(بالاقتصاد والنظام نتقدم)، هذه مقولة معروفة أطلقها الإمام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، قبل العديد من العقود، وجاءت ضمن رؤية مدروسة له، قدمت عددا من البدائل والمقترحات لصنّاع القرار وللقائمين على الاقتصاد في الدول الاسلامية التي تأخرت كثيرا عن دول العالم المتقدمة اقتصاديا، وقد استخلص سماحته هذه القاعدة او المقولة من متابعته آنذاك للوضع الاقتصادي العالمي، وللتطور السريع الذي حققته دول كانت متأخرة كاليابان مثلا، بعد أن اتخذت من التنظيم الدقيق وبناء الاقتصاد السليم منطلقا لتقدمها.
إن الدولة التي تفتقر الى التنظيم، والى الاقتصاد في النفقات وتبويبها وفق تخطيط سليم، سوف تُصاب بانتكاسة كبرى، في جميع مجالات الحياة، وقد يحدث هذا الهبوط في مستوى تقدم الدولة ومؤسساتها الانتاجية والتنظيمية بصورة متسارعة، حتى تصبح هيكلا لدولة متهالكة، ينخرها التخلف، ويأكلها التراجع في سلسلة الأعمال التجارية والاقتصادية عموما، والتي ستنعكس بصورة غير مباشرة على التعليم والصحة والزراعة والصناعة وسواها.
لذلك تنبّهت الدول التي اصبحت اليوم متطورة والتي كانت بالأمس متخلفة، الى هذه المشكلة وشرعت بمعالجتها بطرق علمية عملية، عبر التخطيط والتنفيذ المبرمج والخاضع لرقابة دقيقة، كل هذا حدث ضمن اطار الالتزام بالنظام والاقتصاد، هاتان القاعدتان اللتان قال عنهما الامام الشيرازي في كتابه القيّم، الموسوم بـ (لكي لا تتنازعوا): (لقد أصبح العالم كله يسير ــ على الأغلب ــ تحت رعاية النظام والاقتصاد، فكل جماعة أو أمة أو شعب، يفقد أحد الأمرين ينزل مستواه.. وينزل أكثر وأكثر.. حتى يصل أسفل سافلين).
وقد لاحظ سماحة الامام أن الدول الاسلامية تفتقد فعلا لهاتين القاعدتين، ولم يعبأ المسؤولون بهذا النقص الخطير، ولم يبادروا لمعالجته، مثلما فعلت دول كانت تقع في عداد الدول المتأخرة، ثم أصبحت تصطف بجدارة الى جانب الدول المتقدمة، يقول الامام الشيرازي عن هذه الظاهرة: (يفتقد المسلمون لكلا الأمرين، النظام والاقتصاد (إلا ما شذ) ولذا نرى تأخرهم كل يوم في جميع جوانب الحياة، بينما الطرف المقابل أخذ بالصعود كل يوم في مختلف نواحي الحياة).
ثم يقدم لنا الامام الشيرازي مثالا من الواقع العالمي حول هذه الظاهرة، لكي يثبت أن دول العالم التي قفزت فوق حاجز التخلف الى التقدم، استطاعت أن تحقق نجاحا ملحوظا بل كبيرا عندما اعتمدت النظام والاقتصاد، قائلا سماحته حول هذا الجانب: (لندع الغربيين: فهذه اليابان غزت العالم بصناعتها مع أنها ــ قبل مائة سنة ــ كانت من الدول المتأخرة، إنها أخذت فجأة بالنظام والاقتصاد، ولذا أخذت بالتصاعد حتى بدأت تهدد الغرب في صناعتها).
لنأخذ بالنظام والغنى
لكي يدعم الامام الشيرازي رؤيته هذه، وتركيزه على أهمية النظم، والغنى، دعم وجهة نظره هذه بما دعا إليه الرسول الأكرم (ص) وطبقه ابان شروعه بتأسيس وتطوير دولة المسلمين بعد اعلان الرسالة النبوية، خاصة أن تعاليم الاسلام ركزت على هذين الجانبين، كما نلاحظ ذلك في قول الامام الشيرازي: (قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم (نعم العون على الدين: الغنى)، وهذا دليل قاطع على أهمية الاقتصاد لزيادة أرصدة الخزينة من الأموال كي تتحول الدولة من الفقر الى الغني وحتى يكون بإمكانها اطلاق مشاريع ربحية كبيرة.
