لا يزال العراقيون يكافحون من أجل تثبيت الاستقرار لدولتهم، فهناك فوضى في السياسة والاقتصاد والتعليم، وفي عموم المجالات الأخرى، صنعتها الأحداث المتعاقبة، منذ نيسان 2003، وأسهمت في تكريسها حكومات عديدة تعاقبت على ادارة شؤون الدولة منذ اكثر من عشر سنوات، وغالبا ما كان ضجيج الشعارات لتلك الحكومات هو الغالب على العمل، فعندما نأتي الى الواقع لا نجد شيئا تم تنفيذه من تلك ألقول والتصريحات والوعود التي يطلقها القادة السياسيون في مناسبة او من دونها.
ولكن في الغالب كانت الطبقة السياسية ولا تزال، تنشط بقوة عندما تقترب دورات الانتخاب في العاصمة او في المحافظات لاختيار الحكومات المحلية، وكانت الشعارات البراقة هي ديدن الطبقة السياسية بشخوصها، وبالاحزاب والكتل المشاركة فيها، وما أن تنتهي الانتخابات حتى تعود (حليمة الى عادتها القادمة)، ليبدأ مسلسل الضحك على الذقون، فتصدح الحناجر في الفضائيات والمؤتمرات والمناسبات لتطلق شعارات رنانة، لكنها للأسف لم نجد لها أي وجد على أرض الحقيقة أو الواقع.
والمشكلة التي غالبا ما كانت ولا تزال ترافق البرامج الحكومية، هي كثرة التصريحات والكلام والاعلانات والشعارات، يقابلها قلة او غياب تام للتنفيذ، فيصبح ضجيج الشعار اقوى بكثير من التنفيذ في الواقع، وهنا تقع الحكومة في مشكلة المبالغة في الوعود التي لا تتمكن من تحقيقها للشعب.
يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيم، الموسوم بـ (اذا قام الاسلام في العراق) حول هذا الموضوع تحديدا: (إن الشعار غالبا ما يكون فيه مبالغة أكثر من الواقع الموجود مما يؤدي إلى الإضرار بالواقع بسبب مبالغة الشعار).
وهناك حالة لا يفهمها المسؤولون الحكوميون، تتعلق بكثرة الوعود، وكثرة الكلام حول انجاز المشاريع التي تهم حياة الشعب بالقول والشعار فقط، ولكن حين تأتي للواقع لا تلمس شيئا من تلك الوعود، وهكذا مع مرور الوقت اصبح الناس ينظرون الى من يكثر الكلام حول الانجاز بأنه غير جاد في اقواله ووعوده، فيصل الامر الى اتهامه بالكذب والخداع وما شابه، لذلك من الأفضل أن يعمل المسؤول بصمتن ويترك أعماله هي التي تتحدث عنه.
من هنا يقول الامام الشيرازي في كتابه تفسه حول هذا الجانب: (إن من يُكثر في الكلام يظن الناس به دون حقه، ويشكون في أصل عمله حتى لو كان عاملا).
إنقاذ البلد من أزمته
كيف يمكن أن تنقذ الحكومة شعبها من الاوضاع المؤسفة التي تعكر عليه صفوه؟، وما هي الأساليب التي تساعد القادة السياسيين على تحقيق هذا الهدف الجوهري، أن من أهم الخطوات التي ينبغي أن يُقْدِم عليها الساسة او الطبقة السياسية على وجه العموم، هو التركيز على الأداء الفعلي للمشاريع والبرامج المخطط لها والمعلن عنها، وعدم الانشغال بالصخب والصراخ وجعجعة الشعارات التي في الغالب لا تنتج (طحينا)، فالوعود والتصريحات كلمات تحل محل العمل، وتحرم الشعب والمسؤول من اداء مهامة وواجباته.
لهذا أهم ما ينبغي ان ينشغل به الساسة، هو ليس التصريحات في الفضائيات ووسائل الاعلام واعطاء الوعود الكاذبة للشعب، وانما الأهم من هذا كله هو العمل والانجاز والانتاج بصمت، بعيدا عن الضوضاء والصخب الاعلامي والشعارات الفارغة من الصدق والتنفيذ، إن من يعطي وعودا للناس سوف يتم النظر له بشك وريبة، لذلك فإن العمل بلا ضجيج هو الأفضل.
يقول الامام الشيرازي حول هذا الموضوع تحديدا: (إذا لم تقل شيئا وركزت جهودك على عملك وأدائه على أحسن وجه، ظنوا بك خيرا وكبر عملك في أعينهم(.
