للبيئة اشكال متعددة تؤثر في تشكيل وبناء شخصية الانسان، منها على سبيل المثال البيئة الاجتماعية التي تمثل الوسط البشري حيث يولد الانسان، ويتربى فيه طفلا، وينمو صبيا مراهقا، ثم شاباً فكهلا، وهذا الحيز الاجتماعي ينطوي على منظومات فكرية وسلوكية، تهدف الى ضبط وتنظيم العلاقات الاجتماعية المختلفة في المجالات كافة، وغالبا ما يؤثر هذا المحيط بالانسان، بل هناك حتمية في تشكيل شخصية الانسان وفقا لثقافة المحيط الاجتماعي الذي يولد ويترعرع فيه، ولا ينحصر الامر بالمكان فقط، بل بنوع المحيط نفسه، والثقافة التي يؤمن بها ويسير وفقا لها، فضلا عن القيم والاعراف التي تسود ذلك المحيط وطبائع الناس، والظروف الطبيعية والبشرية التي تحكم ذلك المجتمع.
ويمكن تحديد أهمية البيئة بمفهومها الشامل، من خلال تدخلها المباشر وغير المباشر في التأثير بشخصية الانسان ومن ثم المجتمع عموما، ولا نعني بالبيئة معناها المتعلق بالطبيعة وآثارها فقط، بل ثمة أشكال بيئية عديدة ، تؤثر في حياة الانسان، وتتدخل في تشكيل شخصيته، لذا حاول الانسان منذ أن بدأ عصر الوعي والتنوير البشري، أن يتدخل في تطويع البيئة لكي تتلاءم مع حاجاته وظروفه وتطلعاته كافة.
ويعرّف الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (الفقه: البيئة)، المفهوم العام للبيئة بما يلي: (البيئة بالمعنى العـام عبارة عـن مجموعة الظروف والمؤثرات الخارجية والداخلية، فالبيئـة المحيطة بأي كائن مـن إنسان أو حيوان أو نبات تشمل الظروف السلبية وتشمـل الآثار الطبيعية والكيماويـة والصحراوية والبحرية والجوية والنباتية والاجتماعية، وهـي ـ أي الظروف والمؤثرات مترابطة بعضها بالبعض الآخر)، وهكذا لا يمكن النظر الى البيئة نظرة تجزيئية، بل ينبغي أن يُنظر إليها على أنها كل متكامل، لتحقيق السهولة والوضوح في التعامل مع البيئة خدمة لتطلعات الانسان، والرغبة في بناء شخصية رصينة متوازنة، قادرة على العيش بطريقة تجعل الانسان راضيا عن نفسه، وتساعده على أن يكون عنصرا فاعلا في مجتمعه وبيئته عموما، لذا يُستحسَن أخذ البيئة وفق نظرة شاملة.
يقول الامام الشيرازي في هذا المجال بكتابه المذكور نفسه: (إذن البيئة وحدة متكاملـة تتجمّع فيها الكثير مـن العلوم التي اكتشفها الإنسان من سياسـة واجتماع واقتصاد وغير ذلك، وكما سبقت الإشارة إليه، فالبيئة بالمعنى الأعم تشمل البيئة الوراثية والبيئة الاجتماعية والبيئة الثقافية والبيئة الاقتصادية والبيئة الطبيعية وغير ذلك).
تأثيرات البيئة الوراثية
لاشك أن التأثيرات التي تتعرض لها شخصية الانسان، لا تنحصر بالقيم او الاعراف او الثقافات، ولا تنحصر البيئة بالاجواء التي تتعلق بالطبيعة حصرا كما ذكرنا سابقا، بل تتعدد تأثيرات فروع البيئة، كما هو الحال مع التأثير الذي تعكسه البيئة الوراثية على الانسان، وطرق تفكيره وسلوكه وانماط عيشه المتنوعة، ويُقصد بالوراثة مجموعة الطبائع التي يرثها الابن او البنت من ابويهما، ويتعلق هذا الامر في الوضع النفسي والاخلاقي، وحتى الآداب التي تنتقل بالتعليم والاحتكاك والوراثة ايضا.
يرى الامام الشيرازي في هذا المجال على: أن (البيئة الوراثية تؤثر على الولد بالإضافة إلى تأثيرها فـي نفس الأم وأخلاقها وآدابها وأعمالها والتزاماتها وغير ذلك). ويضيف الامام قائلا: (هـذا بالإضافة إلـى أن المرأة الجميلة ـ مثلاً إذا كانت غير ملتزمة ـ سيكون جمالها وبالاً على زوجها، فكيف سيكون حال أولادها وأسرتها). هنا يتدخل شكل الانسان وتأثيره في سلوكه، ثم خطورة انتقاله الى الابناء فيما لو كان سلوكا مريبا، أو يتعارض مع التعاليم الاسلامية والضوابط العرفية والاخلاقية، ويقودنا هذا الامر الى البيئة الاجتماعية وأثرها الكبير في بناء الشخصية، ونعني بالبيئة الاجتماعية المحيط البشري الذي يتحرك فيه الانسان، بدءاً من المحيط الأصغر والاول وهو المحيط العائلي، صعودا الى المحيطات الأوسع كمحيط الدراسة أو العمل وما شابه، وتكمن أهمية هذا النوع من البيئة في تدخله الواضح بتوجهات الانسان وطبيعة أفكاره، وينعكس هذا الامر على الانتماء أو التضاد والتناقض او الالتقاء وما شابه.
