تعيش الأمم بين خطين زمنيين، الأول رهن الواقع، والثاني مندمج بالمستقبل، وما بين الآني والمستقبلي تعيش أمة كاملة، لها حاضرها، مستقبلها، حياتها التي تضم كل شيء بين طياتها، الحركة، البناء، العمل، المصالح، الأحلام، الأنشطة المختلفة التي تدفع بالأمة الى أمام، وعندما نقول الأمة، فإن المعني، أفرادها، الجماعات التي تنضوي تحت جناحها، ونعني بذلك العالم كله، فالناس في هذه المعمورة معا، ومسؤولية بناء المستقبل تقع على الجميع، لذا يبقى الانسان، الفرد، الجماعة، الأمة، مطالب بتطوير الانسان من خلال رسم صورة المستقبل.
رسم المستقبل لا يكفي، المكمّل لهذا الرسم، الخطوات العملية، لهذا يحتاج الأمر أن نستكشف الواقع، نمحّصه، ندرسه بعمق ودقة، ثم ندعمه بمنظومة القيم التي تسمو به الى أعلى درجات الارتقاء، ولا شيء قادر على إنجاز هذه المهمة أكثر من (القيم)، فبها يرتقي الانسان، ويعلو شأنه وتتحقق أحلامه بالانتصار للعدل والانصاف والتعاون والمحبة والتكافل، وسواها من القيم التي لا يمكن من دونها بناء واقع سليم.
في كتابه (فقه المستقبل)، يقول الإمام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) حول هذا الموضوع تحديدا: (يلزم أن تقوم التربية المستقبلية للأمة على ركيزتين: الأولى: التمسك بالقيم والأخذ بها. الثانية: ملاحظة الواقع واستكشافه بكل دقة.. فالقيم وحدها لا تؤدّي ثمارها، فكان لابدّ من ملاحظة الواقع أيضاً، إذ لا يمكن تحقق القيم بدون الواقع في الفراغ، ولا يمكن تحقق الواقع السليم بدون قيم).
قد يسأل أحدهم ما هو دور القيم في مساعدة الانسان على بناء نفسه ومن معه من أفراد وجماعات حتى يصبح عالمنا أفضل وأجمل؟، إنه في الحقيقة دور جوهري ومحوري تؤديه القيم، فالانسان قد يصبح ملَكا بالقيم، وهي وحدها القادرة على منحه سمة الإنسانية الحقة، حيث تخرجه من حدوده الضيقة ونظرته القاصرة، نحو نظرة مفتوحة الآفاق، هكذا يصبح واقع الانسان ومستقبله مكفولا بالقيم، سائرا من نجاح الى نجاح.
كما نلاحظ ذلك، في قول الإمام الشيرازي بهذا الخصوص: (إن القيم هي التي تسمو بالإنسان فوق الواقع، وتجعله متطلعاً، واعياً، مدركاً لمهام مستقبله، فالقيم تخرج الإنسان من شخصانية نظرته، ومن أفقه الشخصي المحدود، بل تخرجه من نصفية نظرته المحلية والموضعية وشبهها إلى إطلاقية نظرته الإنسانية، لتشمل العالم الذي يعيش فيه على امتداده واتّساعه، لا عرضاً فحسب، بل طولاً أيضاً).
منظومة القيم وصناعة الأمة المستقبلية؟
ليس الواقع وحده يكون مدعوما من القيم، ومعلَّقا بدورها الحاسم، لدرجة أننا لا يمكن أن نجد واقعا صحيحا من دون حضور القيم وتكريس دورها في تعاملات الإنسان فكرا وعملا، تنظيرا وتطبيقا، فالمستقبل أيضا لا يمكنه أن يقف على قدميه من دون مساعدة القيم، حتى يمكننا القول أن (لا مستقبل أفضل بلا دور مهم للقيم)، لدرجة يمكن معها أن نستنتج بأن المستقبل غير المدعوم بالقيم ما هو إلا نوع من (الخراب القادم).
هل يمكن القول أن مستقبلا بلا قيم هو نوع من العبث، وضرب من الخراب، بلا أدنى شك أن غياب القيم عن هيكلية المستقبل، تعني أننا سنكون بإزاء واقع مستقبلي مهلهل، في السياسة والأخلاق، حيث يؤدي ضمور القيم الى ضآلة الأخلاق وانتشار الأنانية، وتسيّد المصالح الضيقة، كما نلاحظ اليوم السياسة العالمية المحكومة بهذه الأخلاقيات الفاشلة بسبب تراجع القيم في التفاعلات الدولية على الأصعدة كافة.
الإمام الشيرازي ركّز كثيرا على هذه النقطة الجوهرية عندما قال بالحرف الواحد في كتابه القيّم (فقه المستقبل): إن (القيم تجعل الإنسان مستقبلياً؛ لأنها تضفي البعد المستقبلي للواقع. فالسياسة واقع، ولكنها عندما تمتزج بالأخلاق تصبح السياسة أفقاً واسعاً لا ينحصر في المصالح الضيقة، والأنانيات وبردود الأفعال الآنية، كما هي اليوم بعض السياسات الدولية التي تتعلق بالواقع فقط دون الأخذ بالقيم، فتصبح أفعالاً وردود أفعال، محورها المصالح الشخصية أو القومية أو الأمنية الضيقة فقط).
