منذ إطلاق «تشات جي بي تي» أواخر العام الماضي، بدا وكأن كل شيء تغيّر. تخيلوا عالمًا حيث يمكن للتكنولوجيا أن تفهم وتتواصل مع البشر تمامًا مثل أي شخص. روبوت دردشة يتبادل أطراف الحديث فيما يبدو ليلة تجمّع الرفاق فيها يتحدثون. هو تطور تخريبي (Disruptive) للقواعد القديمة...
منذ إطلاق «تشات جي بي تي» أواخر العام الماضي، بدا وكأن كل شيء تغيّر. تخيلوا عالمًا حيث يمكن للتكنولوجيا أن تفهم وتتواصل مع البشر تمامًا مثل أي شخص. روبوت دردشة يتبادل أطراف الحديث فيما يبدو ليلة تجمّع الرفاق فيها يتحدثون. هو تطور تخريبي (Disruptive) للقواعد القديمة. وأول الأمور التي وصلت إليها رياح التغيير هي وظائف الاقتصاد المعرفي، أو ما يطلق عليه وظائف الياقات البيضاء. فما هو الذكاء الاصطناعي، وماذا يعني أن تستلم الآلة وظيفة تتطلب شيئًا من الفهم والمعرفة والمتابعة، وهل انتهى فعلًا دور البشر في العمل؟
«تشات جي بي تي» هو أحدث مولود تضعه شركة (OpenAI) الأميركية. وهذه الشركة أنشأها عام 2015 سام ألتمن وإيلون ماسك. في البداية كانت (OpenAI) منظمة لا تبغي الربح، تريد أن تصنع ذكاءً اصطناعيًا يكون في متناول كل البشر؛ ذكاء اصطناعي للناس، يحميهم من الذكاء الاصطناعي الآخر، الذي سيتفوق عليهم. في عام 2018، حدث تطور مثير في الأحداث: إيلون ماسك يخرج كليًا من المنظمة، وبعد انتظاره سنة، أعلن في العام 2019 أنه خرج بسبب عدم توافقه مع اتجاهات (OpenAI)، وأن طابع العمل هناك بات سريًا ومريبًا.
بعد ذلك، أعلنت (OpenAI) أنها ستتحول إلى شركة محدودة الربحية، ومن ثم دخلت شركة «مايكروسوفت» على الخط مستثمرة مليار دولار على هيئة سوبر كومبيوتر للشركة. وبحسب «نيويورك تايمز»، وضعت «مايكروسوفت» ملياري دولار إضافيين بين يدي (OpenAI). وفي مقابل ذلك، حصلت «مايكروسوفت» على امتيازات خاصة تسمح لها بربط أنظمة (OpenAI) بمنتجاتها بشكل حصري. استفادت (OpenAI) من الأموال بشكل ممتاز، وأصدرت تواليًا، نموذج اللغة الطبيعية (GPT2) ومن ثم (GPT3) الأوسع والأشمل، ليتكلل ذلك كله بـ«تشات جي بي تي» نهاية العام الماضي.
إن إتقان استخدام «تشات جي بي تي» من قبل الموظفين سيرفع من سرعة ودقة العمل ويعمل على تحسين أدائهم، بالتالي زيادة الإنتاجية دون زيادة في عدد الموظفين مع أخطاء أقل.
ما هو روبوت الدردشة هذا؟ حتى الآن، لم يستطع البشر خلق ذكاء اصطناعي عام (Artificial general intelligence) أو (AGI)، يكون مستواه الإدراكي والمعرفي بمستوى الدماغ البشري. وأبرز الأدوات التي بين أيدي المبرمجين اليوم، هي تقنية تعلّم الآلة (Machine Learning) وتقنية التعلم العميق (Deep Learning). «تشات جي بي تي» هو ذكاء اصطناعي تم بناؤه عبر تقنية تعلّم الآلة الخاضعة لإشراف بشري، بدايةً تم تدريبه عبر تغذيته بكمية هائلة من البيانات، مثل الكتب والمقالات ومحتوى الويب (كان له دخول على محتوى تويتر أيضًا) حتى عام 2021، ومن ثم تم ضبطه بدقة بالغة بحيث بات وكأن له بوصلة أخلاقية. على سبيل المثال، لن يشارك «تشات جي بي تي» بأي نقاش عنصري ولن يكتب أي مواد لها طابع جنسي. كذلك، تبين أن له ميول سياسية يسارية غربية عندما تم إطلاقه بداية، لكن جرت إعادة ضبطته ليصبح أكثر وسطية، وهذا من الأمور التي تبرز سرعة تطويره.
