عالم الديجيتال القادم مثل نهر، وتنمو على ضفتيه حضارات متنوعة ومختلفة في الثقافة والاقتصاد والسياسة. النهر موجود والكل يستفيد منه، لكن لا يملكه أحد. والحضارات تأخذ منه وتشارك فيه بقدر نموها. ومن هذا المنطلق، ومع اكتمال الميتافيرس في السنوات القليلة المقبلة، يمكن لنا أن نتخيل انبثاق عوالم افتراضية خاصة أيضاً...
النظام العالمي الحالي وقواعده التي أرستها نتائج الحرب العالمية الثانية، وانهيار الاتحاد السوفياتي، اهتزّت. البعض يرى أن الكوكب متّجه نحو تفكّك العولمة (Deglobalization) ويبغي الأقلمة (Regionalization). ويستند في ذلك إلى البريكست والترامبية وصعود اليمين حول العالم بخطاب شعبوي يريد الانكفاء إلى الداخل. وهذا القِدْر، المستقبل الذي يُنظّر له، أشعلت جائحة كورونا النار تحته وسرّعت عملية الطبخ.
لكن العولمة، القرية الصغيرة بتعريفها الكليشيه، ليست فقط اتفاقيات تجارة وحدود مفتوحة وتصدير قِيم. هي أيضاً صارت إنترنت و«ميتافيرس» وأقمار اصطناعية تحدّد الموقع الجغرافي، و«بلوكتشاين»، وتكنولوجيا اتصالات، وشرائح إلكترونية، وبرمجيات. وبين هذا وذاك، ومع ضبابية المشهد الذي يُرسم، يجد عالم الديجيتال نفسه بين جيلين، القديم لا يريد مشاركة المعرفة التقنية به، والجديد يرى أن استقلاله فيه هو أولوية استراتيجية. وبهذا، قد يكون العالم للمرة الأولى - قد - متجهاً نحو مفهوم «سبلينتر نت» أو بلقنة الإنترنت «Internet Balkanization» (تجزئة منطقة كبيرة إلى أجزاء صغرى بسبب الاختلافات).
يقول لاري فينك، الرئيس التنفيذي لشركة «بلاك روك» العملاقة (تدير أصولاً تبلغ قيمتها 10 تريليونات دولار)، إن الصراع في أوكرانيا «وضع حداً للعولمة التي شهدناها خلال العقود الثلاثة الماضية». وأضاف أن الشركات والحكومات ستبحث بجدية في اعتمادها على الدول الأخرى وستسعى إلى «المزيد من الاستعانة بمصادر داخلية أو قريبة (Onshore or Nearshore) من أجل القيام بعملياتها». وهذا كلام بالغ الأهمية، إذ استثنى المصادر الخارجية (Offshore). بمعنى أن العالم سيكون أمام مجموعات دولية إقليمية تتعاون في ما بينها من دون الاعتماد على شركات أو حكومات خارج مجموعتها. ويمكن لنا أن نتخيل تطبيقاً لهذه السياسة، مثل أن تقوم شركة «آبل» الأميركية بصنع هواتف «آيفون» في المكسيك بدلاً من الصين. لكن، بطبيعة الحال، أجهزة الهاتف والحواسيب هي منتج ملموس، ماذا عن الإنترنت وكل ما يحتويه؟ كيف يمكن تجزئة شيء كهذا؟ الويب الذي بين أيدينا اليوم، لم يكن دائماً هكذا. خلال الفترة الممتدة من عام 1991 إلى عام 2004، الويب كان في حالة جامدة. بمعنى أنه كان أشبه بموسوعة كبيرة يستهلك المستخدم منها المحتوى. والمواقع الإلكترونية لم تكن متغيرة بحسب المستخدم، بمعنى أن مستخدماً في الولايات المتحدة وآخر في ألمانيا عندما يتصفحان الموقع الإلكتروني ذاته، ستظهر لهما الصفحة نفسها مع المحتوى ذاته. أي أن المصدر كان واحداً وثابتاً. هذا الشكل من الإنترنت سمي بـ«الويب نسخة 1».
