د. هيثم الحلي الحسيني
المبحث الأول: مداخلات تحليلية لمقاربة البحث وأدوات الدراسة في "فلسفة التاريخ"
تضمن الفصل الأول من الكتاب موضوع الدراسة، الموسوم "مقدمات فلسفة التاريخ"، عرضاً ومقاربة بحثية، للأسس النظرية العامة، لكل من علم التاريخ، وفلسفة التاريخ، فهو يوجز بشكل مركز، للمفاهيم والمسميات التي تشرح وتعرّف، هذا الحقل العلمي، ومكونات الدراسة التي تفصّل فيه، من خلال عناوين ذات صلة، ثبتت في صدر هذه المقدمات، وهي تبين علم التاريخ وفلسفته، وعلاقة التاريخ بالأخلاق، والتعريف بمفهوم الإستقراء، من وجهة نظر البحث التاريخي، والتعريف بالمناهج البحثية، التي تسلكها الدراسات التاريخية، في استخدام أدواتها، في الاستقراء والقياس المنطقي والتمثيل.
وعليه فإن هذا العنوان، يعد مفصلياً في البحث والكتاب، والذي خلص فيه الى مبحث "أدوار التاريخ"، من خلال استنتاج العلاقة الوظيفية، بين الدين والعلم، التي تبين انسداد وقصور كل منهما، في حالة عدم تكملة الآخر له، فيخلص الباحث الى احتياج كل منهما للآخر، فلا يمكن للعلم أو للدين، أن يؤثر دون الآخر، فهما جناحان للحضارة الصحيحة، فقد أصبحت غاية العلم، خدمة أغراض الدين، وإن العلم بدون الدين، لا يمكن أن يخدم الإنسان، أو أن يمنعه من الإفساد، فضلاً عن التأثير في الأمن المجتمعي، والوفاق والتعايش والسلم الأهلي، بحجة المهنية في البحث العلمي، مما يدعو الى اعتماد أنسنة العلم، قبل مهنيته.
وسيجري هذا المبحث من "الدراسة"، مداخلات بحثية، مستقاة من نظريات فلسفة التاريخ، ومنهجيات البحث العلمي "الميثودولوجيا"، ومعطيات الفكر الإنساني، في فكر العلم وفلسفته "الإبستيمولوجية"، لغرض استقراء المفاهيم والمدركات المعرفية، وبهدف المقاربة لمباني الكتاب، في هذه الجزئيات المعرفية.
مداخلة في أنسنة العلم وأخلاقيات البحث التاريخي
إن هذه الجزئية في الدراسات البحثية المنهجية، التي يعبّر عنها بمفهوم أنسنة العلم، أو أنسنة البحث العلمي، هي مقاربة للمنظومة القيمية للعلم، وهو الجانب الإنساني في العلم، والذي من الناحية المنطقية، يتقدم على الجوانب البحثية المنهجية، في مهنة البحث العلمي، لجهة المسؤولية الأخلاقية، لتأثيرات البحث العلمي، في الفرد والمجتمع، التي قد تؤثر سلباً في السلم الأهلي، والوفاق المجتمعي، تحت دعاوي الانفتاح العلمي، ومنع انسداد البحث فيه.
إن الأنسنة في العلم، أو Humanism، هي تعبير عن النزعة الإنسانية في العلم والبحث العلمي، بمعنى تقييد العلم والبحث العلمي، بالإطار الإنساني، في مناهجه وسياقاته وغاياته وأهدافه، وفي معطياته ونتائجه، لجهة التأثير في الفرد والمجتمع، فهو ليس بمفهوم الإنسانيات، لجهة إختصاصاتها المعرفية، وهو إشكال في المصطلح، لجهة أن سائر العلوم هي إنسانية افتراضاً، وكذا فإن الأنسنة تتميز عن مفهوم "الأخلاقيات" Ethics في العلم والبحث العلمي، التي تتحدد بالجوانب المهنية البحثية، في التزام الأمانة العلمية والمصداقية والموضوعية، والحرص على الإنصاف والحقوق، في عرض البحث وسياقه، لكنها تتكامل معه.
