q
كان ذلك عام 2040، أذكر الأمر تمامًا، أصبحت غرسات الدماغ، المتصلة بالذكاء الاصطناعي، إلزاميةً للجميع، ولم يعد الناس راضين عن قدراتهم المعرفية الطبيعية. استخدمت الغرسات بدايةً للأغراض الطبية، لاستعادة الوظائف البيولوجية المفقودة وعلاج الأمراض. لكن، لم يمض وقت طويل قبل أن تُستخدم في تطوير القدرات أيضًا...

«كان ذلك عام 2040، أذكر الأمر تمامًا، أصبحت غرسات الدماغ، المتصلة بالذكاء الاصطناعي، إلزاميةً للجميع، ولم يعد الناس راضين عن قدراتهم المعرفية الطبيعية. استخدمت الغرسات بدايةً للأغراض الطبية، لاستعادة الوظائف البيولوجية المفقودة وعلاج الأمراض. لكن، لم يمض وقت طويل قبل أن تُستخدم في تطوير القدرات أيضًا. كان الأشخاص الذين لديهم غرسات دماغية قادرين على معالجة المعلومات بشكل أسرع، واستطاعوا التحكم في الحواسيب من خلال التفكير فقط. انبهر العالم بهذه التقنية، وجرى الترحيب بها على أنها التطور التالي للبشرية. والحكومة، الحريصة على مواكبة بقية العالم، جعلتها إلزامية لكل المواطنين. لكن، مع وجود قوة عظمى يأتي خطر عظيم. لم تكن الغرسات خاليةً من العيوب. عانى بعض الأشخاص من آثار جانبية تتراوح بين الانزعاج الخفيف إلى الذهان الكامل. وظهر من استخدموا قدراتهم المعزّزة لأغراض شائنة. يمكن للقراصنة الآن الوصول إلى أفكار الناس وذكرياتهم والتلاعب بها، ولم يعد الخط الفاصل بين الواقع والوهم واضحًا. الحكومة، التي لم تعد تكتفي بمجرد مراقبة مواطنيها، بدأت تتلاعب بأفكارهم وأفعالهم أيضًا. أصبحت حرية الفكر شيئًا من الماضي، وأولئك الذين قاوموا الغرسات نُبذوا من المجتمع. مع مرور السنين، أصبحت غرسات الدماغ أكثر تقدمًا، حتى أصبح من المستحيل في النهاية التمييز بين الفكر الطبيعي والفكر المزروع من خلالها. وفي النهاية، دفعت الإنسانية ثمن سعيها إلى الكمال».

هذه القصة الديستوبية المتخيلة تبدو خارجةً من فيلم خيال علمي كئيب، لكنها ليست مجرد نزوة في خيال كاتب هذه السطور. ففي ظل حماس عدد من الشركات الكبرى المتزايد اليوم اتجاه تكنولوجيا غرسات الدماغ، هل يمكن أن نستبعد بالمطلق وصولنا لواقع شبيه بالموصوف أعلاه؟

غرسات الدماغ، المعروفة أيضًا باسم الغرسات العصبية، هي أجهزة تُزرع في الدماغ البشري لاستعادة أو تحسين الوظيفة المعرفية لدى الأفراد الذين يعانون من اضطرابات أو إصابات عصبية. ويحاول منتجو تلك التقنية استخدامها لعلاج مجموعة واسعة من الحالات، بما في ذلك مرض باركنسون والصرع وحتى الاكتئاب.

إحدى الشركات الرائدة في مجال تقنية زراعة الدماغ، «نورالينك» (Neuralink)، وهي شركة تكنولوجيا عصبية أسسها الملياردير الجنوب إفريقي، إيلون ماسك، تعمل على تطوير جهاز يكون صلة الوصل بين الدماغ والحاسوب، يدعى BCI اختصارًا لـ(Brain Computer Interface)، لمعالجة مجموعة متنوعة من اضطرابات الدماغ، فضلًا عن تعزيز القدرات المعرفية لدى الأفراد الأصحاء. وأعلنت الشركة نهاية العام الماضي، أنها ستبدأ مرحلة التجارب على البشر بعد ستة أشهر.

عمليًا، في عالم اليوم، الإنسان مرتبط بالآلة، فالهاتف الذكي في أيدي البشر بات امتدادًا لذكرياتهم وعملهم وأغلب أمور حياتهم اليومية. لكن المشكلة، أقله بالنسبة لمنتجي الغرسات الدماغية، هي أن الربط بين الهاتف الذكي والبشر يتم عبر وسائل تقليدية، أي بواسطة الأصابع للنقر على الشاشة، والعيون للرؤية، مما يمنع الإنسان من الاتصال بالآلة بشكل سريع. من هنا، جاءت فكرة ربط الخلايا العصبية في الدماغ بالآلة مباشرةً عبر وسيط سريع، وهو الغرسات الدماغية.