يقول الامام الشيرازي في كتابه هذا، عن أهمية هذا النوع من البيئة: إن (البيئة الاجتماعية هي ممـا تشكل شخصية الإنسان، فإذا كانت هذه البيئة بيئة إيمانية ينشأ الطفل علـى الإيمان، وإذا كانت بيئة منحرفة ينشأ الطفل نشأة منحرفة). ولدينا أيضا البيئة الثقافية، وهي تتعلق بمنظومة المعرفة التي تصل الى الانسان خلال حياته، ويبدأ هذا الدور منذ مرحلة تشكل الجنين في رحم امه، من هنا تكمن الاهمية القصوى لنوع الثقافة التي يحصل عليها الانسان، وتأثيرها في عموم حياته العملية والفكرية. إذ يؤكد الامام الشيرازي قائلا حول هذا الموضوع بكتابه المذكور نفسه: (للبيئة الثقافية تأثيرٌ في تنشئة الولد، وقد ذكر علماء النفس تأثير الثقافة على الجنين، فكيف بالوليد، ونقصـد بالبيئة الثقافية المعرفـة والعقائد والعلـم والقانون والأخلاق والعُرف والعادة وما أشبه ذلك).
أثر البيئتان الاقتصادية والطبيعية
وتبرز لنا البيئة الاقتصادية ايضا، ودورها الكبير في بناء الشخصية الرصينة، ونعني بالاقتصاد مدى قدرة العائلة على توفير الحياة الافضل لأبنائها، وتوفير مستلزمات التعليم والعناية بالمواهب، ناهيك عن طبيعة المأكل والملبس والعيش بصورة عامة، فالطفل عادة ما يتأثر بحالات القصور المادي، ولعل الفقر والعوز من أخطر الآفات الاقتصادية التي تشترك في تدمير حياة الانسان، وتدفعها الى الانحراف أو المرض وما شابه، لذا يؤكد الامام الشيرازي على صعوبة العوائق الاقتصادية، وتأثيرها فى مسيرة الانسان، فردا كان أو مجتمعا، إذ يقول الامام في هذا الصدد: (للمشكلات الاقتصادية تأثير كبير فـي البعد التربوي للأطفال، وقـد تؤدي إلى تخلّف عقلي وانحراف نفسي يصيب الأطفال وهم لا ذنب لهم إلاّ أنهم ولدوا في أسرةٍ متهاوية ومنحرفة أخلاقياً وعقيديّاً).
ولعلنا لا نبالغ اذا قلنا بأن البيئة الطبيعية تعد من اهم فروع البيئة، وربما أخطرها واكثرها تدخلا في حياة الانسان شكلا وجوهرا، فقد لا يظن احدنا ان درجة الحرارة يمكن أن تؤثر في طريقة تصرف الانسان ونوعية تفكيره، وقد نستبعد تدخل طبيعة الطقس في نجاح الانسان أو فشله في تحقيق اهدافه وطموحاته، لكن في حقيقة الامر أن البيئة الطبيعية لها تأثير كبير على الانسان، لذا حاول الانسان منذ أن عرف التوطين والتجمع أن يسيطر على الطبيعة ويجعلها مناسبة للعيش والنشاط البشري المتنوع، وكلنا نتفق مثلا على أن ارتفاع درجة الحرارة، يجعل الانسان أكثر عرضة للاستفزاز، ويجعل اعصابه عرضة للانهيار او الاهتياج، فما بالك مثلا بالجو الغباري الذي يحيل الهواء كله الى لون رمادي، يستحيل معه القيام بأي نشاط بشري، وهذا يحدث من لدن الانسان نفسه، يقول الامام الشيرازي في هذا المجال: (للبيئة الطبيعية أثر كبير على حياة الإنسان، فمن كان يعيش بعيداً عن الشمس في طرف الشمال أو الجنوب ـ مثـلاً ـ حيث يبرد الهواء هناك ليصل إلـى ما يقارب الثلاثين تحت الصفر أو أكثر، نلاحظ أثر ذلك في أمزجتهم الباردة وأخلاقهم عادة، ونوعاً ما فـي أبدانهم. فعظمت أبدانهم وابيضت ألوانهم وانسدلت شعورهم. أما مَـن كان قريباً من خط معدّل النهار ومن خط الاستواء فإن أمزجتهـم تصبح حارة وبشرتهم مائلة إلى السواد، لكثرة تعرضهم لأشعة الشمس وربّما تغلظ شعورهم و مشاعرهم ليغلب عليها حدَّة الطبع في الجملة، وهناك أمثلة كثيرة على أثر البيئة الطبيعية على البشرية).
لذلك من الاهمية بمكان أن يتعامل الانسان بحرص ودقة وذكاء، مع البيئة بكل فروعها، لانها تتدخل بصورة مباشرة في بناء شخصيته وطبيعة حياته، خاصة البيئة الطبيعية التي تتطلب جهودا كبيرة، فردية وجماعية، أهلية ورسمية، لكي تصبح الحياة أكثر انسجاما وتواؤما مع النشاط والانتاج البشري، في عموم المجالات الفكرية والمادية.
اضف تعليق