يومًا بعد يوم، يتزايد الدور البارز الذي تؤديه شبكة الإنترنت في تسهيل عمليات تجنيد الجماعات المتطرفة لعناصر جديدة، وفق ما انتهت إليه دراسة استهدفت رصد تنامي استخدام المتطرفين المدانين في كلٍّ من إنجلترا وويلز لمنصات التواصل الاجتماعي المفتوحة، فعلي الرغم من القيم الإيجابية والتعاونية التي ارتبطت ببزوغ الفضاء السيبراني...
بقلم تامر الهلالي
يومًا بعد يوم، يتزايد الدور البارز الذي تؤديه شبكة الإنترنت في تسهيل عمليات تجنيد الجماعات المتطرفة لعناصر جديدة، وفق ما انتهت إليه دراسة استهدفت رصد تنامي استخدام المتطرفين المدانين في كلٍّ من إنجلترا وويلز لمنصات التواصل الاجتماعي المفتوحة.
فعلي الرغم من القيم الإيجابية والتعاونية التي ارتبطت ببزوغ الفضاء السيبراني، فإنه سرعان ما ظهرت استخدامات "غير سلمية"، كشفت وجهًا سلبيًّا لتلك التطورات المذهلة، لا سيما مع تصاعد استغلال الجماعات الإرهابية للتكنولوجيا الحديثة، ليس فقط على المستوى الميداني، بل على صعيد الإعلام والتواصل، وبث الأفكار، وتجنيد المتعاطفين، وأفرز ذلك جدالات نظرية عديدة بشأن ما سُمي "الإرهاب الإلكتروني" أو "الإرهاب السيبراني"، وكيفية توظيف الجماعات الدينية المسلحة المصنفة كجماعات إرهابية، مثل حالتي تنظيم القاعدة، والدولة الإسلامية "داعش" لأدوات الفضاء السيبراني وتطوراتها.
الدراسة أجراها فريق من الباحثين بجامعة "نوتنجهام ترنت"، و"خدمة السجون والمراقبة التابعة لجلالة الملكة" (الخدمة الوطنية لإدارة الجرائم سابقًا) (HMPPS)، التي تُستخدم في إدارة المجرمين المتطرفين من قِبل نظام العدالة الجنائية في إنجلترا وويلز.
وأظهرت النتائج أنه منذ عام 2005، زادت نسبة تجنيد الراديكاليين عبر الإنترنت، في حين تم رصد انخفاض أعداد أولئك الذين تعرضوا -في المقام الأول- لعمليات تجنيد غير متصلة بالإنترنت.
وأوضح الباحثون أنه "بينما يتزايد دور الإنترنت بشكل واضح في عمليات تجنيد العناصر الراديكالية، فإن الاتصال البشري -وجهًا لوجه- لا يزال يؤدي دورًا مهمًّا في دفع مستويات أعمق من التطرف، تتضمن تلك التي تؤدي إلى الاستعداد لارتكاب أعمال عنيفة".
تنوع المنصات الإلكترونية
وكشفت الدراسة أن "أنواع المواقع الإلكترونية والمنصات والتطبيقات التي يستخدمها المدانون بارتكاب جرائم متطرفة تغيرت بمرور الوقت؛ إذ ابتعدت الجماعات المتطرفة عن استخدام مواقع الويب والصفحات الرئيسية للمواقع المتطرفة، واتجهت نحو استخدام المنصات الإلكترونية المفتوحة"، وهي المنصات التي تتيح للمستخدمين الوصول إلى ما يشاؤون من معلومات وتطبيقات.
كما توصلت الدراسة إلى أن الصورة النمطية للأفراد الذين يتبعون مسارات مختلفة للتطرف تختلف، مما يدعم فكرة أنه لا يوجد ملف تعريف واحد للجاني المتطرف؛ إذ عُثر على الاختلافات بين مجموعات عينة الدراسة من حيث المظهر العام وعوامل الضعف.