وإثباتا لهذا الاسلوب من التفكير والعمل، فإن التجربة أثبتت، أن من يبتعد عن جعجعة التصريحات والوعود، ويجعل عمله لسانا يتحدث عن منجزاته، سوف يحصل على ثقة الشعب واعجابه، وسيبقى الناس يتحدثون عن أعماله من دون أن يعلن او يعد أحدا بشيء، وهذا الاسلوب في التعامل مع المنصب والمسؤولية ومع الشعب هو الأكثر صوابا من سواه.
ولكي نتأكد من صحة هذا الاسلوب في التعامل مع المسؤولية والانجاز، فإن هناك من رفع شعارا له يدعو فيه الى جعل الانتاج هو الذي يتحدث عن القائد السياسي او عن اي مسؤول كان، لدرجة أن مفعول مثل هذا الاسلوب نجح في انقاذ احد البلدان من الاستعمار.
يقول الامام الشيرازي في هذا المجال بكتابه المذكور نفسه: (لقد كان شعار أحد الأحزاب الإسلامية: - إعمل ولا تتكلم- ولذلك نجح في إنقاذ بلاده من الاستعمار الذي دام أكثر من قرن).
سياسة صرف الأنظار عن الحقائق
هكذا يمكن أن يكون انشغال السياسي والمسؤول بالكلام والتصريحات واطلاق الشعارات، ذا نتائج عكسية تماما، حيث يكون حصد النتائج سريعا ولكن على حساب العمق او البعد الاستراتيجي الأكثر فائدة من الفوائد الآنية، كذلك يقول المعنون ان مفعول الأقوال لا يصمد طويلا، أو أن تأثيره وقتي يلازم الحالة المعلن عنها، وما أن تزول الحالة حتى يزول تأثير الكلام تماما. كما نلاحظ ذلك في قول الامام الشيرازي حول هذا الموضوع عندما يؤكد سماحته على: أن سياسة الشعار (وإن كان يتصور فائدته على مستوى السطح ولكنه يضر في العمق لأنه يصرف الأنظار والأفكار عن حقيقة العمل وعمقه إلى مجرد الكلام. وكذلك كونه وقتيا لا يستمر في تأثيره طول الخط).
ولذلك فإن مشكلة الحكومات الفاشلة أن مسؤوليها ووزرائها، يتمسكون بالوعود والشعارات وينظرون لها على أنها بديلا عن العمل والانجاز الفعلي لما يحتاجه الشعب وما يسهم في تقدم الدولة وتطورها، وفي الوقت نفسه يتركون العمل بالوعود، بل يتمسكون بالكلام فقط، ويبقون يرددون الوعود من دون ان يقترن ذلك بالعمل الفعلي، فيفهم الناس أن قادتهم يطبقون معهم سياسة (الضحك على الذقون)، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، حيث تنطبق عليهم الآية الكريمة التي تقول (يا أيها الذين آمنوا، لِمَ تقولون ما لا تفعلون).
وشتان بين قائد ومسؤول يعلن ويخطط وينفذ مشروعا يبني دولة ويطور شعبا، وبين مسؤول وقائد، يبقى حبيس الكلمات والأقوال والوعود التي لا تتحول الى أعمال أبدا، وهناك حكومات من هذا النوع تضيّع الفرصة على نفسها وعلى شعوبها باتباع سياسات التمسك بالشعار الفارغ والوعود الكاذبة، في حين أن الصحيح، هو اتباع سياسة مرافقة العمل للوعود والتصريح والاعلان، وربط تلك الوعود المعلَن عنها بالانجاز دائما، وهذا هو الاسلوب الذي ارتقى بالدول الى العلو فتسلقت سلم المجد والارتقاء.
واخيرا هناك بون شاسع بين قادة سياسيين يتمسكون بالتفكير المنطقي ويعملون في ضوئه، وبين قادة سطحيين لا عمق لديهم، يتمسكون بالأقوال الفارغة ويتركون العمل والانجاز الحقيقي، وهؤلاء هم السبب بالأزمات التي تعيشها شعوبهم ودولهم.
لذا يؤكد الامام الشيرازي على هذا الجانب إذ يقول: (إن بعض السطحيين ينظرون إلى الشعار ويتمسكون به، ويتركون العمل به، ولكن العقلاء لا ينظرون إلا إلى العمل المدروس حسب الفكر المنطقي).
اضف تعليق