فالسياسة حاضرا ومستقبلا، لا ينبغي أن تكون بلا أخلاق، هذا إذا فكر الإنسان بأهمية بناء مجتمع بشري قائم على الأخلاق الفاضلة، خصوصا عندما تكون السياسية الأخلاقية مدعومة بالعقيدة الصحيحة، حين ذاك تكون مصانة من أمراضنا المعاصرة، ونعني بها الأنانية، والصراع المستفحل من أجل المصالح، وجعل قيمة وكرامة الانسان في أسفل قائمة الأمم والدول، مقابل اللهاث المحموم نحو الخراب، هنا لابد من وجود نموذج أخلاقي سياسي عقائدي تجسده الأمة ليكون نموذجا للأمم الأخرى.
يقول الامام الشيرازي حول هذا الجانب: (وهكذا بالنسبة للسياسة والأخلاق، عندما تمتزج مع العقيدة الصحيحة من خلال تربية فكرية للإنسان تتحكم بعواطفه ونوازعه. وعندما تسلك الأمة هذا النهج، فإن الأمم الأخرى ستقتدي بها وتقتفي آثارها).
اقتران التقدم المادي بالفكري
وعندما نبحث في واقعنا اليوم، ونعني بذلك الواقع البشري أو الإنساني، فإننا سنلمس لمس اليد ورؤية العين، أن خراب الواقع منبثق من الضمور الذي تعاني منه القيم، فلا يمكن صنع واقع متفوق فكريا وأخلاقيا وحتى ماديا، إذا لم يكن مدعوما بقوة واستمرار بالقيم، ولدينا شاهد معاصر وواضح لإثبات ذلك، حيث التقدم المادي المثير في الغرب، وهو تقدم أثار دهشة الجميع في عموم المعمورة، ولكن هل يكفي أن يتقدم الانسان ماديا، وهل هذا يجعله في منأى عن الانحراف والانحدار المتسارع؟.
الجواب، لا يكفي ما حققه الغرب من تقدم مادي كبير، وذلك بسبب ضمور القيم أو غيابها، وكأن العالم الغربي يسير الى الأمام ولكن بطريقة عرجاء، لأنه يتقدم نحو الأمام على ساق واحدة، ألا وهي (المادة)، فيما كان الأجدر به أن يمشي قدُما على ساقين إثنتين هما (المادة والقيم).
لذا يذكرنا الإمام الشيرازي بهذه المعضلة عندما يقول: (الملاحظ أنّ بعض الشعوب تقدمت كثيراً في صُنع الواقع، لكنها لم تتقدّم في مجال القيم. فعلى سبيل المثال: إنّ التقدم العلمي والصناعي في الدول الغربية لم يواكبه تقدم في نطاق القيم، سواء كانت عقدية أو أخلاقية أو إيمانية.. فالمطلوب أن يقترن هذا الجزء بذلك الكل، حتى لا تشهد الانفصام الذي أضرَّ بالبشرية كثيراً).
بالنتيجة أو الخلاصة، لكي نصنع مستقبلا إنسانيا متوازنا قائما على الركيزتين الفكرية والمادية الأخلاقية، فإننا نحتاج أن ننطلق من واقع سليم نحو هذا الهدف العالمي الكبير، من هنا فإن الإنسان في عالم اليوم، ونعني بذلك المعنيين من قادة عالميين ومفكرين وأخلاقيين في عموم العالم، ملزم بتحقيق التكامل بين الواقع والقيم وإنهاء الصراعات والتنافس غير المشروع كي تعم العدالة والسلام والحق وينضوي المجتمع البشري كله تحت سقف الطمأنينة الأبدية.
كما يؤكد ذلك المفكر الإسلامي الخالد الإمام الشيرازي بقوله: (عندما يتحقق التكامل بين الواقع والقيم تذوب الصراعات، وينتهي التنافس غير المشروع، وتعم العدالة، ويسود السلام، ويعلو صوت الحق، ويعيش الناس في طمأنينة وأمن، ويزدهر المستقبل يوماً بعد يوم. وهذه هي أهداف كل أمة صالحة تطمح إلى بناء المستقبل السعيد المشرق).
فلتكن هذه أهداف أمتنا، وليسعَ مفكرونا وعلماؤنا ومثقفونا، الى تعضيد الواقع بمضامين القيم وتأثيرها الفعلي على مستوى التأسيس والتطوير والبناء الفعلي لمقومات الواقع، فنحن اليوم بحاجة الى أن نكون الأمة النموذج التي تقتدي بها الأمم الأخرى في جانب الاقتران الحتمي للواقع بالقيم لصناعة مستقبل إنساني مشرق مزدهر عادل وكريم.
اضف تعليق