شملت عينة البحث 235 (من إجمالي 269) من المتطرفين المدانين الذين اعتُبروا "متطرفين راديكاليين"، والذين عرفهم الباحثون بـ"الأفراد الذين يُعتقد أنهم دخلوا السجن ولديهم آراء متطرفة بالفعل، وشاركوا في أعمال متطرفة في العالم الخارجي".
ضمت العينة 90% من الذكور (211) مقابل 10% فقط من الإناث (24)، وبلغ متوسط عمر المشاركين وقت صدور الحكم 29 عامًا (99 حالة تبلغ من العمر 25 عامًا أو أقل بنسبة 42.12%، مقابل 136 حالة في الفئة العمرية فوق 25 عامًا بنسبة 57.87%)، وبلغت نسبة المولودين في المملكة المتحدة 73% مقابل 27% وُلدوا خارجها.
وتنوعت الأسباب الأيدلوجية لصدور الأحكام ما بين مدافعين عن حقوق الحيوان (7%)، ومتطرفين من الجناح اليميني (11%)، ومتطرفين إسلاميين (76%)، وتوجهات سياسية أخرى (6%).
وبلغ عدد المشاركين الذين جندوا عبر الإنترنت 29 شخصًا (12.3%)، ومَن تعرضوا لعمليات تجنيد هجين (استُخدم فيها الإنترنت إلى جانب التواصل المباشر) 113 شخصًا (48.1%)، ومَن جُندوا عن طريق التواصل وجهًا لوجه 93 شخصًا (39.6%)، وارتكب 89 شخصًا جرائم توصف بـ"العنيفة" بنسبة بلغت أكثر من 37.87% بقليل، وارتكب 146 جرائم جريمة توصف بأنها "غير عنيفة" بنسبة فاقت 62.12% بقليل.
ممارسة التطرف
استهدفت الدراسة تحديد دور الإنترنت في عمليات التطرف وإساءة معاملة المدانين بجرائم التطرف في إنجلترا وويلز من خلال مقارنة مسارات التطرف عبر ثلاث مجموعات ضمت "الأشخاص الذين مارسوا التطرف عبر الإنترنت"، و"الأشخاص الذين تحولوا إلى التطرف بشكل أساسي من خلال تأثيرات من خارج الإنترنت"، و"الأشخاص الذين تحولوا إلى التطرف من خلال تعرُّضهم لمزيج من التأثيرات، سواء عبر الإنترنت أو خارجه".
وأراد الباحثون التحقق من أربعة مجالات رئيسية، أولها عما إذا كان الإنترنت يؤدي دورًا بارزًا في التطرف، والثاني عما إذا كان الأشخاص الذين يسلكون مسارات مختلفة للتطرف يختلفون في استخدامهم للإنترنت، وثالثًا عما إذا كانت هناك اختلافات في السمات الديموغرافية ونوع الجرائم التي يرتكبها أولئك الذين يسلكون مسارات مختلفة للتطرف، والرابع عما إذا كان المسار الذي اتخذه المتطرفون يساعد المتخصصين على التنبؤ بخطر ارتكاب جرائم متطرفة عنيفة في المستقبل.
تقارير حكومية
اعتمد الباحثون على بيانات حصلوا عليها من تقرير "دليل المخاطر الهيكلية" (SRG)، الذي طورته "خدمة السجون والمراقبة التابعة لجلالة الملكة" في عام 2009 لجمع المعلومات حول معتقدات الأشخاص الذين يُنظر إليهم على أن لديهم آراء متطرفة، ودوافعهم التي قد تكون مرتبطةً بجرائم التطرف.
وتم استخدام "دليل المخاطر الهيكلية" مع المتطرفين الذين مثَّل تنظيم "القاعدة" مصدرَ إلهام بالنسبة لهم، وكذلك أعضاء العصابات المسلحة بما يضمن التخطيط لترتيبات الحماية العامة، وتمت مراجعة هذا الدليل في عام 2012 ليصدر ما عُرف بـ"دليل مخاطر التطرف+22" (ERG 22+)، لتقييم مخاطر المجرمين المتطرفين.
