضى دي ليسبس محاطاً بسمعة رديئة، فكان أشبه بحال ملك العملة المشفرة [سام بنكمان] في أيامنا هذه. [أحيل بنكمان إلى القضاء ثم سجن وصودرت أمواله بعد أن كان ملياردير الاستثمار في تقنيات العملة المشفرة، وصار مثلاً عن السقوط والتحطم]، فلم تكن الرؤية إلا سراباً وقادت دي ليسبس ومستثمريه إلى الهاوية والخراب.
وفي كتابهما يحاجج إسموغلو وجونسون بأنه على غرار التوق إلى شق القنوات البحرية في القرن الـ19، فإنه من الصعب الاطمئنان إلى الرؤية التي تقود صناع الذكاء الاصطناعي ومطوريه والمتمرسين فيه، إذ يقيس أولئك الصنع التقدم التقني بمدى قدرة الآلات على الحلول بديلاً عن البشر، مما يقود المبتكرين إلى صنع منتجات متخصصة في مهمات معينة تؤديها بدلاً من الإنسان، وعلى عكس ذلك يقترح المؤلفان توجيه الجهود والاستثمارات للعمل بوحي من فكرة "الآلات النافعة" بهدف ابتكار تقنيات تساعد البشر في تحقيق أهدافهم.
وكذلك يتقصى جذور الانحياز المسبق في الذكاء الاصطناعي ليكون بديلاً عن البشر لدى العالم البريطاني آلان تورينغ الذي اقترح أن الآلات قد توصف بأنها "تفكر" في حال وصلت آلية عملها المستند إلى معادلات رياضية خوارزمية إلى مرحلة تنتج فيها مخرجات لا يمكن تمييزها عن نظيرتها لدى البشر، وحاجح مؤلفا الكتاب بأن ذلك الأمر [الذي تصوره تورينغ] فتح أفقاً مغرياً قوامه تخيل حدوث "تقدم" نوعي في الحوسبة يسلك مساراً مختلفاً [عن التقدم لدى البشر]، وقد يعرف بأنه يضم ما لا يستطيع البشر فعله، على رغم إحجام المؤلفين عن إعطاء أمثلة على ذلك.
وفي ظل غياب رؤية مشتركة إيجابية عن كيفية التحكم بقوى الذكاء الاصطناعي، فلسوف تبذل المجتمعات قصارى جهدها في التعامل مع القلق والمخاوف المتصلة بتلك التكنولوجيا والتفاوتات التي تولدها ضمن اقتصادات السوق الرأسمالية.
الابتكار واليأس
يتمثل التأثير الأبرز لأي تكنولوجيا كبرى في الطرق التي تغير بها الاقتصاد، وتؤثر في الأعمال والوظائف وتبدل أحوال العيش، ولقد بدلت الابتكارات أحوال الإنتاج ومخرجات الأعمال على غرار ما حصل مع الكهرباء التي أزاحت طاقة البخار، والتلغراف والجرارات السريعة. وفي المقابل فإن من شأن الابتكارات أيضاً أن تدفع أرباب العمل إلى تغيير حجم وتركيبة القوى عاملة لديهم، استناداً إلى ما يحدث حينما يزيدون عدد العمال توخياً لزيادة الأرباح أو تعزيز المخرجات الحدية (التي تقاس بالزيادة في المخرجات التي ترافق زيادة المدخلات)، وإذا تنامى الطلب على السلع فسينظر أرباب العمل بإيجابية إلى تلك التقنية التي عززت الإنتاجية، وحتى إذا حلت التكنولوجيا بديلاً عن بعض العمال فإن العدد الكلي للوظائف قد ينمو، وقد ظهر مثال على ذلك بعد عام 1969 حينما أدخلت ماكينات الصرف الآلي إلى السوق فأدت إلى تقليص عدد من يعملون مباشرة مع الزبائن، لكنها زادت عدد الوظائف الكلي في القطاع البنكي.
