في كتاباته، يبحث الإمام المجدد السيد محمد الحسيني الشيرازي(قده) بشكل معمق، مسترشداً ومتبصّراً بالنص المقدس، في قضيتي "إمداد الله للإنسان"، و"لئن شكرتم لأزيدنكم"، فيخلص فيهما الى أن الإنسان مهما بلغ من العلم، لا يمكن أن يستوعب كل الشروط والخصوصيات، في السنن الإلهية، كونها ليست مطلقة غير مشروطة، ولا عامة غير مخصصة.
ويربط سماحته هذه المقدمات، مع مبنى "مقومات الحضارة"، إذ تنص مسألته، بأن المبادئ المتينة لصناعة الحضارة، تقوم على الانسجام مع العقل والفطرة والرجال الصلحاء، وهي سمة القيم السماوية، وهو بذلك يتقاطع وبعض الرؤى الغربية، التي ترجع قيام الحضارة الى شخصيات التاريخ والسياسة، التي تكون فوق مستوى القيم الأخلاقية، مما يلقي بأثره، في الدراسات التاريخية، في الفاعل غير السليم، لعامل "القوة" المجردة أو الغاشمة، ضمن معايير حركة التأريخ.
وينظر سماحته في "معايير حركة التاريخ"، إلى مفهوم "القوة"، فيخلص الى أن مظاهرها ليست القوة العسكرية أو السياسية فحسب، وإنما العلمية والاقتصادية والعقدية أو الدينية والاجتماعية كذلك، وذلك تبعاً لعوامل الزمان والمكان، والسجال بين القوتين المادية والمعنوية.
عليه فإن هذه المقاربة لموضوعة "القوة"، التي يؤكدها السيد المجدد، تتماهى ومبدأ "القدرة" في الأدبيات الاستراتيجية، أو مبدأ القوة الشاملة، التي من خلالها يجري الفرز، بين الاستراتيجية العسكرية من جهة، والاستراتيجية الكبرى أو العظمى أو الوطنية، من جهة أخرى، وفق متبنيات الاستخدام الشامل لها، المعتمدة على مرتكزاتها الأربعة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدفاعية.
ويخلص سماحته في مخرجات تحقيقه، أن الدين هو المنتصر، كونه يوافق العقل والفطرة، فهو يكمل الثلاثية معهما، وفق دراسات العقيدة والأخلاق، وعليه فإن تقييم حركة التاريخ، يجب أن يجري وفق معايير حقيقية، ليس من بينها النصر أو الهزيمة، بل وفق الإسهام الحضاري، وهذا يعبٍّر عن المأثور الشائع، في تحليل نتائج الأعمال العسكرية، وفق الرؤية الاستراتيجية، بأن "الهزيمة يتيمة، بينما للنصر ألف أب".
ويرى سماحته أن التاريخ يعكس صورة المجتمع، ويتماهى معه في أن كلاهما "لا يتمتع بالوجود والوحدة والشخصية الحقيقية الخارجية، بالمعنى الفلسفي لا بالمعنى الحقيقي"، مما يفرض على المؤرخ الموضوعي، أن يؤرخ للأفراد، وكذا للمجموعات، وللحكومات والدول، ولمجموعات الدول، أو الحضارات، وفق مدركات فلاسفة التاريخ، ليجري التعبير عن روح التاريخ، كما هو التعبير عن روح المجتمع.
وفي مباني "التعليل التاريخي والتعليل الفلسفي"، يجري سماحته مقارنة بين المنهجين في التعليل، القائمين على العلّة التاريخية، والعلّة الفلسفية، فيخلص الى أن التعليل في المنهج التاريخي، هو نقلي تجريبي تحليلي، فهو تسجيل وتقرير، بينما التعليل في المنهج الفلسفي التاريخي، هو تأملّي قبلي، فهو تأليف وتركيب.
وفي مقاربة سماحته لمدلولي "السيطرة على التاريخ"، و"معرفة الأسباب"، ينتهي الى خلاصة مهمة جريئة، وهي في ضرورة الأخذ بأسباب التقدم لغرض تحقيقه، فقد تأخّر المسلمون، لتأخّرهم في الأخذ بأسباب التقدم، وقد ظلّ المسلمون يحرصون على العبادات حصراً، لكنهم فقدوا سنّة التقدم في الحياة، من العدل في موضعه، والمساواة في موضعها.
وعليه فإن استقراء فلسفة التاريخ وروحه العامة، ترتبط بمعرفة أسباب التقدم وأسباب التأخر، وأسباب النهوض وأسباب السقوط، فضلاً عن استيعاب سائر المعارف والعلوم، ذات الصلة بدراسة الموضوع.
وفي مقاربة سماحته الى قضية أن "السنن الإلهية هي الأسباب الجامعة"، ينتهي فيها الى أن القضايا الجامعة، قد جعلها الله تعالى، مطلقة أو مقيدة، في أمور متشابهة، مثل سنن "بعث الأنبياء"، و"الإبتلاء في الدنيا"، وسنة الإمتحان الجارية في الشؤون الفردية والجمعية.
ويفرّع سماحته السنن، الى أخروية ودنيوية، وأخرى مشتركة بينهما، إذ تكون السنن الدنيوية، مرتبطة إما بالمجتمع أو بالفرد، وفي قضية "التاريخ ارتداد مستقبلي"، يخلص سماحته الى أن الله تعالى، هو خير مطلق، ولا يصدر منه إلّا الخير، فالشر يرجع الى فاعله، من غير فرق في النية والقول والعمل، والرجوع قد يكون قريبا أو بعيدا أو متوسطا.