الثنائية التكاملية بين الدين والعلم
والحال أن البحث العلمي، الذي تشكل مخرجاته، آثاراً سلبية وتداعيات مرضية، في المجتمع الإنساني، يمكن أن يكون يجري وفق محددات معروفة، تمنع النشر العشوائي، وتحدد الإطلاع العلمي، للمجتمع النخبوي الأكاديمي حصراً، وفق قوانين حاكمة، حيث تعد القيم والتقاليد والحرمات، وحتى المحرمات أو "التابوهات" المجتمعية، كأبحاث حقيقية، للتأثيرات البحثية المجتمعية، والتي يبرز الدين كعامل حاسم، في إخضاع المجتمع لها، فهذا مؤشر واضح، لحاجة العلم للدين.
وفي التعبير عن التماهي، بين البحث العلمي والتحقيق الفقهي، أو الدراسات الدينية عموماً، يتبين إن اعتماد مناهج البحث، لأدواته المتمثلة بالإستقراء والقياس المنطقي والتمثيل، والتي تعرف بمناهج البحث، النقلية أو العقلية أو التجريبية والحدسية، وحتى "الأركيولوجية" الحفرية، وهي حال الأدوات التي يستخدمها الفقيه المجتهد الأصولي، في استنباط الأحكام الشرعية، في استقراء الجزئيات، لتكوين كليات للتحقيق الفقهي، وبالتالي استباط الجزئيات عنها، والتي تعرف بأصول مناهج التحقيق والبحث الفقهي.
فضلاً عن مناهج البحث الأخرى، التي وفرتها المعرفة العلمية "الإبستيمولوجية"، والمنهجية "الميثودولوجية"، انتهاء بالمنهج العرفاني، ودليل القياس الفقهي والاستحسان، أو ذائقة المجتهد، والتي تتماهى والتمثيل في المنطق، والتي يعتد بها عادة، في ما يعرف بسد الذرائع، كونها لا تنتج أحكاماً كلية، وهذا يبين دخلية العلم وموضوعاته، في البحث الفقهي، الذي يؤشر حاجة الدين الى العلم.
مداخلة في التماهي السلوكي بين الطبيعة والتاريخ
إن السلوك التطوري للحضارات، يتماهى في تشبيهية منطقية، بين التاريخ والجغرافية، حيث الولادة ثم النشوء والتكّون، حتى القمة صعوداَ، ومن ثم التدهور والتداعي، حتى وصولها القعر ثانية، إذ تمثّل هذه الدورة فيهما، نصف ذبذبة جيبية، في التعبير الهندسي الرياضي، لجهة شروعها من الصفر، على محور الزمن، ثم وصولها الى قمة المنحني، حيث تستغرق الفترة الأكبر من عمرها، في استقرارية قيمية غير متغيرة، يعبر عنها فيزياوياً بحرف "اللامدا"، ومن ثم رجوعها الى الصفر ثانية، أو بالدقة العلمية، الى منطقة تتناهى وقيمة الصفر، وهي النهاية أو الغاية "اللوغارتمية".
وفي الحقيقة، فهذا المسار ينطبق على سلوك الفرد في حياته، كما هو منطبق على فكرة العمر التشغيلي للآلة، وهو يفسّر تشبيه الباحث سلوك الحضارات في هذا المبحث، بسلوك دورة الموجودات في الطبيعة والكون، منطلقاً من قوانين فلسفة التاريخ، أو ما يعبر عنه في الكتاب موضوع الدراسة، بروح التاريخ.