وفي المقابل فإذا اقتصر أثر التكنولوجيا على خفض الكلفة وإزالة الأقل مهارة (حينما تحل الوظائف التي تتطلب مهارات مرتفعة بديلاً عن تلك التي لا تقتضي ذلك)، فسيعاني ساعتئذ معظم العمال، وقد ظهرت تلك المخرجات عقب أتمتة قطاع التصنيع بداية من سبعينيات القرن الـ 20، وتزامنت مع ركود واسع وكذلك أسهمت في تقليص حجم القوى عاملة على نطاق واسع في الولايات المتحدة ضمن مجتمعات "حزام الصدأ". [يطلق تعبير حزام الصدأ على الولايات التي ازدهرت المصانع فيها بعد الحرب العالمية الثانية، ومع الأتمتة صرفت أعداد كبيرة من العمال، ومع العولمة نقلت شركات كبرى كثيرة أعمالها ومصانعها إلى بلدان فيها عمالة ماهرة ومتمرسة ومنخفضة الكلفة مثل الصين وفيتنام وباكستان وماليزيا، وترافق ذلك مع تفاقم البطالة وهجرة المصانع من ولايات أميركية كانت تستضيفها على غرار أوهايو وميتشغان وويسكنسن وفرجينيا الغربية وميسوري وإنديانا وإلينوي وبنسلفانيا].
وفي كل حقبة رئيسة من الابتكارات انطلقت مخاوف في شأن تأثيراتها على الوظائف، ففي عام 1960 لاحظ المرشح الديمقراطي للرئاسة آنذاك جون ف. كينيدي أن "الاستبدال المستمر للآلات بالقوى العاملة، وذلك هو تقدم الأتمتة، بات يهدد بالفعل آلاف الوظائف وإزالة مصانع بأكملها، إنه [الاستبدال] ينشر الخوف بين العمال وعائلاتهم".
وقد استمرت تلك المخاوف بالحضور في أدمغة السياسيين، وأثناء الانتخابات الرئاسية عام 1992 تجاوب المرشح الديمقراطي للرئاسة آنذاك بيل كلينتون مع القلق في شأن الأتمتة بأن وعد بإدخال برامج للاحتفاظ بالعمال وتنفيذ استراتيجية لابتكار "قوى العمل الأفضل تعليماً في العالم"، وحذر من أنه في حال عدم حدوث ذلك "فسيطغى على الحياة اليومية الميل إلى خفض الأجور والمنافع، مع زيادة في كلف الرعاية الصحية وتفاقم عدم الأمان الوظيفي".
لقد أحيت الموجة التكنولوجية الراهنة تلك المخاوف، ويقدر البحاثة في شركة "أوبن إيه أي" OpenAI [التي ابتكرت شات جي بي تي] ومؤسسة "أوبن ريسرش" Open Research وجامعة بنسلفانيا، أن حوالي نصف إجمال الوظائف في الولايات المتحدة قد توكل نصف مهماتها إلى الذكاء الاصطناعي، وفي المقابل تثبت التجربة التاريخية أن المخاوف من الاستغناء المكثف عن الوظائف لم تتحقق بصورة فعلية، وبالطبع فعلى العكس من تأكيدات إسموغلو وجونسون أن انتشار الروبوت أدى إلى خفض الوظائف والأجور، يعتقد اقتصاديون بأن الشركات التي تبنت الأتمتة أكثر من غيرها تمكنت في موازاة ذلك من زيادة الوظائف ورفع الأجور.
وكذلك يستمر الخبراء في نقاش تلك الأسئلة وخصوصاً الأبرز من بينها الذي صاغة خبير الاقتصاد ديفيد أوتر بعنوان إحدى مقالاته "لماذا تبقى كل تلك الكثرة من الوظائف؟".
