اعتماد العمل على موظفين يتمتعون بدرجة عالية من التخصص، يؤدي بالنتيجة الى تقديم إنتاجية أكبر عبر تطوير مهارات العمل مما يعود بالفائدة على جانبي العملية الإنتاجية، وهما العامل وصاحب العمل، وهنا نكون قد حققنا حالة من الرضا الوظيفي لدى المشتغلين وتحسين كفاءتهم لتلافي المشاكل التي يواجونها في ظل تنامي التطورات التكنولوجية...
يصارع أصحاب المهن القديمة على اختلافها من اجل البقاء امام الانفجار التكنولوجي الذي غزى العالم، وغير الكثير من ملامح الحياة السائدة آنذاك، فما عدنا نرى بعض رواد المهن القديمة في الأسواق والمحال التجارية المنتشرة في المدن.
فالعديد من المهن يطاردها الزوال إثر التطور التقني الذي أحدثته التكنولوجيا الجديدة والمبتكرة، وتعدى ذلك كثيرا مما أدى الى خسارة كم كبير من الموظفين لعملهم، فلنأخذ على سبيل المثال المهن المتعلقة بتوزيع الجرائد والمجلات، وعمال البريد وفرزه وتوصيله، وكذلك موظفي مراكز الاتصال.
غياب تلك المهن يقابله ظهور أخرى تؤدي ذات المهام او قد تختلف عنها بصورة نسبية لكنها تمكنت من تعويض المهمة التي تقوم بها الأولى من جميع الاتجاهات، اذ تقف وراء هذه المتغيرات التكنولوجيا الحديثة التي تمكنت من الخوض بجميع مفاصل الحياة الصناعية والتجارية وحتى الاعمال المنزلية اليومية.
في السابق كنا نلاحظ ربات البيوت تعكف طويلا من اجل إتمام واجباتها المناطة بها، كتحضير وجبات الطعام وغسل الملابس وغيرها من الاعمال التي تستوجب الكثير من الوقت لادائها على اتم وجه، بينما اليوم قللت الابتكارات هذا الجهد الى اكثر من النصف في بعض الأحيان، هذا الحال بالنسبة للاعمال المنزلية ونفس الشيئ ينسحب على المجالات الأخرى.
للنهوض التكنولوجي آثار وتداعيات أخرى على حياة الافراد، فقد ساهم وبنسبة مرتفقة في الاستغناء عن بعض المهارات الفردية والاعمال التي تتطلب وفرة في اليد العاملة، فالاعمال التي تتطلب عشرة اشخاص في السابق، اصبح قادر على تأديتها شخص واحد او شخصين، ما اسفر عن خسارة بعض العاملين أعمالهم.
وهذا الاستغناء ينعكس على خلق حالة من الانكماش في السوق وقلة النشاط التجاري والاقتصادي، ذلك نتيجة لفقدان الكثير لمهنهم وتفشي البطالة في صفوفهم، يصاحب ذلك تقلص في الإنتاج لضعف القدرة الشرائية لدى الافراد.
مثلما أصبحت مهن كثيرة مهددة بالاندثار، ساعدت التكنولوجيا على فتح آفاق عمل جديدة امام الكثير من الأشخاص، كما انها عملت على تغير سوق العمل بشكل كبير مقارنة عما كان عليه في السنوات الأخيرة الماضية.
فوفقًا لتقرير التنمية العالمي الصادر عن البنك الدولي للعام 2019، فإن "التكنولوجيا الرقمية تقوم بالوقت الحاضر بتعزيز النمو الاقتصادي ومشاركة المواطنين وخلق فرص عمل تدفع بعجلة التنمية وإحداث تحول في الاقتصادات بسرعة" .
وبحلول العام 2020 ازداد استخدام التكنولوجيا الرقمية بإضافة 1.4 تريليون دولار إلى إجمالي الناتج الاقتصادي العالمي، حيث يعتبر قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، أحد أكبر القطاعات نموا في العالم، ففي الولايات المتحدة الأمريكية وحدها نمت وظائف الكمبيوتر وتكنولوجيا المعلومات بنسبة 22% عام 2020، ما خلق 758.800 وظيفة جديدة، وفي أستراليا أدى إلى دعم 25000 وظيفة سنويًا.
ويؤكد المختصون على ان النمو في مختلف القطاعات غير متساو، ففي الولايات المتحدة تخلق كل وظيفة في صناعة التكنولوجيا الفائقة، خمس وظائف إضافية في المتوسط في قطاعات أخرى، مما يوفر فرص عمل، فضلا عن توسعة نطاق الخدمات والمنتجات.
