من الأسس العظيمة التي قامت عليها مكانة الإمام الكاظم (ع)، هي تلك السلسلة المترابطة من البيئات التي نشأ وترعرع فيها، ثم نهض من خلالها بالمسؤولية العظيمة تجاه الناس، في قضية الوعي والتثقيف، واستنقاذ الناس من القمع السياسي المنظَّم، ولم تكن هذه المهمة ممكنة لولا ذلك الإيمان الخالد، وذلك التمسّك المؤمِن بالدين وقيم الخير...

(كان الإمام موسى بن جعفر كأجداده الطاهرين عليهم السلام، في قمة الأخلاق الحسنة)

الإمام الشيرازي

شجرة الحرية لها جذورها الثابتة في أعماق الأرض، لتندفع سيقانها وأغصانها وأوراقها نحو أعالي السماء، ترفرفُ في فضاء الحرية، إنها شجرة بيت النبوية التي غُرِست في أرض الطهر والسلام والعفو، ثم تفرّعت واستطالت لتظلّل بفيئها جميع المسلمين، وتنشر بينهم الرحمة والعدل والتسامح والتعاون والعفو والمساواة وكل القيّم العظيمة.

الإمام الكاظم، كاظم الغيظ عليه السلام، ذلك النسغ الأبي الطاهر الذي بزغ في رحاب أبي عبد الله الصادق عليه السلام، فاغترفَ الدينَ من هذا الجذر الطاهر، والتهم العلمَ التهاما، ثم نثره نحو القلوب العطشى، تلك التي تحتاج إلى الهداية، وقد وجدت ضالتها عند قاضيَ حوائج الناس، الإمام الكاظم عليه السلام، فقضى حاجات الجميع دونما استثناء.

فكل الناس الذين وصلوا إلى الكاظم عليه السلام، دخلت الهداية في قلوبهم، وأضاءت نفوسهم ونشر النور فوق أرواحهم، فصار أصحابها في هالة الضوء والإيمان، ونهلوا من الإمام الكاظم نور الهداية والعلم والقيم الحسنة.

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (من حياة الإمام الكاظم عليه السلام):

(كان الإمام الكاظم كآبائه وأجداده الطاهرين عليهم السلام، سبباً في هداية الناس إلى الإسلام، ومذهب أهل البيت عليهم السلام، فكم من كافر أسلم على يديه، وكم من مخالف استبصر ببركته).

من الأسس العظيمة التي قامت عليها مكانة الإمام الكاظم عليه السلام، هي تلك السلسلة المترابطة من البيئات التي نشأ وترعرع فيها، ثم نهض من خلالها بالمسؤولية العظيمة تجاه الناس، في قضية الوعي والتثقيف، واستنقاذ الناس من القمع السياسي المنظَّم، ولم تكن هذه المهمة ممكنة لولا ذلك الإيمان الخالد، وذلك التمسّك المؤمِن بالدين وقيم الخير.

نظرة استعبادية ناقمة

فاستعد الإمام عليه السلام لهذا الدور، واكتسب المكانة العظيمة التي يستحقها، وشاعت سمعته الكريمة، وقدراته العلمية الوافرة، وصار الناس جميعا يتوجهون إليه لكي يحصلوا على ما يحتاجونه في هذا المضمار الذي كان ممنوعًا أو أنه غير متاح في العلن في ظل النظام السياسي القمعي الذي ينظر إلى الناس نظرة استعبادية ناقمة.

يخبرنا الإمام الشيرازي عن ذلك الواقع بقولهِ:

(كان الإمام موسى بن جعفر عليه السلام أعبد الناس في زمانه. يقول محمد بن طلحة الشافعي: الإمام موسى الكاظم عليه السلام، هو الإمام الكبير القدر، العظيم الشأن، الكبير المجتهد، الجاد في الاجتهاد، المشهور بالعبادة، المواظب على الطاعات، المشهود له بالكرامات، يبيت الليل ساجداً وقائماً، ويقطع النهار متصدقاً وصائماً).

وهكذا وجد المسلمون آنذاك، وخصوصا الذين تنقصهم المعرفة، ويعوزهم الوعي، ويلازمهم الفقر والحرمان، وهم النسبة الأكبر بين أفراد الأمة، في ظل قيادة لا تحب الخير للشعب، بل لا تحبه حتى لنفسها، لهذا اختارت التعامل بالتعذيب ومصادرة الحريات، وزج الناس في السجون لأتفه الأسباب، فالناس يعرفون أنهم يعيشون في سجن كبير.

ويفهمون أن حرية الراي كلمة أو جملة لا حظوظ لها في ظل النظام العباسي القمعي، فكانون يجدون ضالتهم عند الإمام الكاظم، بعد أن غزت سمعته الشريفة الآفاق، وصار اسمه يتردد بين الألسن، وصفة (قاضي الحاجات) التي التصقت بشخصية الإمام الكاظم، طرقت أبواب وأسماء الفقراء والمحتاجين، فوجدوا ملاذهم وقاضي حاجاتهم، عند الإمام الخلوق الذي باشر في حل مشكلات الناس، كبيرها وصغيرها من دون كلل ولا ملل، حتى تم وصفه بأنه أحد أبواب الله تعالى في الرحمة ومساعدة الناس وقضاء حوائجهم.

