أثبتت تجارب الشعوب أن المؤسسات الخيرية لها دور مهم ومتميز في بناء المجتمع، وهذا الإثبات يستند الى الوقائع وليس التمنيات، فنحن جميعا نحلم ونتمنى أن نندرج تحي مفهوم وخيمة العالم المتقدم، ولكن الحقيقة، حقيقة شعوبنا ودولنا ومجتمعاتنا تقول غير ذلك، إننا في الواقع متأخرون كثيرا عن الشعوب والمجتمعات التي طوّرت نفسها من هلال الاستفادة من المؤسسات المختلفة، ولكن كيف يتم إنشاء هذه المؤسسات؟.
هذا هو الشيء الأهم، فالناس يتكلمون كثيرا عن المؤسسات الخيرية بمختلف توجهاتها الثقافية والمعرفية والحقوقية والقانونية والاجتماعية والمدنية وسواها، ولكن نحن لا نحتاج الى الكلام الذي لا يتحول الى فعل، والذي يبقى كلمات وحروف تملأ الكتب والورق، إننا نريد أفكار وكلمات وحروف، قابلة للتحوّل من وجودها المجرد الى منتَج ملموس، اي نريد أن يتحول الفكر الى عمل، من دون ذلك لا فائدة من الأفكار التي تبقى ساكنة فوق الورق.
من المزايا الرائعة للمؤسسة قدرتها على تحول الأقوال الى أعمال، وقدرتها على استقطاب الشباب والطاقات كافة، وتستنهض طاقاتها وقدراتها، وتدفع بها نحو الابتكار والانتاج، ولكن قبل ذلك علينا أن نسعى بجدية وتخطيط وإصرار على بناء المؤسسات الخيرية وتفعيلها وزجها في واقع المجتمع ونشاطاته وفقا لتخصص المؤسسة، وفي الحقيقة هناك أناس يمتلكون إرادة قوية جدا على تشييد المؤسسات، وتشغيلها في نفس الوقت.
هذه الإرادة التي قد تكون فردية بالدرجة الأولى، هي التي نحتاجها لبناء المؤسسات، فهناك افراد سعوا وبذلوا مجهودا كبير ومتميزا في هذا المجال، وبقيت أسماؤهم محفورة في ذاكرة التاريخ، لما قدموه من جهود مباركة في مجال تأسيس وتطوير المؤسسات.
كما نقرأ ذلك في قول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، حول هذا الموضوع تحديدا عندما قال سماحته: (يشهد التاريخ بأنّ أفراداً قلائل استطاعوا أن يغيّروا مسار الأمم وحياة الشعوب). وقد أعطى الإمام الشيرازي اهتماما بالغا بالمؤسسات، ودرس الأمور والجوانب التي تتعلق بنشاطاتها، وأشَّرَ سماحته المشكلات والعقبات التي تعاني منها المؤسسات، والمهتمون بها.
لذا يقول سماحته في هذا المجال: (تعيش المؤسسات الإسلامية أزمتين: الأولى في الجانب الكمّي. والثانية في الجانب الكيفي). أملا في تحديد النقص، ومعالجته من لدن المعنيين جميعا.
لنا في الرسول (ص) أسوة
صحيح أن تأسيس المؤسسة والسعي والمبادرة الى تشييدها قد يكون عملا فرديا، أي ان هناك إنسانا يقود هذا العمل ويمضي به نحو الانجاز، ولكن بالنتيجة هناك مشاركة جماعية في انجاز واكمال المؤسسة وإظهارها الى الوجود، فالمتبرعون مثلا كثيرون وليس شخصا واحدا، وحتى الذين يتابعون العمل ومراحل الانجاز اكثر من فرد، ولكن يبقى صاحب الارادة وقيادة العمل هو الفرد الذي يتحلى بالايمان والقوة والاصرار على مواصلة انجاز المؤسسة وتأسيسها.
ولكن في الحقيقة يحتاج العمل على تأسيس وتشييد مؤسسة، الكثير من الصبر والتعب والمتابعة وهذا لا يتحلى به الجميع للأسف، لذلك أثر هذا الأمر على عدد المؤسسات المطلوبة، فأصبح الكم قليلا بالنسبة لعدد هذه المؤسسات على الرغم من الحاجة الكبيرة لها، فنحن كمجتمعات متأخرة، نحتاج كثيرا الى مؤسسات ثقافية دينية عبادية، كوننا بحاجة لدعم البناء الفردي والجماعي للمجتمع، لذلك هذا النقص في كمية المؤسسات يؤثر كثيرا على المسلمين.
يقول الإمام الشيرازي في هذا المجال: (نلاحظ في الجانب الكمّي نقصاً كبيراً في المؤسّسات الإسلامية والثقافية والعبادية والاجتماعية للمسلمين في العالم الإسلامي وللجاليات الإسلامية في البلاد الأخرى). ولذلك هذا النقص يؤثر كثيرا، ويسهم في تأخير نهوض المسلمين، فالوعي والثقافة تحتاج الى عمل شاق ومضني لكي تصل الى العقول الخاملة كي ترتفع بها، وتدفعها نحو الابتكار والانتاج الأفضل.
