"... يجب أن تعلموا أن المنبر ليس عبارة عن مكان يصعد اليه الانسان، ويبين كلاماً، ثم يبكي الناس ثم ينزل، إنما المنبر يحتاج الى تفهيم الناس وتحريكهم، وليس من مهمة الخطيب أن يصعد المنبر ويقرأ المجلس الحسيني ويبكي الحاضرين، ثم ينزل ليسمع كلمات الثناء والاطراء، كلا؛ إنما هو عبارة عن قوة لتحريك الناس وقيادته الى الخير والفضيلة.
هنالك خطيب شهير في العراق يحضره الآلاف من المستمعين، ويتميز بأدائه الجميل، بيد أن هذا التميز محدود بهذا الاطار فقط، فالجمال في الخطابة تتجسد عندما ينزل الخطيب من على المنبر وقد بعث في شاب مستمع الحماس لأن يُنشئ مصنعاً، أو أن يغير نفسه وسلوكه، بأن يتوجه الى أداء الصلاة – إن لم يكن مصلياً- او أن يقلع عن احتساء الخمر – إن كان كذلك- أو أن يؤثر على شقيقته بأن ترتدي الحجاب وهكذا... بمعنى بعث روح الحركة فيه.
أما المنبر الذي ينحصر في الكلام والاستماع في شتى المواضيع فانه ليس سوى منبراً لقضاء الوقت، وليس منبراً يفيد المجتمع فائدة متوخاة ".
توجيه المشاعر العاطفية
يمكن القول أن المنبر الحسيني أبتلي بصورة نمطية وسمته بالشجن وإثارة المشاعر العاطفية، وعدم الاهتمام بالجانب الذاتي للإنسان المستمع وقضاياه النفسية وانعكاساتها على الواقع الخارجي من سلوك وعادات، لذا يأخذ البعض على المنبر أنه لم يوجد العلاقة المنهجية بين القضية والفكرة المطروحة من على المنبر، وبين واقع الثقافة لدى افراد المجتمع، في حين المعروف عن تفاصيل النهضة الحسينية أنها تشتمل على ملفات انسانية تعني بالذات والحالات النفسية التي كانت جزءاً من المشهد العاشورائي، من إصرار على التضحية حتى الرمق الاخير، كما ظهر في حوار الامام الحسين مع ابن أخيه؛ القاسم بن الحسن، ومن التحول الكبير من جبهة الباطل الى جبهة الحق، كما حصل للحر.
هذا وغيره يؤكد لنا أن للمنبر الحسيني القابلية الكبيرة والفرص المتاحة للاستفادة من دروس النهضة الحسينية في توظيف مشاعر الحزن والشجن لتحفيز القدرات الانسانية نحو تغيير الواقع السيئ، ثم التفكير بالنمو والتطور.
من أجل هذا دعا سماحة الامام الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي في حديث مسجّل، لأن يكون المنبر الحسيني من عوامل تحفيز القدرات الذاتية والطاقات الايجابية من خلال خطاب يدعو الى الحركة والحيوية في الحياة، فيما يصف المنبر المحصور بين الكلام الذي يطلقه اللسان وتتلقاه الآذان بأنه مجرد قضاء وقت.
لذا فان العبرة في نجاح المنبر الحسيني لن تكون في كثرة الحاضرين، ولا حتى طبيعة التغطية التلفزيونية وما تتضمنه من عناصر الشهرة والاستقطاب، بقدر ما يرتبط الامر في العلاقة بين الخطيب وبين الجمهور، وذات مرة تحدث سماحته عن نوعين لهذه العلاقة تجسدت في أثنين من الخطباء البارزين، أحدهما؛ يدخل الحسينية فيقوم له الناس وينقسمون سماطين، بينما الآخر "يدخل ويتخطّى الرقاب..."! ومن الطبيعي أن تكون حظوظ ذلك الخطيب أكثر من نظيره في ترك بصماته على النفوس.
إن القدرة الفائقة المنبر الحسيني على صياغة الثقافة ونشر الوعي والمساعدة على صقل المواهب والقدرات الذاتية للانسان، تعود الى عظمة القيم والمبادئ التي ضحى من أجلها الامام الحسين، عليه السلام، وهذا ما أجمع عليه الباحثون في أمر هذه النهضة من شيعة وغير شيعة، وايضاً من غير المسلمين طيلة العقود الماضية.
من خضم الأزمات الى الحركة القصوى
تصاعدت حدة الازمات وتعقيدها توحي للبعض بصعوبة التفكير بانطلاق الانسان بطاقاته وقدراته للاسهام في حل هذه الازمات، إذ يفترض حل هذه الازمات بالاول، لتوفير الاجواء المناسبة، وجرى تعميم خاطئ لهذه المعادلة، من الحاجة الى التغيير السياسي ومجابهة الاستبداد والديكتاتورية، إذ يقال دائماً؛ أن الشعب الجائع والمأزوم لا يسعه التفكير بحقوقه، فهو بحاجة الى حل أزمات الكهرباء والماء وفرص العمل والسكن والديون وكل ما يحيط بحياته الخاصة قبل ان التفكير بأمور معنوية، مثل قدرته على الابداع والانتاج وغير ذلك.