ولم تسهم التكنولوجيا في خلق فرص العمل بالواقع المادي فقط، بل ساعدت أيضا على تكوين فضاءات ووظائف عمل في مساحات الواقع الافتراضي، ونلاحظ هنالك استمرارية تفرضها التطورات التقنية من اجل دخولها المجالات الحياتية، وانشاء وظائف ذات صلة بتلك التقنيات، وفي نهاية المطاف سيتم ولادة فرص عمل في الاقتصاد أكثر من الوظائف المفقودة.
أصاب البعض حالة من الذعر حرصا منهم على مستقبلهم وتأمين احتياجاتهم اليومية عبر أعمالهم ومهنهم التي يؤدونها، ففي الوقت الذي باتت فيه الأنظمة التكنولوجية والروبوتية المبرمجة متمكنة من تأدية الاعمال والاحلال محلها، بكلفة أقل وفعالية أكبر، نراها في المقابل تمكنت من إيجاد مجموعة من الخدمات والصناعات الجديدة التي لم تكن موجودة من قبل مثل متخصصي الحوسبة ومديري وسائل التواصل الاجتماعي والمسوقين الرقميين ومهندسي الطاقة ومطوري البرامج والتطبيقات.
فالعالم اليوم ذاهب وراء الرقمنة في كل شيئ، ويبدو أن السير بهذا اتجاه لا يمكن إيقافه، ففي تقرير صادر عن معهد المستقبل (IFTF) فإن ما لا يقل عن 85% من الوظائف التي ستكون موجودة عام 2030 لم يتم اختراعها حتى الآن.
يقول بعض المختصون أن التطور الكبير والمتلاحق حجّم عدد الوظائف في المجال الزراعي والصناعي وغيرها من المجالات، فاذا اعتبرنا هذه النتيجة تحمل جانب كبير من الصحة، فان من الصحيح أيضا أن الابتكار أدى إلى ولادة وظائف كثيرة تتعلق بإدارة الجوانب التكنولوجية والمعلوماتية، فقد ارتفع عدد مديري هذه التكنولوجيا بمعدل 6.5 أي أكثر من 327000 في العقود الماضية بالمملكة المتحدة وحدها، بالإضافة إلى المبرمجين والمتخصصين في تطوير البرمجيات، الذين ارتفع عددهم بنحو ثلاثة أضعاف.
نذهب بعيدا حيث البرازيل لنستعرض ما قامت به من إجراءات لتنشيط عملية النهوض التكنولوجي والتقني، فبعد جملة من الأساليب اتبعتها مابين العقدين (1995-2014)، ارتفع عدد البرازيليين العاملين من 23.8 إلى 49.6 مليون، هذه الأرقام بالتأكيد يمكن ان تكون ادلة دامغة لمن يشكك بأمكانية التكنولوجيا بتقدم الاقتصاد والمجتمعات بصورة عامة، وتوفير فرص العمل للافراد.
التكنولوجيا الحديثة وخصوصا في مجال المعلومات والاتصالات اتاحت ظهور قطاع جديد مختلف تماما عن القطاعات القديمة وهو صناعة التطبيقات، إذ تظهر الأبحاث أن تطبيقات Facebook وحدها خلقت أكثر من 291000 وظيفة حول العالم، وأن القيمة الإجمالية لاقتصاد تطبيقات Facebook تتجاوز 19 مليار دولار.
فبعد هذه البراهين لا يبقى مجال للخوف ولابد من إطلاق العنان للافكار لتنطلق والبدء بمرحلة التكيف مع المرحلة الجديدة التي خيمت على المجالات، وهنا من المفترض ان نختلص من حالة الخوف الفردي الذي أدى الى ابتعادنا بصورة مخيفة عن التكنولوجيا وآثارها على الحياة العامة.
ومن بين الخطوات التي تساعد على الوصول الى المناطق الآمنة هو تدريب الافراد وجعلهم قادرين على مواكبة او مجاراة سوق العمل ومتطلباتها، فمن دون هذا التماشي لا يمكن ان تنهض المجتمعات وستبقى متأخرة عن الركب الحداثوي.
اعتماد العمل على موظفين يتمتعون بدرجة عالية من التخصص، يؤدي بالنتيجة الى تقديم إنتاجية اكبر عبر تطوير مهارات العمل مما يعود بالفائدة على جانبي العملية الإنتاجية، وهما العامل وصاحب العمل، وهنا نكون قد حققنا حالة من الرضا الوظيفي لدى المشتغلين وتحسين كفاءتهم لتلافي المشاكل التي يواجونها في ظل تنامي التطورات التكنولوجية.
اضف تعليق