فهذا السلوك للموجودات في الطبيعة، يتماهى وسلوك الإنسان أيضاً، في دورته الحياتية، وحتى سلوك المعدات والمنتجات الصناعية، فهي تتصرف وفق نفس القانون، وكذلك الدول أو الحضارات، التي عني بها الباحث، في هذه "المسألة"، وذلك وفق تعبير "توينبي"، لوحدة بناء فلسفة التاريخ، وهي الحضارات والدول، والتي طورها عن "ابن خلدون"، الذي اعتبر هذه الوحدة، هي العصبية، والتي عني بها، العقيدة أو الديانة، وأحيانا الأمة، أو القبيلة الكبيرة.
وعليه فإن وفق هذا القانون، الطبيعي، والهندسي، والكوني، والحضاري أيضاً، فإن المتغير فيها، يمر بثلاثة مراحل، على محور الزمن، تكون الأولى قلقة وتصاعدية ومحدودة زمنياً، حيث يكثر التقلبات المرضية، مثلاً في مرحلة الطفولة للإنسان، أو تكثر تداعيات التشغيل والأعطال، في مرحلة الأولى من عمر المعدة، وتكون عادة تحت الفحص، ثم يصل الى المرحلة الثانية، وهي تتسم بالاستقرار والأداء الثابت، بالنسبة للمعدات أو الآلات، أو السلوك الصحي المستقر، بالنسبة للإنسان، في مرحلة الصبا والشباب، وبداية الكهولة والنضج، وهذه المرحلة، يعبر عنها هندسياً ورياضياً، بمنحن ثابت وغير متعرج، يطلق عليه، بحرف اللام، "اللامدا اللاتيني أو الإغريقي".
لكن المرحلة اللاحقة والأخيرة، تشابه في سلوكياتها، للمرحلة الأولى، حيث كثرة الأعطال ومشاكل الأداء، بالنسبة للآلة، في نهاية عمرها التشغيلي، أو معاناة اختلال الصحة واعتلالها، بالنسبة للإنسان، في مرحلة شيخوخته، وعادة يقترب المنحني في نهايته، الى الصفر ثانية، أو بغايته الى الصفر، وهذا هو عينه سلوك الحضارات والدول.
مقاربة لمباحث "أدوار التاريخ"
ومن هذه المداخلة، في تماهي السلوك بين الطبيعة والتاريخ، ستجري مقاربة ما عني به الباحث المجدد، في "مسألته"، في هذا العنوان، إذ يقارب سماحته هذا المبحث، في نظرة فلسفية لدورة الحضارات، التي تتماهى في سلوكيتها التعاقبية، لدورة الموجودات في الطبيعة، وسائر الظواهر الكونية، وكذلك فقد ثبت هذا المفهوم والمعنى، في كتابات سابقة، مثل تنبّئه بسقوط النظم الشيوعية، في كتابه "ماركس ينهزم"، أو في قراءته للتغيّرات الحاصلة في العالم الغربي، في كتابه "الغرب يتغير".
وعليه فإن الباحث المجدد، يخلص في "المسألة" اللاحقة، في عنوان "الدراسة الموضوعية للتاريخ"، الى ضرورة اعتماد الموضوعية التاريخية، في نص المسألة، الى أن معرفة فلسفة التاريخ، تستوجب دراسة التاريخ بتجرد وموضوعية، وفي الحاجة الى الواقعية في الفلسفة، وأهلية الباحث المتخصص في الدراسات التاريخية، ليكون مؤهلاً للوصول الى الروح العامة، السارية في التاريخ، حاضراً ومستقبلاً، وماضياً.
وبذلك تكون هذه الدعوة العلمية البحثية، للاهتمام بالدراسات المستقبلية، التي تعتبر في إحدى جوانبها، دراسة تاريخية أيضاً، كما وهي دعوة واعية، الى اعتماد أدوات المنهج البحثي التاريخي، ومصادره المادية، المتمثلة بالوثائق والموروثات والمقتنيات المختلفة، فضلاً عن الموجودات الآثارية "الأركيولوجية" والنقلية، وفي اتباع المنهج النقلي، في قراءة النص التاريخي، واعتماد مقدماته، للخروج باستنتاجات ومخرجات بحثية.