لكن منذ عام 2004 إلى يومنا الحالي، تغير كل شيء. الإنترنت بات تفاعلياً. وأصبح يمكن للمستخدم أن يخلق حساباً له على إحدى منصات التواصل الاجتماعي، لم يعد يستهلك المحتوى فقط، بل أصبح هو جزءاً من المحتوى الكلي للإنترنت. حتى أن المواقع الإلكترونية باتت تأخذ بيانات المستخدم كي تقدم له تجربة خاصة فيه هو وحده. لكن هذا الأمر يتطلب أن يتم جمع بيانات المستخدمين كلهم.
ومع الوقت، تركزت كل تلك البيانات داخل الولايات المتحدة الأميركية. وباتت شركات مثل «ميتا» (فايسبوك سابقاً) و«غوغل» و«أمازون» و«آبل» و«مايكروسوفت» حارسة لبوابة الإنترنت. ويرمز لهم بـ«الخمسة الكبار» (The Big Five). والآن، نصل إلى المفهوم الجديد، «الويب نسخة 3»؛ صحيح أن الطريق أمامه لا تزال طويلة، لكنها قد بدأت بالفعل. وهو نموذج مبني على فكرة جوهرية أساسية: اللامركزية. سيتم نقل تركز شعب الإنترنت من المنصات المركزية مثل «غوغل» و«ميتا» و«تويتر»، إلى منصّات لا مركزية مجهولة الهوية يتحكم بها إنترنت ذكي ومستقل ومفتوح يستخدم الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي ليكون بمثابة «عقل عالمي»، ويعالج المحتوى لجهة المفهوم والسياق. في حين أن البيانات ستكون على شبكة «بلوكتشاين» موزعة بين كل المستخدمين وغير متركزة في دولة أو شركة واحدة. وهذه رؤية المهندس وعالم الحاسوب الإنكليزي، تيم بيرنرز لي، الذي اخترع الويب. لكن سابقاً لم يكن من الممكن تنفيذ هذه الخطة بسبب القيود التكنولوجية. إلا أنه مع القفزات التقنية في الاتصالات والذكاء الاصطناعي و«بلوكتشاين» (وما تلاها من تطويرات مثل العقود الذكية والـ«NFT») أصبح الأمر ممكناً. الصين على سبيل المثال، هي متصلة بشبكة الإنترنت، لكنها تضعه خلف «جدار الحماية العظيم» (Great Firewall of China). وهو عبارة عن مجموعة من الإجراءات التقنية التي تفرضها البلاد لتنظيم الوصول إلى شبكة الإنترنت محليّاً، وتهدف إلى حجب عدد من مواقع الإنترنت الأجنبية ومراقبة حركة البيانات من وإلى الإنترنت. كما تحدّ من الوصول إلى مصادر المعلومات الأجنبية، وتحجب أدوات الإنترنت الأميركية مثل «غوغل» و«فايسبوك» و«يوتيوب» و«تويتر»، وتطبيقات الهاتف الذكي. يمكن النظر إلى تلك الإجراءات على أنها رقابة حكومية، ودفع بسردية النظام. إلا أنه لا يمكن إنكار أن الصين استطاعت أن تبني أهم شركات التجارة الداخلية عبر الإنترنت، وقدمت منتجات رقمية محلية مشابهة للتطبيقات الغربية مثل «ويتشات» و«تيك توك». استفادت الصين من الإنترنت بشكل كبير من دون أن تسمح له بتمرير القيم الغربية إلى مجتمعها.