وعمل الباحثون على تصنيف كل حالة بناءً على المستوى العام لانخراط الفرد في جماعة متطرفة أو اتباع أيديولوجية متطرفة وقت ارتكاب الجريمة، وتم تجميع التحليلات اللاحقة لمقارنة مسار عملية التجنيد بناءً على أنشطة الفرد عبر الإنترنت، والمتغيرات الاجتماعية والديموغرافية والمتغيرات في نوع الإجرام، ومشاركته في العمليات المتطرفة.
وخلصت الدراسة إلى أنه على الرغم من تنامي عمليات تجنيد العناصر المتطرفة عبر الإنترنت، إلا أن الأشخاص الذين اعتنقوا التطرف عبر الإنترنت كانوا أقل احتمالًا للانخراط في جماعة أيديولوجية متطرفة، وأقل رغبةً وقدرةً على ارتكاب أعمال متطرفة عنيفة، كما أنهم كانوا أقل تعرضًا للارتباط الاجتماعي بالمتطرفين الآخرين خارج الإنترنت في سياق الجريمة، وأكثر تعرضًا لإظهار إشارات قوية على المرض العقلي أو اضطراب الشخصية.
وخلصت الدراسة أيضًا إلى أن عناصر المجموعة "المختلطة"، التي تضم أولئك الذين تعرضوا لتأثيرات عبر الإنترنت وخارجها، يتمتعون بأعلى مستويات المشاركة -والرغبة- في ارتكاب جرائم متطرفة في المستقبل، مقارنةً بمجموعات المسارات الأخرى.
ويرى الباحثون أن مثل هذه التغييرات تُظهر التهديد المستمر للتكيف مع التطرف عبر الإنترنت والصعوبات المرتبطة به التي يواجهها أولئك الذين يحاولون مواجهة هذا التهديد.
درجات الانخراط
يؤكد جوناثان كينيون -المتخصص في مجال التطرف الوطني في "خدمة السجون والمراقبة التابعة لجلالة الملكة"، والمؤلف الرئيسي في الدراسة- أن "الدراسة الحالية تستخدم مجموعة بيانات كبيرة وفريدة من نوعها من خلال اعتمادها على تقارير حكومية، وتوفر عددًا من الأفكار الجديدة والمثيرة للاهتمام حول الطريقة التي استخدم بها المتطرفون المدانون في إنجلترا وويلز الأنشطة المتطرفة عبر الإنترنت في سياق جرائمهم".
يقول "كينيون" في تصريحات لـ"للعلم": تساعد هذه التقارير في الوصول إلى تقييمات المتخصصين ذوي الخبرة في جرائم المتطرفين، بما في ذلك معرفة كيفية انخراطهم وتعرُّفهم على الجماعات المتطرفة، ومدى استعدادهم لارتكاب أعمال متطرفة عنيفة، ومدى قدرتهم على فعل ذلك، ولم تكن مثل هذه التصنيفات متاحةً سابقًا للباحثين الذين يدرسون دور الإنترنت في التطرف، ومن الميزات الفريدة الأخرى للدراسة اعتمادها على النهج القائم على البيانات، لا سيما أن الأدبيات المتعلقة بالتطرف عبر الإنترنت يُنظر إليها على أنها تعاني من نقص عام في الدراسات التجريبية ونطاق مجموعة البيانات.
يضيف "كينيون": كان من المفيد أيضًا التبايُن في الحالات التي تضمنتها الدراسة؛ إذ شملت العينة ذكورًا وإناثًا من مختلف الأعمار، ومن خلفيات متنوعة، ودرجات متفاوتة من التواصل الاجتماعي، وتتضمن المتطرفين الذين يعملون في إطار فردي، وأعضاء الخلايا الصغيرة والمجموعات الأكبر، كما أن إدراج كلٍّ من المتطرفين المدانين غير العنيفين والمتطرفين المدانين بالعنف منح الدراسة قوةً رئيسيةً أخرى؛ إذ ركزت الدراسات السابقة في كثير من الأحيان على أولئك الذين ارتكبوا أعمالًا إرهابيةً عنيفة.
خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي
من جهته، يقول ياسر عبد العزيز -الخبير الإعلامي، ومدير مكتب صحيفة الشرق الأوسط بالقاهرة- في تصريحات لـ"للعلم": إن السير ديفيد أوماند، المدير السابق لمقر الاتصالات الحكومي في المملكة المتحدة، يرى في كتابه "استخبارات التواصل الاجتماعي" (Social Media Intelligence) أن كثيرًا من عمليات العنف المتطرف التي تمت في العالم الغربي في العقد الأخير مرت من خلال وسائل التواصل الاجتماعي، والأمر ذاته بالنسبة لغالبية الأوروبيين والغربيين الذين سافروا إلى سوريا والعراق وتبنوا أجندة داعش المتطرفة، وكذلك مَن ارتكبوا أعمال عنف على الأراضي الغربية؛ إذ جُندوا من قِبل جماعات متطرفة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي.
يؤكد "أوماند" في كتابه أن "البيئة الأمنية الدولية استجابت للتطور السريع للإنترنت وتكنولوجيا الاتصالات المتنقلة، من خلال تطوير مجال ذكاء جديد يُعرف بذكاء وسائل التواصل الاجتماعي (SOCMINT)"، مشيرًا إلى أن "ذكاء وسائل التواصل الاجتماعي هو مجموعة من التطبيقات والتقنيات والقدرات التي تم الحصول عليها من خلال جمع وسائل التواصل الاجتماعي واستخدامها".
يضيف "عبد العزيز": كان هذا واضحًا في مذبحة "كرايست تشيرش" في أستراليا عام 2019، حيث تم تأهيل منفذ العملية من قِبَل الجماعات المتطرفة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، كما رصدت وزارة التربية والتعليم الفرنسية نشاطًا ممتدًّا لمنفذ حادث مقتل مدرس التاريخ الفرنسي "صامويل باتي" -في أكتوبر 2020- على يد أحد المتطرفين عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، ويؤكد العديد من الدراسات أن خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي تعمل على تعزيز الأفكار المتطرفة بشكل عام، إلى جانب استخدامها كوسائل للتواصل والتجنيد.
تصريحات "عبد العزيز" تتفق مع ما انتهت إليه دراسة سابقة ربطت بين البحث عن مواد متطرفة عبر الإنترنت والتطرف المعرفي لدى الشباب، موضحةً أن "المجلات التابعة للجماعات الراديكالية ومقاطع الفيديو الخاصة بقطع الرؤوس من أكثر مواد التواصل الاجتماعي ارتباطًا بالتطرف المعرفي".
البحث عن الربح
يتفق هشام عبد الحميد -أستاذ علم النفس السياسي بجامعة جنوب الوادي- مع ما توصلت إليه الدراسة، قائلًا: تستخدم الجماعات المتطرفة متخصصين في وسائل التأثير والإقناع وعمليات غسيل الدماغ المدروسة، ويستهدفون الشباب بشكل أساسي.
يضيف "عبد الحميد" في تصريحات لـ"للعلم": أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في نشر الأجندات والأفكار المتطرفة، مستفيدةً بالتواصل الفوري المتاح في كل لحظة، الذي تتلاشى فيه حواجز الزمان والمكان، وتوفر وسائل التواصل الاجتماعي للأشخاص الذين يتم تجنيدهم شعورًا بالقوة عبر الانتماء إلى جماعةٍ ما، وتمنحهم هدفًا يسعون لتحقيقه، وفي المقابل نجد أن شركات التواصل الاجتماعي لا تهتم سوى بالربح وبقاء المستخدمين على منصاتهم، لذا لا تبذل الجهد الكافي لإزالة المحتوى المتطرف والراديكالي أو مواجهته.
اضف تعليق