ويأتي الجواب المباشر بأن التكنولوجيا لا تدمر ببساطة الحاجة إلى العمل البشري، بل إنها تغير طبيعة الوظائف في المجتمع وبالتالي تتبدل أنواع العمال الذين يحتاجهم المجتمع، وغالباً ما تخفض الأتمتة مستوى المهارة المطلوبة لأداء المهمات، وتلك ظاهرة أعطت صناعة النسيج في نيوهامشير شكلها وهيئتها خلال القرن الـ 19، وكذلك أدى إدخال الآلات إلى تكوين وظائف جديدة للمهندسين ممن لديهم مهارات عالية وينالون أجوراً مرتفعة، ذلك لأنهم يستطيعون إصلاح الأعطال الطارئة التي تحدث للآلات، إضافة إلى تحسين أدائها، فيما استمر العمال غير المهرة في مرافقة الأعمال التي تؤديها الآلات [حينما لا تعاني الأعطال].
وفي المقابل تنامى الطلب على المنسوجات مع توسع الاقتصاد، وترافق ذلك مع زيادة الوظائف المتاحة، وبالنتيجة تمتع كل العمال في ذلك القطاع برواتب أعلى، وليس الخبراء وحدهم.
إن تلك المقارنات التاريخية على رغم أهميتها قد تخفي الاضطراب الذي يجلبه التغيير التكنولوجي، ولقد تسببت الثورة الصناعية في الفقر والأمراض والبؤس، فيما عملت في الوقت نفسه على تكوين طبقة وسطى واسعة ومزدهرة، وعلى نحو مشابه قد تتسبب الموجة الوشيكة من الأتمتة المعززة بالذكاء الاصطناعي لوظائف العمال والصحافيين والأساتذة وغيرهم في تداعيات غير منظورة وليست في الحسبان، وفي ذلك المضمار لا يقدم إسموغلو وجونسون أية جرعة من التفاؤل إذ كتبا، "إذا اقتنع الجميع بالحاجة إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي فسيستثمر رجال الأعمال في تلك التقنية حتى حينما تتوافر طرق بديلة في تنظيم الإنتاج قد تكون مفيدة أكثر منها".
وبالنتيجة فقد تقود سردية الادعاءات الإيجابية حول الذكاء الاصطناعي ومقولة "السوق"، بمعنى أن مؤسسات الأعمال تتخذ قراراتها بصورة إفرادية، إلى خسارة الوظائف ومفاقمة بؤس الطبقة الوسطى.
ترويض العمالقة
لا نتائج محتمة لتأثيرات الذكاء الاصطناعي، وستتحدد النتائج الاجتماعية للأتمتة [المعززة بذلك الذكاء] وفقاً للاستجابة السياسية المؤسساتية، ويقدم لنا التاريخ بعض الأمثلة المفيدة عن الحلول الممكنة، وفي ذلك السياق تبدو الخبرة مع الثورة الصناعية مفيدة على نحو خاص، فبالاستجابة إلى انتشار مصانع النسيج العاملة بطاقة البخار وأعمال التعدين ونشر خطوط السكك الحديد، وقد آلت كلها إلى إفلات عنان المشكلات الجديدة وفاقمت التفاوتات الكبرى، سعت الدول إلى توسيع وظائفها بصورة دراماتيكية، وقد استهلت ذلك التوسع بصوغ معايير للاتصالات ومأمونية السلع، إضافة إلى توليها تقديم التعليم والمكتبات عامة الممولة من اشتراكات وأثرياء محسنين، ولم تجر الأمور بما يوازي بساطة القول بأن التكنولوجيا أعطت التقدم، بل استلزم ذلك تكوين أوزان اجتماعية في مقابل قوة القطاع الخاص بهدف محاولة ضمان التوزع الواسع لفوائد الابتكارات.
وفي إطار متصل يلقي إسموغلو وجونسون إضاءات على آليات مماثلة أدت دورها خلال منتصف القرن الـ 20، فبعد الحرب العالمية الثانية زاد الطلب وتوسعت اقتصادات أوروبا وشمال أميركا، وتولت النقابات الحسنة التنظيم دور الحراسة الفاعلة لمصالح المنتمين إليها، وقد توسع التعليم الرسمي وانتشر على نطاق واسع، واعتبرت الحكومات أن الإشراف على الأسواق يشكل أحد مسؤولياتها الرئيسة، وبالتالي تبنت دول غربية كثيرة التخطيط الاقتصادي الذي يشمل أن تتولى وكالات حكومية صوغ التوجه الاستراتيجي الذي يجب أن يتبعه المستثمرون ورجال الأعمال، إضافة إلى تنظيم البنية التحتية الضرورية والخدمات العامة.