أما بالنسبة لإمكاناته، فهي أبعد ما تكون عن التواضع. «تشات جي بي تي» قادر على كتابة النصوص والمقالات والسيناريوهات وسطور برمجية بسيطة إلى متوسطة، كذلك يكتب الأغاني ويختصر الكتب والمقالات. كما هو قادر على أن يعطي إجابات خاطئة كليًا وبشكل تبدو وكأنها صحيحة. لكن ما يميزه بحق، هو قدرته على المتابعة، بمعنى أن المستخدم يمكن أن يتحاور معه دون أن ينسى كيف بدأ الحديث والإضافات التي غيرت مجراه. وهذا بالتحديد ما يعطي المستخدم شعورًا زائفًا أنه يتحدث مع كيان واعٍ.
منذ الثورة الصناعية وتطوّر عمل الحواسيب والمعدات الصناعية والآلة بشكل عام، كان التأثير الأكبر لتلك التكنولوجيات على عمال الوظائف التي تتطلب جهدًا جسديًا، مثل المصانع، الذين يشار إليهم بأصحاب الياقات الزرقاء. على الجانب الآخر، ورغم توفر برامج متطورة، إلا أنها لم تسرق عمل موظفي المكاتب فعليًا، بل جعلتهم أسرع في عملهم. وبقي هذا الوضع القائم مستمرًا إلى أن خرج «تشات جي بي تي»، وهو فعليًا أول تحدٍ جدّي أمام البشر العاملين في وظائف الاقتصاد المعرفي.
في الكلمات التالية سيناريو كامل لما يمكن فعله عبر «تشات جي بي تي» من قبل شخص يجني المال من خلال «يوتيوب»: بداية، سيبحث عن المواضيع التي تقدم معرفة وقيمة للمشاهدين، ثم سيذهب إلى «تشات جي بي تي» ويطلب منه كتابة «سكريبت» لحلقة مدتها 10 دقائق عن الموضوع، سيحرره قليلًا، يضيف إليه بعض الأمور، يمنتجه ومن ثم ينشره على الموقع.
بالتمعن في السيناريو أعلاه، سيتبادر سريعًا إلى ذهن الكتاب وكتاب الإعلانات وصانعي المحتوى، أنهم في خطر مباشر. وهذا صحيح نوعًا ما، لكن «تشات جي بي تي» غير قادر على خلق شيء جديد، إذ إن معرفته أتت من محتوى كتبه بشر، وبالتالي هو غير قادر -حتى الآن- على الإتيان بفكرة جديدة. هو قادر على مساعدة المحامين في عملهم، عبر تحليل عشرات القضايا السابقة المماثلة لقضية بين أيديهم. وقادر على مساعدة الكتاب والصحفيين في عملهم، لكنه لن يستطيع مثلا كتابة قصة جديدة كليًا، أو التحقيق في قضية فساد أو أخذ تصريح من سياسي. عمليًا، أفضل شيء في الوقت الراهن هو النظر إليه كمساعد شخصي.
لكن ذلك لا يعني أن نقف مكتوفي الأيدي ونشاهد هذا الذكاء يتطور إلى مرحلة متقدمة، أي أن يصل «تشات جي بي تي» أو غيره من الأنظمة التي ستظهر، إلى نسخ وإصدارات أحدث من القدرة والمعرفة. علمًا بأن الوصول إلى الذكاء الاصطناعي العام «AGI» القادر على فهم أو تعلم أي مهمة فكرية يستطيع الإنسان القيام بها، هو أمر ما زال بعيد المنال بسبب قيود برمجية على أمور مثل السببية والحس السليم وتحويل المعرفة لاكتشاف أمر جديد. إذ من المستحسن البدء بالتدرب على العمل مع «تشات جي بي تي»، مع وجوب الانتباه إلى أن إجاباته قد تكون خاطئة تمامًا، لكن هذا الأمر سيصبح عما قريب جزءًا من أصول تصفح الويب والبحث عبره. كذلك سيكون وسيلة لأصحاب الأعمال المكتبية الحرة والموظفين داخل الشركات لتسريع عملهم بشكل كبير. عبر بحث بسيط على موقع UPwork، وهو موقع يربط مقدمي الأعمال المستقلة بمن لديه عمل، سنجد مئات الأشخاص الذين يبحثون عن من يدربهم على كيفية التواصل مع «تشات جي بي تي» بشكل يقدم لهم أكبر استفادة منه.