كما أننا نلاحظ تركيز قائد المسلمين الأعلى الامام علي عليه السلام على اعتماد النظم في ادارة شؤون الدولة والمجتمع، حيث اكد الامام الشيرازي على: أن (الإسلام أول دين نادى بهذين الأمرين، فقد قال علي عليه السلام: (الله..الله.. في نظم أمركم)، وعندما يؤكد الرسول (ص) على أهمية غنى الدولة، ويؤكد الامام علي (ع) على أهمية النظم، فإن هذا يدل بما لا يقب الشك على أهمية النظام (التنظيم) والاقتصاد (أي ادارة الأموال بصورة ناجحة) ومضاعفة خزينة الدولة ومواردها عبر الاهتمام بهدف عبور حاجز التخلف نحو التطور.
هنا يتساءل الامام الشيرازي، اذا كان الرسول الأكرم (ص)، والامام علي (ع)، قد أخذا بهاتين الركيزتين او القاعدتين في ادارة شؤون الدولة: (فلماذا لا نأخذ بهما؟). ولماذا يتراجع قادتنا وتتأخر حكوماتنا في الاستفادة من هذه المنطلقات والتجارب لكي تتقدم بالدول الاسلامية الى أمام، وكيف تسمح لدول اخرى كانت تسير وراءها، أن تتقدم أمامها وتتصدر العالم الحديث المعاصر، فيما يبقى المسلمون في (قمة التأخر) كما قرأنا ذلك في قول الامام الشيرازي، معبرا عن أسفه على الحكومات التي أسهمت بتأخر المسلمين بعد أن أهملت هاتين القاعدتين.
إن رؤية الامام الشيرازي هذه تعود الى عقود مضت، حيث استشرف الامام المستقبل في ذلك الحين، وحثّ قادة المسلمين على اعتماد (التنظيم، والاقتصاد في النفقات) والشروع باطلاق المشاريع الصناعية والزراعية العملاقة، ولكن الحكام والحكومات كانت منشغلة بحماية عروشها وامتيازات سلطتها، ولم يخطر لها إنقاذ المسلمين من فقرهم وتأخرهم، والعبور بهم فوق حاجز التخلف، ففضلت تلك الحكومات مصالحها على مصالح شعوبها، بالضبط كما يحدث الآن في دول اسلامية منها العراق.
أهمية التبرع لانجاز المشاريع
يؤكد الامام الشيرازي على أهمية ان يكون منهج التنظيم وترتيب الاقتصاد مأخوذ من واقعنا، وبما يتلاءم مع تجربتنا، لا أن يكون دخيل علينا، ولكن هذا لا يمنع من الاستفادة من تجارب الاخرين في هذا المجال، كما ينبغي أن يهتم الأثرياء بقضية التبرع، وأن يفهموا أهمية هذا الجانب في تقدم الدولة والمجتمع الاسلامي، وأن لا يترددوا في هذا المجال قي أنملة، لما للتبرع من فوائد كبيرة جدا تنعكس على حياة الناس جميعا، خاصة عندما يتم انفاقها في بناء المؤسسات العلمية والانتاجية.
يقول الامام الشيرازي حول هذا الجانب: (النظام والاقتصاد يجب أن يكونا من واقعنا؛ لا شيئاً يفرض علينا فرضاً، إنك ترى الثري الفلاني يبني داره بعشرات الألوف، ويؤثثها بالألوف، ويخصص لسفره ــ كل عام ــ ألفاً أو أكثر، ويزوج ولده بآلاف الدنانير أو أكثر، فإذا قيل له: تبرع لمشروع كذا. قدم إليك خمسة دنانير أو عشرة.. إن هذا وليد عدم تفهم الاقتصاد في الجانب الاجتماعي والديني).
ان عدم التنظيم الحياتي عموما والاقتصادي يجعل من حياة المجتمع في حالة من البعثرة والفوضى، وهذا هو ما جرى ويجري للمسلمين في العصر الراهن لذلك ينعكس عدم الالتزام بالنظام والاقتصاد على عموم حياة المجتمع حتى الدينية منها كما نلاحظ ذلك في قول الامام الشيرازي: (إن حياتنا ليست منظمة وليست لدينا تنظيمات في الأمور الدينية وهذا ما يوجب بعثرة القوى واضمحلال الشخصية وبالنتيجة السقوط كما حدث فعلاً).
لذا يشترط الامام الشيرازي على المسلمين أن يدخلوا التنظيم والنظام والدقة، والاقتصاد في حياتهم اليومية وغيرها، من أجل تحقيق التقدم، ولا يمكن وفق رؤية سماحته أن يتحقق تجاوز حاجز التخلف ما لم يتحقق هذا الشرط، وعلى القادة والمسؤولين أن يعوا أهمية هذا الأمر، وأن يسعوا بجدية للشروع في تطبيقه، كونه يمثل الطريق القويم الذي يقودنا الى صناعة دولة متقدمة ومجتمع متطور.
من هنا يؤكد الامام الشيرازي قائلا: (إن علينا أن ندخل النظام والاقتصاد في جميع جوانب الحياة اليومية وغير اليومية إذا أردنا التقدم).
اضف تعليق