باتت الحرب الناعمة من المفاهيم الجديدة التي استحدثت في عالم الحروب؛ وترتكز على استخدام وسائل وأساليب للتأثير في الآخرين لجذبهم واستمالتهم دون استعمال الإكراه والقوة العسكرية، فهي تلك الاستراتيجية المدمرة التي تبدأ بأفراد ما تلبث أن تنتشر في المجتمع لتؤثر عليه بأكمله...
باتت الحرب الناعمة من المفاهيم الجديدة التي استحدثت في عالم الحروب؛ وترتكز على استخدام وسائل وأساليب للتأثير في الآخرين لجذبهم واستمالتهم دون استعمال الإكراه والقوة العسكرية.
وأهداف الحرب الناعمة ليست بجديدة وعرفت منذ زمن طويل، ومرّت بحقب تاريخية؛ فهي تلك الاستراتيجية المدمرة التي تبدأ بأفراد ما تلبث أن تنتشر في المجتمع لتؤثر عليه بأكمله. ولعلَّ أوَّل مَنْ صاغ أساليب هذه الحرب هو الفيلسوف الصيني (صان تزو المتوفى عام 496 قبل الميلاد). إذ أكد في فلسفته تخريب أرض العدو وحضارته وانجازاته دون إطلاق رصاصة واحدة بل لن يعدّ العدو يراك كخصم له! فسياسة الحرب يراها سبيلاً فاشلاً وغير إبداعي لتخريب وتدمير العدو بل إعلان الحرب بالنسبة له من الغباء، فأعلى فنون القتال هو عدم القتال والانجرار للحرب؛ فلها نتائج عكسية وسلبية.
ويكون التأثير على المستهدفين سواء كانوا دولاً أو مجتمعات أو مؤسسات بطرق عديدة وتختلف باختلاف الزمن وتطوره ثمَّ تُشن حملة على المفاهيم الفكرية والدينية والقيمية والحضارية. فمن وسائله تسييس الدين والإتجار به والاستهزاء به، واستبدله بمعتقدات وطوائف وخرافات، فالمهم في هذه الاستراتيجية أن يبدأ الدين يتآكل تدريجياً بفعل اعتقاد الناس أنَّه شيء بدائي وخاص بالسذج. بل تعتمد على استبدال كلّ ما هو أصلي بما هو وهمي مع التشجيع على الترفيه والتساهل بالقيم والتلاعب بها عن طريق الشعارات، وتشويه قضايا مهمة وخلق قدوات بائسة وبطولات زائفة.
ويمكن القول أن "الحرب الناعمة" ظهرت كاستراتيجية بعد تراجع سمعة الولايات المتحدة في العالم عموماً والعالم الإسلامي خصوصاً نتيجة الاستخدام المفرط للقوة العسكرية، فلجأت إلى استخدام استراتيجية جديدة للنفوذ أقل تكلفة وأقل عنفاً ولا تثير أحداً ولا تخالف القوانين والأعراف الدولية.
وأوّل مَنْ صاغ هذا المصطلح الأستاذ في جامعة هارفورد الأمريكية، مساعد وزير الدفاع للشؤون الأمنية الدولية السابق "جوزيف ناي" في كتابه الصادر عام 1990 "وثبة نحو القيادة". وقام بتطوير المفهوم في عام 2004 في كتابه "القوة الناعمة".
وكما هو واضح ليس العراق وحده المستهدف بهذه الاستراتيجية بل الكثير من دول العالم، لكن تأثيرها الفتاك سيكون من نصيب الدول التي تقف على رصيف المعرفة مكتوفة الأيدي تعاني من عجز تقني وعلمي ولديها مشاكل عصيبة في البطالة وتردي الوضع الاقتصادي والصحي ويسودها فوضى سياسية وقانونية.