واستطراداً، تتجسد العقدة الأساس في التوصل إلى صوغ تصور عن كيفية تحقيق مخرجات من ذلك النوع [الذي حدث بعد الحرب العالمية الثانية] خلال القرن الحالي، إذ تتطلب بعض الوصفات التي يقدمها إسموغلو وجونسون إقدام حكومة الولايات المتحدة على أفعال لا يرجح أنها ستنهض بها، وكذلك ليست بالواقعية اقتراحات الكاتبين في شأن الارتقاء بمستوى تنفيذ القوانين التي تحمي المنافسة وتمنع ظهور الاحتكارات، وفي دول عدة من بينها الولايات المتحدة تبدت الأولوية التي يحوزها منع الاندماجات والاستحواذات الكبرى.
في أبريل (نيسان) 2023 تحركت "سلطة الأسواق والتنافس" كي تمنع "مايكروسوفت" من الاستحواذ على "اكتيفيجين بليزارد" Activision Blizzard، مما حدا بنائب رئيس "مايكروسوفت" [في 2015] ثم رئيسها [منذ 2022] براد سميث إلى إعلان مضخم مفاده أن ذلك القرار يشكل "اليوم الأشد قتامة" للبلاد خلال العقود الأربعة الماضية، وشكل ذلك الإعلان رد فعل زائد وجدير بالدراسة من قبل شركات عملاقة في التكنولوجيا اعتادت أن تحصل دوماً على ما ترغب فيه، ومن المتوقع أن يركز المشرعون على قضايا تقنية متقدمة على غرار كيفية الربط بين المنتجات الرقمية والاعتماد والترابط المتبادلين بين الشبكات والأنظمة الرقمية، إضافة إلى المعايير التي تتحكم بتشغيل تلك التقنيات. إن الأحكام القانونية التي ستصدر حول تلك القضايا القانونية ستؤدي دوراً حاسماً في تقرير مدى قدرة الشركات الصاعدة على اختراق السوق، وكذلك فإن الصراع حول تلك القضايا التأسيسية سيكشف كثيراً من أمدية القوة التي تحوزها شركات "وادي السيليكون".
كذلك لا يتوقع من الحكومات أن تحاول تفكيك الشركات التكنولوجية العملاقة، لكن جهودها في السيطرة على تلك العملاقة سيتولد منها تداعيات فائقة الأهمية، وعلى نحو مماثل يناقش إسموغلو وجونسون مجموعة من الحلول المألوفة للتعافي من التفاوتات التي تنجم من التقدم التكنولوجي، بما في ذلك الدخل العمومي الأساس الذي من شأنه تقديم دخل مضمون للمواطنين جميعهم بمن فيهم الذين تُفقدهم الأتمتة أعمالهم، ويعارض إسموغلو وجونسون مثل ذلك البرنامج، مشيرين بصورة صائبة إلى أن الدخل المتواضع المضمون أقل شأناً من القدرة على الوصول إلى المنافع الاجتماعية عامة مثل شبكات المواصلات العامة أو نظام التعليم العام. وبصورة عامة يفضل إسموغلو وجونسون الاستجابات الجماعية في حماية الضمان الاجتماعي على غرار تشجيع قوة النقابات في شركات مثل "أمازون" وستاربكس"، ودعمهما في حملاتهما من أجل تحسين الأجور وأوضاع العمل والوظائف، وكذلك يقترح الكاتبان مجموعة من برامج التدريبي الجديدة إضافة إلى عمليات مشاركة واسعة تهدف إلى نقاش وتحديد كيفية نهوض منظمات المجتمع المدني بشؤون تنظيم التكنولوجيات.