تتضمن التكنولوجيا التي طورتها «نورالينك» زرع أقطاب كهربائية صغيرة في الدماغ تدعى (Threads)، توضع على مقربة من الخلايا العصبية، وتوصل بشريحة كمبيوتر صغيرة يجري إلصاقها في الفجوة التي أُحدثت في الجمجمة من أجل الوصول إلى الخلايا العصبية. ثم توصل هذه الشريحة بجهاز كمبيوتر بشكل لاسلكي، مما يسمح للفرد أن يتحكم بالأجهزة الخارجية باستخدام أفكاره.

أحد الأهداف الأساسية لشركة «نورالينك» هو السماح للمصابين بالشلل باستعادة الحركة والتحكم في أجسادهم، بالإضافة إلى علاج أمراض أخرى. لكن من يتابع إيلون ماسك يعلم يقينًا أن الأمر لن ينتهي هنا. فقد قال الرجل المثير للجدل عدة مرات، كان أبرزها خلال بودكاست جو روغان الشهير، إنه يريد من «نورالينك» أن تدمج البشر مع الذكاء الاصطناعي، لأنه لا يرى طريقة أخرى يمكن للبشر من خلالها التفوق أو البقاء كأسياد لهذا الكوكب في حال ظهور الذكاء الاصطناعي الكامل، الذي يطلق عليه الذكاء الاصطناعي المتفوق (Super Artificial Intelligence).

بكلمات ماسك، ستستطيع تقنية غرسات الدماغ بعد سنوات أن تنقل المعرفة والخبرة إلى البشر بآلية تشبه التحميل من الإنترنت.

لدى التكنولوجيا التي طورتها «نورالينك» القدرة على إحداث ثورة في علاج الاضطرابات والإصابات العصبية، لكنها تثير أيضًا أسئلة أخلاقية. فهناك مخاوف من أن يؤدي استخدام غرسات الدماغ إلى خلق «سايبورغ»، أي أفراد هم نصف بشر ونصف آلة. وهناك أيضًا مخاوف بشأن إمكانية استخدام غرسات الدماغ لتعزيز القدرات المعرفية للأصحاء، مما يؤدي إلى الانقسام بين من يمكنهم تحمل تكلفة تحسين أدمغتهم ومن لا يستطيعون، أي ظهور طبقية جديدة في المجتمع؛ بشر معدلون وبشر عاديّون.

ليست «نورالينك» وحدها في هذا المجال، فهناك شركات أخرى تعمل على تقنية غرسات الدماغ وتقدم طرقًا بديلة. إحدى هذه الشركات شركة «بارادروميكس» (Paradromics)، التي تعمل على تطوير غرسة دماغية تسمح بالاتصال ذي النطاق الترددي العالي بين الدماغ والكمبيوتر. وعلى عكس «نورالينك»، التي تستخدم أقطابًا كهربائية صغيرة لتسجيل نشاط الدماغ، تستخدم «بارادروميكس» طريقة مختلفة تسمى «التصوير المقطعي للتماسك البصري الدقيق». تسمح هذه التقنية بالقياس غير الجراحي لنشاط الدماغ، فضلًا عن تحفيز مناطق معينة من الدماغ. تتمثل إحدى المزايا الرئيسية لتقنية «بارادروميكس» في أنها غير جراحية، مما يعني أنها لا تتطلب ثقب الجمجمة، وهذا يقلل من خطر العدوى والمضاعفات الأخرى المرتبطة بجراحة الدماغ.

هناك أيضًا شركة «سينكرون» (Synchron) التي بدأت التجارب البشرية في نيسان الماضي على ستة مرضى يستخدمون جهازًا لمحاولة مساعدة الأشخاص المصابين بالشلل. كذلك انتهت شركة «بلاك روك نيوروتيك» (BlackRock Neurotech) من بعض تلك التجارب، وتعمل اليوم على تسجيل متطوعين آخرين لتجارب إضافية.