"مسألة" التحليل الدقيق للتاريخ
يقدم الأستاذ المجدد، في هذا العنوان، "مسألة" مهمة، في شرائط القراءة الدقيقة، للوثيقة التاريخية، وفي قبول التفسيرات العصرية، للنصوص القديمة، لجهة الخصوصيات التفسيرية أو التأويلية "الهرمينوطيقية"، المتغيرة في الزمن والمفاهيم، وبذلك يشير الى المباحث الأصولية في "التعادل والتراجح"، بين الروايات المختلفة، التي تأتي في مقام تحليل التاريخ، وفلسفة القضايا الكلية أو الجزئية الشخصية، أو الزمانية أو المكانية.
إن هذا المبحث المحوري، يشكل مقدمة مجزية، في المنهج النقلي المعمّق، في الدراسات التاريخية، لجهة الدعوة للقراءة الدقيقة للنص الموروث، والوثيقة المكتوبة، وفق اللغة المستخدمة، ومفرداتها في زمان النص، بما فيها تطور المفردات والعبارات الدالة، للعبادات عند البعثة الإسلامية وقبلها، وفي العصور الإسلامية التي لحقتها.
مداخلة في القراءة الموضوعية المنهجية للنصوص
إن الحقل المختص بالدراسة العلمية للنصوص التراثية، المتضمنة في المخطوطات الموروثة، يعرف بعلم "الفيلولوجيا"، ويتضمن الممارسة العلمية النقدية، لنصوص المخطوطات، الى جانب علم "الباليوغرافيا"، الذي يهتم بدراسة الخطوط القديمة، فضلاً عن علم "المسكوكات"، الذي يبين عصر المخطوطة، ونظام الحكم فيه، لأهميته في استقراء النص، وبيان التأثيرات السياسية والمجتمعية فيه.
وبذلك فهذا العلم، يتماهى وفن التحقيق في التراث العربي الإسلامي، الذي يهتم بالكشف عن النص الأصل، ليتسنى لاحقاً دراسته، وإظهار الفكر المتضمن فيه، وثم الدراسة المعمّقة "الأركيولوجية" الحفرية له، بقصد الكشف عن الفكر المسكوت في النص، دون أن يكون ذلك إعادة لكتابته، وانما إعادة لإنتاج النص، وقراءته بشكل معمق، وبأداة علمية بحثية معاصرة، إذ لا منهجية علمية، في دعوى إعادة كتابة التاريخ، وإنما المنهجية في إعادة قراءته، واستقراء نصوصه، ومفرداته البحثية المادية، وجزئياته المشكّلة لكلياته، والتي يعنى الباحث المجدد بها، بالروح العامة للتاريخ، وهي التي تتماهى وفلسفته.
واستكمالاً للدراسة، فإن علم التحقيق، قد أصبح علماً قائماً بذاته، له مناهجه وطرائقه وقواعده ومؤلفاته، والذي يهتم بدراسة المخطوطة، بصفتها نص مكتوب موروث، ويسنده علم قائم بشروطه، وهو علم المخطوطات "الكوديكولوجيا Codicology"، الذي يهتم بالمخطوطة، بصفتها المادية والشكلية، وطريقة تصنيعها، كونها وثيقة موروثة، في حاجة لدراسة مصادرها وإنشائها ومادتها، وسير انتقالها التاريخي، حتى وصولها الى الباحث المحقق فيها، وسيجري التفصيل في العلوم المرتبطة بقراءة النص الموروث وتحقيقه، في الحلقة القادمة.
ويشترط "التحقيق" من الباحث فيه، درجة عالية من الأمانة العلمية، في إظهار الكتاب المحقق، على صورته الأولى من مؤلفه، من خلال تدقيق النصوص، والتحقق من الاشتباه في نقلها.
اضف تعليق