من هنا ينبغي أن يسعى الجميع في مجال تأسيس وبناء المؤسسات وتنشيط فعالياتها واعمالها، وعليهم استثمار المناسبات الدينية للمساعدة في تحقيق هذا الهدف، فالزيارات تساعد على استعداد الناس للمشاركة في انجاز وتشييد المؤسسات، لاسيما اذا دعا الى هذا الأمر الخطباء عبر المنابر وفي المواكب الحسينية وأثناء مراسيم العزاء والخطب التي يتم القاءها على المسلمين، لذا ينبغي حثّهم ودفعهم بل وتحريضهم على المشاركة في هذا المجال.
كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي في قوله الواضح: (لنا في الرسول الأعظم (ص) أسوة حيث بنى في المدينة المنوّرة ـ على صغرها ـ ما يقارب خمسين مسجداً ومن الممكن سدّ النقص الكمّي عبر استثمار مناسبة عاشوراء بأن يهتم الخطباء وأصحاب المجالس بإنشاء المؤسسات، وذلك عبر تحريض الناس وتشجيعهم على الإسهام في تهيئة الوسائل والمقدمات).
الإرادة القوية والعزم الراسخ
ونظرا لأهمية المؤسسات من حيث قدرتها على التوعية والبناء المعنوي والثقافي والانتاجي من جهة، ومن جهة اخرى تأخّر المسلمين عن الشعوب التي كانت تتعلم منهم، لذا يستوجب الأمر النهوض الحتمي من جديد، وهذا لا يمكن أن يتم من دون الاهتمام بإنشاء المؤسسات الدينية والثقافية والتربوية المجتمعية وسواها، ولكننا نحتاج الى أعداد هائلة من المؤسسات بسبب كثرة نفوسنا أولا، وبسبب حاجتنا الكبيرة لمثل هذه المؤسسات بكميات كبيرة.
على أن تتوزع هذه المؤسسات على مجالات تثقيفية واعلامية متنوعة، فنحن كمسلمين نحتاج الى مدارس كثيرة ومساجد وحسينيات تقدن الوعي والثقافة الدينية والعامة لجميع الناس، كذلك نحتاج الى مؤسسات اجتماعية خدمية مثل دور الايتام والمستشفيات التخصصية، بالاضافة الى حاجتنا للمؤسسات التي تتخصص في المجال الاعلامي.
فالاعلام بات اليوم عصب الحياة، وصار تطور الشعوب وتقدم الدول مرهونا بهذه الوسائل التي حولت العالم كله الى غرفة واحدة يتواصل فيها الجميع مع الجميع، لذلك ينبغي أن نستثمر الاذاعة والتلفزيون والانترنيت والصحف والمجلات ومراكز الدراسات، وكل وسائل الاتصال المختلفة لنشر الوعي والثقافة، حتى يكون بمقدور الانسان المسلم مواكبة المستجدات والابتكارات والتطورات الهائلة والمتسارعة التي تجتاح العالم على مدار الساعة، وينبغي أن نضارع الأمم والمجتمعات الاخرى من حيث عدد المؤسسات الخيرية، أي اننا بحاجة ماسة الى اعداد كبيرة من هذه المؤسسات خلال السنة الواحدة وبصورة مستمرة ودائمة.
كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي في قوله: (مطلوب تأسيس مائة ألف مؤسسة خلال كل عام من: مدرسة، ومسجد، وحسينية، ومكتبة، ومستشفى، ومستوصف، ودور الأيتام، وإذاعات، وتلفزيونات، ومراكز للدراسات، وإصدار المجلات والجرائد في شتى بقاع الأرض).
ولكن هذا الهدف يحتاج الى إرادة قوية لاسيما أن الانسان بمقدوره أن يصنع الكثير الكثير، اذا ما تحلى بقوة الارادة والتصميم الذي يحصل عليه الانسان بدافع الايمان اولا، والذكاء، والقدرة على توظيف الظروف لصالحه، حتى الصعبة منها ينبغي أن تكون لدية الاساليب التي تجعله قادرا على دحر الظروف المضادة له، واستقطاب كل ما يساعده على انجاز هدفه، وهو يتمثل في بناء المؤسسات المتنوعة، وهو قادر على ذلك شريطة توافر الارادة والتصميم والايمان.
كما نقرأ ذلك في قول الامام الشيرازي حول هذا الجانب: (إذا امتلك الإنسان إرادة قوية وعزماً راسخاً وهمة عالية، فربّما كان بمقدور الفرد الواحد أن يصنع الكثير، فـ (إنّ إبراهيم كان أمّة) و(المؤمن وحده جماعة)، وقد ورد في الشعر المنسوب للإمام أمير المؤمنين (ع): أتزعم أنّك جــرم صغيـــر ..... وفيك انطوى العالم الأكبر).
اضف تعليق