إن إتقان استخدام «تشات جي بي تي» من قبل الموظفين سيرفع من سرعة ودقة العمل ويعمل على تحسين أدائهم، بالتالي زيادة الإنتاجية دون زيادة في عدد الموظفين مع أخطاء أقل. فعلى سبيل المثال، يمكن دمج «تشات جي بي تي» في روبوتات المحادثة لخدمة العملاء من أجل تقديم ردود سريعة ودقيقة على استفساراتهم وشكاويهم، مما يقلل من عبء العمل على موظفي خدمة العملاء البشر. كما يمكن استخدامه لأتمتة مهام إدخال البيانات من خلال تحليل وتفسير البيانات الكبرى وتعبئة النماذج. ويمكن لـ«تشات جي بي تي» المساعدة في ترجمة المستندات والمواقع الإلكترونية بشكل مختلف عن ترجمة «غوغل» الحرفية، بمعنى أنه قادر على شرح السياق وتقديم ملخص بسيط. في مثال آخر، موقع DoNotPay، عبارة عن روبوت دردشة محامي، في صلبه ذكاء اصطناعي مدرب على القوانين. يستطيع تقديم المشورة القانونية في غالبية المجالات. ورغم أن مرافعته أو استشارته غير مقبولة في المحاكم بعد، إلا أنه وسيلة بالغة الأهمية بالنسبة للناس غير القادرين على تحمل تكاليف المحامي الباهظة من أجل استشارة ما. وفي هذه الحالة، لم يأخذ هذا الروبوت عمل المحامين، بل أتاح وصول المعرفة القانونية إلى فئة مهمشة من الناس لم تكن قادرة أساسًا على الدفع مقابل تلك الخدمات.
يمكن تشبيه ولادة «تشات جي بي تي» بلحظة صنع الآلة الحاسبة، فهي لم تنهِ عمل المحاسبين، ربما خفضت من نسبتهم في الشركات، إلا إنها سمحت لمن يعمل في هذا المجال بتوفير الوقت من أجل الاهتمام بمهام أخرى. وانطلاقًا من هنا، سيكون الموظف الذي يعرف كيفية استخدام «تشات جي بي تي»، مثل الموظف الذي تعلم الكتابة عبر الآلة الطابعة أو الذي تدرب على برنامج «إكسل»، قد رفع من حظوظه في التوظيف.
لكن هناك جانب آخر يجب التنبه إليه. من المعلوم أن رأس المال يحاول دائمًا إنتاج الأشياء بأقل كلفة ممكنة. لكن، في الوقت نفسه، هذا النظام بحاجة إلى مستهلكين، فلمن ينتج في نهاية المطاف إذا لم يكن هناك موظفون قادرون على الاستهلاك؟ من غير المرجح أن يجد البشر أنفسهم عاطلين من العمل فجأة ذات صباح، إلا أن الخطورة تكمن في تخفيض أجور عمال الياقات البيضاء، كما حصل سابقًا على مدار 40 عامًا مع عمال الياقات الزرقاء. الذين بحسب «فوربس»، خفّضت الروبوتات من أجورهم بنسبة تراوحت من 50% إلى 70% في الولايات المتحدة الأميركية. وجدت ورقة بحثية منشورة حديثًا، وبعنوان «الروبوتات والوظائف: أدلة من أسواق العمل الأمريكية»، من قبل الأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، دارون أسيموغلو، والأستاذ في جامعة بوسطن، باسكوال ريستريبو، أن الروبوتات الصناعية لها تأثير سلبي على العمال والأجور. إذ وجد الباحثان أنه مقابل كل روبوت مضاف لكل ألف عامل في الولايات المتحدة، تنخفض الأجور بنسبة 0.42% وتنخفض نسبة التوظيف إلى السكان بمقدار 0.2%، وهذا يعني فقدان حوالي 400 ألف وظيفة.
من غير المرجح أن يجد البشر أنفسهم عاطلين من العمل فجأة ذات صباح، إلا أن الخطورة تكمن في تخفيض أجور عمال الياقات البيضاء، كما حصل سابقًا على مدار 40 عامًا مع عمال الياقات الزرقاء. الذين خفّضت الروبوتات من أجورهم.