وفيما يتعلق بالعراق ووسائل الحرب الناعمة التي مورست وتمارس ضده، فهي عديدة لكن تأثيرها يتراوح بين المحدود والمدمر. ويرى الباحث الأستاذ حسن الربيعي في كتابه الموسوم "العراق والصراع الناعم" أن من بين هذه الوسائل: الزمالات والمنح الدراسية للباحثين العراقيين التي تجذب لشريحة طلبة الجامعات وكذلك العلامات التجارية للمطاعم والملابس، ولا أتفق مع الأستاذ الباحث في تأثير هذه الوسائل أو على أقل تقدير تذكر مع الإشارة إلى محدودية تأثيرها أو تخضع للترتيب التصاعدي أو التنازلي؛ فالزمالات والمنح الدراسية للعراقيين محدودة جداً. ولا نملك في الحقيقة احصائية من دائرة البعثات العراقية عن عدد الزمالات والبعثات من أجل المقارنة. والكلام نفسه يقال عن "الهجرة"؛ فالذين هاجروا إلى أمريكا قليلون مقارنة بدول أخرى، ولا يخفى توجه البلدان الأوربية وأمريكا حالياً لرفض المهاجرين عموماً، والقول ينطبق أيضاً على العلامات التجارية التي هي الأخرى ليست بوسيلة فاعلة في العراق.
تبقى الخطورة محصورة إذن في عدد من الوسائل وسأتناولها تباعاً، وسأفرد هذه المقالة للهواتف الذكية حصراً.
فالخطر الأشد والأكثر فتكاً: الهواتف الذكية (أي الهواتف التي تعمل بنظام تشغيل، وتمكّن مستخدميها من استخدام أنواع التطبيقات، والإنترنت، بالإضافة إلى الخدمات الهاتفية) فهي اخترقت بقوة كلّ البيوت وغدت أهم سيلة للاتصال والتسلية وبديلة عن التلفاز، فنجدها بيد طفل بعمر سنة ونصف يتلهى بها وبيد عجوز بسن التسعين!
ومن خلالها يكون التجوال بلا قيود وبلا حدود وفي كل الأوقات وفي كل الآفاق.. لمشاهدة أفلام أجنبية.. رسوم متحركة.. ألعاب مدمرة (البوبجي أحدها).. برامج دعائية.. إعلانات لها أهداف خاصة.
فكان لها دور في تهديد العادات والأنماط السائدة من خلال إشاعة أنماط وعادات لا تمت بصلة للمجتمع العراقي، ابتداء من الملابس واتباع الموضات وتسريحات الشعر والبنطال الممزق إلى آخر صرخات وضع المكياج والأظافر.
تهديدها للمنظومة الأخلاقية بمشاهدة أفلام أجنبية تتضمن مقاطع اباحية أو بمتابعة برامج عن الجرائم التي أوحت لكثير من المجرمين بأساليب شيطانية مبتكرة لارتكاب أفعالاً لا تليق بأصالة المجتمع العراقي وعاداته، ومنها الابتزاز الالكتروني التي مورست بشكل خاص ضد الفتيات، وإكراههن على دفع مبالغ أو القيام بأعمال خاصة وإلا التشهير بسمعتهن.
ومن آثارها كذلك تعريض العلاقات الأسرية للتصدع، فلقد أحدثت الهواتف الذكية شرخاً كبيراً في هذه العلاقات بل أفضت في حالات كثيرة للطلاق؛ نتيجة اهمال الأب لعائلته أو وقوع الزوجة ضحية للابتزاز أو اغواء من شخص عرفته بالعالم الافتراضي.
أسهمت في الارتباط بمافيات عالمية، إذ ساعدت شبكات المافيا العالمية أن تجد لها أذرع وأدوات في العراق، من الجهلة والناقمين على المجتمع والباحثين عن الثراء السريع.. فظهرت شبكات للإتجار في البشر والآثار فضلاً عن تجارة المخدرات وغسيل الأموال!.
تشكل مصدراً لتهديد الهوية وخصائصها، ومن أبرز مصاديقها ضعف استعمال اللغة العربية وتراجع مستوى المنتمين لها كتابة وحديثاً.. لتحل محلها اللغات الأجنبية واللهجات، متناسين أن اللغة العربية هي لغة القرآن الكريم والرسول العظيم وبها كتب موروثنا الديني والأدبي.. فهي تشكل الهوية الإسلامية والعربية معاَ.
وهذا ما يدفعنا للمطالبة بإنشاء مراكز خاصة لدراسة تأثير الهواتف الذكية وسبل مواجهتها باعتبارها أحد وسائل الحرب الناعمة في العراق وأن يشارك بها متخصصون من مختلف الاختصاصات كعلوم النفس والاجتماع والتربية والدين واللغة للتصدي لها وايجاد حلول لآثارها المجتمعية الآنية والمستقبلية.
اضف تعليق