يقول الإمام الشيرازي حول هذه النقطة:

(كان الإمام موسى بن جعفر كأجداده الطاهرين عليهم السلام، في قمة الأخلاق الحسنة، حليماً كريماً سخياً، يحسن الجوار، ويقضي حوائج الناس، ويسعى في حل مشاكلهم.. قال أبو عبد الله الصادق في حق ولده موسى بن جعفر (عليهما السلام): فيه العلم والحكم والفهم والسخاء... وفيه حسن الخلق، وحسن الجوار، وهو باب من أبواب الله تعالى عزَّ وجل).

إن مثل هذا الدور الذي تصدّى له كاظم الغيظ عليه السلام، في مدّ يد العون للمحتاجين والضعفاء والمعوزين، الذين ينقصهم الوعي والثقافة الدينية والمال والعمل وكل ركائز الحياة الكريمة، هؤلاء لابد أن يتوجهوا إلى الإمام الكاظم عليهم السلام، ويتعلقوا به، ويجدوا فيه خلاصهم، وهذا في الحقيقة جعل الإمام في مرمى نيران السلطة القمعية المريضة.

فقامت بعمليات المراقبة والرصد التي ضُرِبَت على الإمام الكاظم عليه السلام، حتى في أدق تصرفاته العادية، وحركاته، بل وحتى كلماته، بحيث صار الإمام هو الشغل الشاغل لأعلى سلطة، وصدرت الأوامر بزجّه في السجون والزنازين المنفردة، وصار هدفًا للتعذيب والسجن الشديد، والمراقبة التي تصل ساعات الليل بالنهار.

إيجابيات الرِحلة الكاظمية

يُضاف إلى التعذيب المادي الجسدي المعروف، والذي مورِسَ ضد الإمام عليه السلام بأبشع الأساليب، ذلك التعذيب الروحي والنفسي المتواصل، وهكذا حاول الطغاة الظالمون السلطويون عزن الإمام الكاظم عن الناس بعد أن وضعوه بين جدران الزنازين والطوامير المظلمة.

فقد كر الإمام الشيرازي:

(بأن الإمام الكاظم عليه السلام حُبِسَ في سجون هارون في البصرة وبغداد وغيرهما، أربعة عشر عاماً، وفي بعض التواريخ أربع سنوات وأكثر منها، وإثبات الشيء لا ينفي ما عداه. وكان الإمام عليه السلام في هذه الفترة تحت الشدة والتعذيب الروحي والجسدي).

لكن أساليب التعذيب، وعمليات العزل البائسة، والتنقّل بالإمام من سجن إلى آخر، لك يُفقِد أمل الناس بفنارهم العالي، وقد كانت الأخبار تتسرب للناس، وهي تتسقط كل جديد عمّا يقوم به الجلادون، ومع كل علامة من متابعة الناس ومحبتهم وتأييدهم، كانت سلاسل الحديد التي تكبّل أيدي وأرجل الإمام عليهم السلام تزداد ثقلا.

لدرجة أن هذه السلاسل الحديد بلغت قرابة 400 كيلو غراما، وكأن السلط الغاشمة كلما لاحظت تعلّق الناس أكثر بإمامهم، تزيد من ثقل السلاسل نكاية بالناس وقهرا لهم، ولكن أنّى لهم ذلك، فقد كتب التاريخ رحلة كاظم الغيظ بأحرف من ذهب ونور.

يقول الإمام الشيرازي: 

(لقد ذكر بعضُ المؤرخين إن القيود التي كُبِّلَ يه الإمام الكاظم عليه السلام، و وُضِعْت في رقبته ويديه ورجليه كان وزنُها قرابة أربعمائة كيلو غرام).

وأخيرا حلّت لحظة الاستشهاد، فتجلّى للعالم ذلك الحدث الجلل، وانتقل الإمام الكاظم إلى ربوع الجنان حيث النبي صلى الله عليه وآله، وأئمة أهل البيت عليهم السلام، فيما دوّت في أرجاء السماء هذه الواقعة، وتردّد رجع الصدى في كل مكان، وابتهل المؤمنون إلى الله تعالى، أن يقتص من الجبارة الظالمين ويهدّم عشهم فوق رؤوسهم وهذا الذي حدث بالضبط:

فـ (دُفن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام بمدينة السلام ببغداد، في الجانب الغربي في المقبرة المعروفة بمقابر قريش، مما عرف بعد ذلك بالكاظمية المقدسة. وقال الشيخ المفيد: وكانت هذه المقبرة لبني هاشم، والأشراف من الناس قديماً).

وهكذا نجد في رحلة الإمام الكاظم عليه السلام، دروسا عظيم تنال الجميع، حاكما ومحكوما، فالحكام عليهم التخلي بشكل تام عن القمع والسجون ومصادرة الحريات، أما المحكومون فعليهم أيضا أن يسيروا في منهج كاظم الغيظ الذي لم يرضخ للحكام الظالمين، وبقيَ شامخا رافعا كفّيْه عالية إلى ربه، شاكرا إياه وصابرا على ما كُتٍبَ له، لكن الدرس الأعظم في الرحلة الكاظمية عدم مهادنة الحكام المنحرفين مطلقًا.

اضف تعليق