تتبع شركة «كيرنيل» (Kernel)، وهي شركة تكنولوجيا أعصاب أسسها باري جونسون، نهجًا آخر لزراعة غرسات الدماغ. حيث تعمل على تطوير غرسة دماغية تهدف إلى تعزيز الوظيفة الإدراكية لدى الأفراد الأصحاء، عن طريق تحفيز إنتاج خلايا عصبية جديدة. صُممت الغرسة بحيث توضع على سطح الدماغ بدلًا من زرعها داخله، وهو ما يقلل من خطر حدوث مضاعفات مرتبطة بالجراحة. لكن إحدى العيوب المحتملة لتقنية «كيرنيل» تتمثل في أنها لا تزال في المراحل الأولى من التطوير ولم تختبر بعد على البشر. كما أن هناك نقصًا في الأبحاث حول الآثار طويلة المدى لتحفيز إنتاج خلايا عصبية جديدة في الدماغ.

قُدِّر حجم سوق غرسات الدماغ العالمية بنحو 4.6 مليار دولار أمريكي في عام 2020، ومن المتوقع أن ينمو بمعدل نمو سنوي يبلغ 9.1% من عام 2021 إلى عام 2028، مدفوعًا بزيادة حالات الإصابة بالحالات العصبية مثل مرض باركنسون والزهايمر والصرع، إلى جانب زيادة الوعي فيما يتعلق بـ«فوائد» غرسات الدماغ.

في بداية شهر كانون الأول من العام الماضي، وخلال حدث لشركة «نورالينك»، كشف ماسك عن منتَجين رئيسيين، بالإضافة إلى جهاز واجهة الدماغ والحاسوب (BCI)، إذ تعمل الشركة على تطوير غرسات يمكنها الدخول إلى النخاع الشوكي، ومن المحتمل أن تعيد الحركة لشخص يعاني من الشلل، بالإضافة إلى غرسة تهدف إلى تحسين أو استعادة الرؤية البشرية. وقال ماسك يومها: «بقدر ما قد يبدو ذلك معجزة، نحن على ثقة بأن من الممكن استعادة وظائف الجسم بالكامل لشخص يعاني من قطع في النخاع الشوكي». و«حتى لو لم يسبق لهم الرؤية من قبل، فنحن واثقون من أنهم سيرون».

بالتوازي مع ذلك، تعمل «نورالينك» على تطوير روبوت يحدث ثقبًا صغيرًا في جمجمة الشخص ويزرع الأسلاك. ووفقًا لماسك، سارت المناقشات الجارية مع إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) بشكل جيد بما يكفي لكي تحدد الشركة هدفًا لتجاربها البشرية الأولى في غضون الأشهر الستة المقبلة.

ما يميز «نورالينك» أن جهازها لا يقرأ الأوامر العصبية التي تجري بين خلايا الدماغ فقط، بل باستطاعته أن يكتب فيها. وبكلمات ماسك، ستستطيع هذه التقنية بعد سنوات أن تنقل المعرفة والخبرة إلى البشر بآلية تشبه التحميل من الإنترنت. يشبه الأمر عندما طلبت شخصية ترينيتي في فيلم «ماتركس» أن يحمّل لها برنامج يمكنها من قيادة طائرة مروحية.

إن تقنية الغرسات الدماغية قديمة نسبيًا، لكن دخول ماسك إلى هذا العالم أوقد النار تحت هذه التكنولوجيا. المدهش في الرجل هو محبة عدد كبير من الناس له، فهم يرون فيه شخصية توني ستارك، أو الرجل الحديدي الآتي من عالم مارفل للكوميكس، رغم معاداته لنقابات العمال، ودوره في الانقلاب على إيفو موراليس، الرئيس السابق لبوليفيا الغنية بالليثيوم، العنصر الضروري لصناعة بطاريات سيارات «تسلا» الكهربائية. جزء كبير من هؤلاء رفضوا أخذ لقاحات كورونا بسبب نظريات مؤامرة تتعلق بوجود شرائح إلكترونية في اللقاح. وهؤلاء أنفسهم، يقول لهم ماسك حرفيًا «سأزرع شريحة إلكترونية في أدمغتكم»، فيهللون.

إيلون ماسك هو مجرد آلة تجني المال دون توقف. ومن هذا المنظور، لا يمكن إنكار احتمال تحوّل تكنولوجيا غرسات الدماغ التي يطورها من تقنية طال انتظارها من أجل المرضى، إلى تقنية تمكن الأفراد الأكثر ثراءً من تطوير وتحسين قدراتهم بشكل يفوق بني جنسهم، لنصبح أمام ديستوبيا تنتج طبقة جديدة من «النخبة المعزّزة بالآلة»، القادرة على التفوق على نظرائها في كل جانب من جوانب الحياة تقريبًا. وعندها ربما، قد تصبح القصة أعلاه واقعًا بائسًا.

اضف تعليق