حلم الإنترنت العالمي الحر والمفتوح للجميع يتلاشى بسرعة. هناك مبرمجون سقطوا دفاعاً عن الإنترنت وحرية الوصول إلى المعلومات في ما مضى. مثل آرون شوارتز، والذي وجد مشنوقاً داخل شقته عام 2013 في بروكلين نيويورك. مفهوم «سبلينتر نت» يعني أن تتحكم الدول بما يظهر أمام شاشة المستخدم على أراضيها. وعلى سبيل المثال، يدخل شخص ما داخل إحدى الدول إلى موقع ويكيبيديا بحثاً عن معلومة. في هذه الحالة، ممكن أن يكون الموقع محظوراً، أو يظهر أمامه لكن سيقدم معلومات تتوافق مع توجهات بلاده. وهذه المعلومات لا تظهر في الإنترنت العالمي، فقط داخل بلاده. وبهذا يكون الإنترنت قد تجزّأ بحيث أن العالم محجوب، وفي الوقت نفسه لا يظهر المحتوى داخل تلك البلاد لأي شخص آخر خارجها أو خارج المحيط الإقليمي. وهذا سيؤدي إلى خلق عدة شبكات إنترنت متوازية غير متصلة ببعضها البعض. ليصبح الإنترنت الجديد بنية تحتية محصورة تنقسم إلى مناطق جيوسياسية، مثل المناطق الجغرافية. الصين ليست وحدها في ذلك، إذ مع بدء الصراع الروسي - الأوكراني، أوقف عمالقة التكنولوجيا الغربيين خدماتهم في روسيا.
وهذا دفع الحكومة الروسية إلى إعادة طرح مشروع «الإنترنت السيادي». في عام 2019، وقع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، تشريعات يشار إليها باسم قانون الإنترنت السيادي لوقف ما يعتبره استراتيجية الأمن السيبراني العدوانية للولايات المتحدة. أدّى القانون إلى تركيب معدّات للسماح للشبكات الروسية بتصفية وتتبع وإعادة توجيه استخدام الإنترنت. واختبرت روسيا شبكة الإنترنت الخاصة بها «رو نت» (Runet) بإزالة نفسها من الإنترنت العالمي لتحديد قدرتها على العمل بشكل مستقل عن جميع المصادر الأخرى. وبهذا تتمتع الحكومة الروسية بالسيطرة الكاملة على ما يراه الناس. كذلك لدى كوريا الشمالية وإيران رقابة قوية على المحتوى أيضاً.
استفادت الصين من العولمة بشقها التجاري بشكل كبير. وباتت ثاني أكبر اقتصاد في العالم خلف الولايات المتحدة الأميركية. وطورت الجمهورية الشيوعية بنيتها التحتية ونقلت مئات الملايين من الفقر المدقع إلى الطبقة الوسطى. وكل ذلك عبر تحولها إلى عضلات العولمة. بمعنى أن الابتكارات كانت تأتي من العقل الغربي مع المال من أجل أكلاف التصنيع. والأمور كانت ممتازة لعقود. لكن ماذا حصل عندما قررت الصين أن تبدأ هي الابتكار؟ مع صعود شركة «هواوي» الصينية ووصولها إلى المركز الثاني عالمياً، كانت مثلها مثل غالبية شركات الهواتف الذكية مضطرة إلى التعامل مع شركة «كوالكم» الأميركية. الأخيرة، سيطرت على شرائح اتصالات تقنية «CDMA» طوال 20 عاماً.
تتمثّل المشكلة في أن شبكات اتصالات الخلوي حول العالم ليست متماثلة، هناك الجيل الثاني والثالث والرابع. وإن كنت شركة تصنيع هواتف ذكية، عليك أن تنتج هاتفاً يعمل في مختلف تلك الشبكات كي تضمن مبيع المنتج حول العالم.
وهنا مربط الفرس. «كوالكم» امتلكت بشكل أحادي كل حقوق براءات الاختراع لشرائح الاتصالات اللاسلكية من الـ2G إلى الـ4G. ودرّ هذا الأمر عليها مليارات الدولارات طوال السنين الماضية من غالبية شركات تصنيع الهواتف. لكن «هواوي» وجدت أن أفضل طريقة للالتفاف على هذه المصيدة، أن تقوم بتطوير الجيل الخامس للاتصالات اللاسلكية 5G، وبهذا تخرج من شروط «كوالكم» القاتلة وتتحرر من حاجتها إلى الولايات المتحدة عبر الاعتماد على نفسها.