بالإضافة إلى ذلك، هناك توجه لرأي يقول إن الذكاء الاصطناعي سيأخذ وظائف الناس لا محالة، وبالتالي على الحكومات أن تدفع مبالغ شهرية لمواطنيها حال حدوث هذا الأمر، فيما يسمى بالدخل الأساسي الشامل. من بين أصحاب هذا الرأي إيلون ماسك (بالمناسبة، ستطلق شركته تسلا، روبوت يقوم بالمهام «المملة» هذا العام)، في حين يذهب بيل غايتس بعيدًا في هذا الرأي، مضيفًا أنه يجب وضع ضريبة على الروبوتات. حاولت سويسرا إنشاء دخل أساسي شامل بقيمة 2578 دولارًا أميركيًا شهريًا عام 2016، ورغم أن الناخبين رفضوا الخطة، إلا أنها أثارت نقاشًا حولها. فتناول الموضوع أيضًا الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، حين سئل في مقابلة عام 2016، عما إذا كان الدخل العالمي هو النموذج الصحيح، وما إذا كانت أغلبية الناس ستقبله، ليجيب: «هذا نقاش سنخوضه على مدى السنوات العشر أو العشرين القادمة». في المقابل، بالنسبة للضريبة على الروبوتات، فحتى الآن لا تطبيق فعلي في هذا الاتجاه. جل ما حصل هو تخفيض كوريا الجنوبية الحوافز للشركات التي تستخدم الروبوتات؛ وفي الاتحاد الأوروبي استحسن المشرعون هذه الضريبة، لكنهم لم يسنوها.
إن الغوص في هذه الأفكار بين الدخل الشهري أو الضريبة على الروبوتات، يبدو ناقصًا بشكل غريب. وعند محاولتنا البحث عن حل ثالث يكون منسجمًا مع إنسانيتنا، يظهر الاقتصادي الأميركي الماركسي البارز، ريتشارد وولف، أمامنا. يقول وولف في إجابة له ردًا على سؤال حول تأثير الذكاء الاصطناعي والأتمتة على وظائف البشر، إن المشكلة ليست في تطور التكنولوجيا، بل في الرأسمالية. ويقدم حلًا يقوم على التالي: فلتستخدم الشركات الموظفين بعدد ساعات عمل أقل، ربما من الـ9 صباحًا حتى الـ1 من بعد الظهر، وفي الوقت الباقي تعمل الآلة مكانهم. فهكذا يخف العبء عن البشر، يعيشون حياتهم بشكل فعلي دون عبودية حديثة، فيتواصلون مع أطفالهم أو أحبائهم بشكل أكبر. وفي الوقت عينه لا يكونون بلا جدوى، يعملون، ولكن بشكل لا يسرق حياتهم.
بحسب «مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية»، فإن العمال الأسرع تكيفًا مع هذا التغيير التكنولوجي سيكونون المستفيد الأكبر من خلال توليهم مهامًا مكملة للذكاء الاصطناعي، مع التخلي عن المهام غير ذات جدوى (مثل إمضاء النهار في إرسال الرسائل الإلكترونية). وتتمثل الإمكانات الكبيرة لأدوات مثل «تشات جي بي تي»، في استخدامه من قبل بشر مبتكرين لخلق سلع أو خدمات جديدة ووضعها في السوق. كما يمكن تطوير «تشات جي بي تي» لتدريب الموظفين في مؤسسة ما، ما يلغي الحاجة إلى المدربين البشر.
من المهم أن نكون صريحين مع أنفسنا، إن معالم السنوات الخمس أو العشر القادمة ستحمل تغيرات كبرى، هي رياح لا يمكن مقاومتها، الأمور فعليًا ذاهبة في هذا الاتجاه. فمن جهة، يعد «الميتافيرس» الناس بحياة رقمية مشابهة للواقع وأفضل منه، أموال رقمية وعملات مشفرة، روبوتات في المصانع وسيارات ذاتية القيادة وذكاء اصطناعي متميز يعمل للشركات والمؤسسات والأفراد. هو انتقال تدريجي إلى عالم تحكمه الخوارزميات وتديره. وما زال الوقت سانحًا للتدرب والتكيف مع هذه التكنولوجيا.
اضف تعليق