بيد أن علماء النفس أشاروا الى عكس ذلك، كما أكد ذلك عدد من علماء الدين والمفكرين الاسلاميين من أن الانسان لن يظهر معدنه الحقيقي ويفجر طاقاته إلا وقت الامتحانات العسيرة او ما يصفه القرآن الكريم بـ "الفتنة" وهي نوع من انواع الاختبار والاحتكاك يعيشه الانسان ليثبت من خلاله صموده وما يحمله من قابليات وقدرات، وهذا ما نلاحظه في تعرض الشعوب لكوارث طبيعية او ازمات سياسية او اقتصادية، من حروب وانهيارات في البورصة او العملة وغير ذلك، بل إن بعض علماء النفس يجدون في المسألة حالة تلقائية، فكلما كانت الازمات أشد وطأة، كان الاندفاع للمواجهة اكثر بناء على حالة عفوية من الانسان يطلقون عليها "رد الفعل الحرج لمجابهة أخطار داهمة تبدو أن لا أمل في الخروج منها"، وكما يصدق هذا على الانسان الفرد، فانه يشمل المجتمع والامة في مواجهة أزمات خانقة تبعث عن اليأس القاتل، وامامنا شواهد عديدة من التاريخ الحديث لشعوب واجهت العبودية والاستبداد بما يشبه الموت البطئ ولكنها بمراجعة سريعة لمكنوناتها النفسية تمكنت من الغلبة وخلق واقع جديد.
ولعل من ابرز مصاديق النجاح في تجارب قادها المنبر الحسيني، ما جرى في السنوات الاولى من تاريخ النهضة الحسينية، عندما ظهر أول منبر في عقر دار العدو، وهو مجلس يزيد، الذي تصور أنه الحاكم الأقوى والمنتصر، فكانت لكلمات الامام زين العابدين واستثاراته لدفائن العقول والمشاعر، وايضاً كلمات السيدة زينب، عليهما السلام، الاثر الواضح في انطلاق حراك اجتماعي وسياسي وسط الامة، تجسد في ثورات وانتفاضات عديدة قوضت في النهاية، الحكم الأموي، واستمرت المجابهة العنيدة و"الرافضة" لكل اشكال الاستبداد والطغيان الانحراف في العهد العباسي، حيث كانت الانتفاضات التي يتحدث عنها المؤرخون تسير بموازاة حركة المنبر الحسيني والحراك الثقافي بقيادة الأئمة المعصومين، عليهم السلام، بحثّهم ودعوتهم الخطباء بعدم الانقطاع عن تشكيل المجالس الحسينية، وايضاً تشجيعهم الشعراء لنظم القصائد المتضمنة معاني الرفض والمواجهة.
وهنا يمكننا اجراء مقاربة علمية بين ما توصل اليه الباحثون في التاريخ الاسلامي وما توصل اليه علماء النفس الايجابي، حول قدرة الانسان على الخروج منتصراً من أكثر الازمات والشدائد خطورة، فقد أثار الباحثون ازدياد قوة التشيع مع ازدياد حدّة المواجهة مع الحاكمين على طول الخط، فقد واجهوا عمليات إبادة حقيقية ومطاردة وتضييق وتشريد وحتى نبذ مجتمعي منذ العهد الاموي ومروراً بالعهد العباسي وحتى التاريخ الحديث، بيد ان هذا لم يمنع من ظهور تطورات مذهلة في الفكر السياسي وتأصيل للعلوم الدينية ونمو وانتشار ايجابي بناء للمجتمع الشيعي في كل مكان بالعالم.
وفي الآونة الاخيرة طرح علماء النفس الايجابي تساؤلاً عن "ظاهرة ملغزة تلاحظ عند المصابين بالشدائد وبعد الخروج منها"، نقلها الكاتب المصري مصطفى حجازي في كتابه "إطلاق طاقات الحياة" من "أن المفترض ملاحظة أعراض الشدة التالية للصدمات، إلا انه بموازاة أعراض الشدة المرضية هذه، تلاحظ لدى نسبة مظاهر ايجابية نمائية تتمثل بالمزيد من القوة والمجابهة والتحمل، واتخاذ الحياة لمعان جديدة والنظر اليها برؤى جديدة، وبروز اهمية القيم والروحانيات وتعزيز الايمان وأهمية الصداقة والتعضيد والروابط الوثيقة....".
ولو أجلنا النظر الى واقع مجتمعاتنا، وتحديداً المجتمع العراقي، ليس في حدوده الجغرافية المصطنعة والضيقة فقط، إنما في رحاب الهوية والانتماء، نجد أنه على طول الخط يتميز بالتفاعل والعطاء والابداع رغم ما تحتوشه الازمات السياسية والاقتصادية وحتى النفسية من ضغوط ومنغّصات في داخل بلده او مختلف بلاد العالم، فنلاحظ هنا وهناك حالات تفوق وتميّز بين الجاليات في العالم، في مجالات العلم والثقافة المجتمعية والسلوك الفردي، حيث مظاهر السلام والتعايش والتعاون واحترام الآخر، ويتجلّى هذا بشكل أكثر عندما يرتبط حراكهم ونشاطهم بالامام الحسين، عليه السلام، ليس في فقط شهري محرم وصفر، وإنما في سائر ايام السنة.
اضف تعليق