وفي سياق متصل يفضل إسموغلو وجونسون سن تشريعات تتعلق بالخصوصية لتحمي الأفراد من تقنيات المراقبة، وتشهد معظم البلدان نقاشات نشطة عن كيفية التحكم بالبيانات لكن مع تسويات معقدة، ومثلاً هل يشكل جمع بيانات عن موقع الشخص بواسطة تطبيقات الخرائط جزءاً من أعمال المراقبة؟ أو أنه يمثل ببساطة ضرورة تقنية؟
كذلك يتضح أن استعمال الناس للتطبيقات مرتبط بموافقتهم على سيطرة الشركات على بياناتهم، لكن ضمان شرط موافقة الشخص على استعمال بياناته من قبل كل تطبيق على حدة يلقي بأعباء فائضة على المستخدمين ومصممي المنصات الرقمية معاً، ولذا يصوغ المؤلفان أسئلة عن حوكمة البيانات عبر شروط "ملكية" تلك البيانات، لكن ذلك الأمر يتجاهل واقع أن البيانات المفيدة لها تتصل بالعلاقات بين الأفراد، بمعنى أنها تنجم عن التفاعل بين الفرد والتطبيقات المختلفة، وبالتالي فإنها ليست فردية بصورة صارمة.
وعلى غرار كتب كثيرة تناولت وعود وأخطار التقنيات الرقمية، جاءت قائمة المقترحات في ختام الكتاب مثقلة بالتفاصيل الزائدة وصعبة الاستيعاب، ومن أجل تحسين المستوى المعيشي للقوى العاملة والميل بسلوك شركات التكنولوجيا نحو الاعتدال، يقترح الكاتبان فرض ضريبة على الدعاية الرقمية وإطلاق مخططات تدريبية متنوعة وإرساء شبكة أمان اجتماعية متينة وفرض ضريبة على الثروة، وفي المقابل لا تتماسك قائمة مقترحات الكاتبين بدرجة تكفي لصوغ رؤية إيجابية في ضمان أن تفضي التقنيات الرقمية إلى ازدهار مشترك، وينطبق ذلك التقييم للقائمة حتى لو نفذت في ظل الانقسام في المناخات السياسية داخل معظم الديمقراطيات الغربية.
إن إصلاح المشكلات التي يسببها الذكاء الاصطناعي ليس بمثل الحسم في مسألة التشكيل الاجتماعي الأفضل وكيف يمكن للتكنولوجيا أن تساعد في بنائه، ويخلص كتاب "السلطة والتقدم" إلى إعطاء مثال حول كيفية تبدل النظرة إلى مرضى الإيدز (فيروس المناعة البشري) أثناء حقبة التسعينيات من القرن الـ 20، حينما أسهم نشطاء في تغيير القيم الاجتماعية وحثوا على تقديم تمويل مكثف للبحوث الطبية [عن ذلك المرض وفيروسه].
وتشكل تلك السابقة مثالاً مشجعاً، لكن تصعب رؤية التوازي بين المعركة ضد مشكلة محددة بدقة مثل علاج الإيدز وبين الذعر الواسع والمنتشر والمتغلغل في شأن الذكاء الاصطناعي والتقنيات الرقمية، الذي يثير مجموعة متنوعة من الأسئلة المتعلقة بالسياسة عامة.
واستكمالاً فمن المهم مراقبة كيف ستتمكن سردية ما أو رؤية معينة من الإمساك بالتغييرات التي يرغب الكاتبان في رؤيتها، وكذلك الحال بالنسبة إلى تحقيقها أيضاً، فمن شأن الذكاء الاصطناعي والتقنيات الجديدة الأخرى إثارة الذعر، لكنها لم تلهم حتى الآن بكثير من التفكير الواضح، ويستدعي ذلك إلى الذهن الملاحظة المعروفة للمفكر الماركسي أنطونيو غرامشي "العالم القديم يموت، ويكافح الجديد كي يولد، وفي سياق ذلك التخالط تظهر مجموعة كبيرة من الأعراض المرضية"، وبالفعل ظهر عدد كبير من تلك الأعراض، لكن لم يتبد حتى الآن إن كنا سنفتقد العالم القديم بمجرد زواله.
اضف تعليق