ولهذا، انتقم الرئيس السابق للولايات المتحدة الأميركية، دونالد ترامب، من «هواوي»، عبر شيطنتها ومنع الحكومات وشركات الهاتف من التعامل مع تكنولوجيا الـ5G الخاصة بها. ولم يكتفِ بذلك، إذ مُنعت الشركة الصينية من استيراد الشرائح الإلكترونية البالغة الدقّة، وتم حظر هواتف الشركة من الوصول إلى كل خدمات «غوغل» الموجودة في نظام التشغيل «أندرويد». مثال آخر، تُعدّ شركة «TSMA» التايوانية، أبرز صانع لأشباه الموصلات البالغة الصغر في العالم. وتأتي خلفها شركات أميركية مثل «إنتل». وصحيح أن تايوان تمتلك أفضل المعرفة والخبرة وسنوات من عمليات الأبحاث والتطوير المكلفة، لكن كل تلك الأشياء لا تستطيع أن تنتج أشباه موصلات بالغة الصغر من دون آلة «euv lithography» التي تنتجها شركة «ASML» الهولندية. وعندما حاولت الصين شراء تلك الآلة من «ASML»، منع ترامب حصول الاتفاق في اللحظات الأخيرة. والصين اليوم ممنوعة من تصنيع سوى أشباه الموصلات الكبيرة والمتوسطة الحجم. في مقابل سيطرة غربية كاملة على هذا المجال.
في مقال رأي نشرته صحيفة «فاينانشل تايمز»، خلال فترة انعقاد المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس أخيراً. يقول إن سلاسل التوريد تتحول بسرعة إلى إقليمية ومحلية، وإن الأعمال التجارية تسير ببساطة مع الواقع الجديد لعالم ما بعد الليبرالية الجديدة. وأن الأسواق الناشئة في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا، على سبيل المثال، تبني شبكات إنتاج إقليمية للسلع الأساسية. في النهاية، يمكن أن يؤدي ذلك إلى إنشاء مسارات تجارية أكثر مرونة وتطوير نماذج جديدة غير مرتبطة تماماً بتصدير البضائع الرخيصة إلى حفنة من الدول الغنية عبر طرق النقل الطويلة التي أصبحت أكثر تكلفة ومثيرة للجدل السياسي. ويضيف المقال، أن التقنيات اللامركزية والبيانات الكبرى تسمح بمزيد من الإنتاج المحلي. على سبيل المثال، تظهر المنازل المطبوعة عبر تكنولوجيا الطباعة الثلاثية الأبعاد ليس فقط كحل سريع للإسكان في مناطق الكوارث، ولكن في البلدان الغنية مثل الولايات المتحدة كحل محتمل لتضخم الإيجار. ويختم أن العولمة ليست حتمية، رغم ما قاله لنا السياسيون في التسعينيات. ولكي يعمل أي اقتصاد سياسي، يجب أن يخدم الاحتياجات المحلية.
عالم الديجيتال القادم مثل نهر، وتنمو على ضفتيه حضارات متنوعة ومختلفة في الثقافة والاقتصاد والسياسة. النهر موجود والكل يستفيد منه، لكن لا يملكه أحد. والحضارات تأخذ منه وتشارك فيه بقدر نموها. ومن هذا المنطلق، ومع اكتمال «الميتافيرس» في السنوات القليلة المقبلة، يمكن لنا أن نتخيل انبثاق عوالم افتراضية خاصة أيضاً. «ميتافيرس» صيني وآخر غربي وغيره روسي وربما عربي. وربما ذات يوم، ربما، ستخوض البشرية حروبها العسكرية والاقتصادية داخل عالم الأصفار والآحاد، وسيدور القتال حول من يريد السيطرة على أكبر عدد ممكن من الـNFTs.
اضف تعليق