وفي مقاربة سماحته لقضية الصراع التاريخي في النص المقدس، في جزئية "التاريخ صراع بين الحق والباطل"، ما يقتضي التوقف والتدبّر، إذ أن مقاربة سماحته في ظاهرها تستنير بقوانين فلسفة التاريخ، ضمن موضوعة الصراع الحضاري، وجزئية الصراع بين القيم فيه، وبالتالي حتمية إنتصار قيم الحق على الباطل، من خلال الأدلّة النقلية والعقلية.
لكن ميزة بحث سماحته برمتّه، في هذه المدركات، إنها بمثابة دراسة قرآنية بامتياز، كون سماحته يعتمد أدلته البحثية، من خلال استدلالات النص القرآني، ووفق المنهج القرآني، إذ يصلح بحثه لعنوان "استقراء الصراع القيمي التاريخي في النص القرآني المقدس"، فهو يستقرئ الروح العامة للتاريخ، من بصائر النصوص القرآنية المقدسة حصراً.
وعليه فهو في البدء منه، منهج نقلي محكم، بمعنى أن السيد المجدد لا ينتوي إثبات النص في مرجعيته وسنده، لكونه نص مقدس "لا يأتيه الباطل"، من وجهة الحجة العقدية، كما أنه نص لا خلاف فيه، من وجهة الحجة المنهجية النقلية، فضلاً عن أن المنهج العقلي، هو حاضر في هذا المتن، لجهة الدليل العقلي في حتمية نصرة الحق.
إذ أن التاريخ في فلسفته وحقيقته، قائم على مبادئ معنوية، تستهدف فهم الحقيقة، والفصل بين الحق والباطل، وإلّا فإن السرد المادي للتاريخ، لا يمثل الا وسيلة لإستنتاج الحقائق المعنوية، وهذا المعنى شاخص في الحتمية التاريخية "إنتصار الحق على الباطل".
في الحقيقة إن السيد المجدد، يبني استنتاجاته المطلقة، من خلال استقراء النصوص القرآنية، والتبصر والتدبر في قراءتها المعمقة، فهو منهج تاريخي محكم، يستنبط فيه كلياته من البصائر القرآنية، ليكون الباحث تعبيراً عن المؤرخ والفقيه في آن، أو كما يعبر عنه المجدد نفسه، بالفقيه المؤرخ، أو المؤرخ الفقيه، في دعوته للمؤرخ الفقيه، الذي يهدف الى التفقّه في المسألة، لإصدار الأحكام، أن يتحقق من الواقعة التاريخية، بموضوعية وتجرد.
ويفهم من هذا المسمّى، الجامع بين دالّتي الفقه والتاريخ، أنه يصدر أحكامه التاريخية الفلسفية، في تقييم الوقائع التاريخية، استدلالاً من الحجّة الفقهية، كما أنه قد يصدر أحكامه الفقهية الشرعية، مستدلاً في الحجة التاريخية، وهكذا في الثنائية التبادلية بين الدليل الفقهي والدليل التاريخي، يمكن البناء أنه من الأدلة المدخلية والموضوعية، مع الأدلة الأربعة، في استنباط الأحكام الشرعية.
وكذا يثبت سماحته، أن العلوم التأريخية الفلسفية، في استقراء قوانينها الجامعة للعلل والأسباب، لا تكون مطلقة في جزئياتها وكلياتها، إلّا من خلال مدخليات العلوم القرآنية، والتي قد يكون في تصنيفاتها المفترضة، تضمين للعلوم التاريخية، في تفريعاتها البحثية المنهجية، التي قد تنأى في التفسير القرآني، عن تداعيات مدركات التأويل وتخرّصات "الهيرمينوطيقا".
وهذا المعنى مستقرأ في قضية "انتصار الحق على الباطل"، و"حتمية استئصال الباطل"، وفي "تعدد العنوان ووحدة المعنون"، وكذا "سنة انتصار أهل الحق"، ليكون الاستنتاج النهائي الثابت، لمخرجات هذا البحث، أن "سنن الله التي سنها في عباده، تشكل في مجموعها ما يسمّى بفلسفة التاريخ"، وعليه فإن الدراسة التاريخية في النص القرآني، تستخرج مخرجاتها، من ذات قوانين فلسفة التاريخ.
إن فحوى هذا الاستنتاج، هو الإدراك بالحتمية التاريخية لانتصار الحق على الباطل، بسائر أشكالهما وعناوينهما وتوصيفاتهما، إن في الزمان أو المكان، وهو أمر مستدل من فلسفة التاريخ، والروح العامة له، كما هو مبني على النص القرآني المقدس، والمسلمات العقدية، ويؤكد سماحته منشأ هذه الحتمية، الى أن الظواهر التي تحدد وقوعها، شروط لا تقبل الاستثناء، في افتراضات أن النظام الكوني، متكرر الوقوع بإطراد، وتحكمه العلاقة بين العلّة والمعلول، وبين السبب والمسبب، بحكم القوانين الكلية العامة.
ولغرض الربط بين المتبنيات العقدية، المبنية على النص النقلي المقدس، وبين القوانين الكلّية الجامعة، في الروح العامة للدراسة التاريخية، يتمثل سماحته نموذجا في ما يسمى "الاستئصال"، وهو أقسى مراحل العقوبة الإلهية، إذ يعدّه المجدد من فلسفة التاريخ، وهو أيضا إحدى السنن الإلهية القطعية، التي لا تختلف بين الأمم والجماعات، وهو ما ينسجم تماماً مع الأمر الإلهي، بالسير في الأرض، والنظر فيها، ليعلم الإنسان نتائج أعمال السابقين، التي ترشد للحتمية التاريخية، في انتصار الحق.
اضف تعليق