من أهم شروط تقدّم الدولة، أن يقودها نظام سياسي غير مستبد، لا مركزي، تقوده وتديره المؤسسات القوية، وهذه المؤسسات لا يمكن بناءها بشكل قوي إلا إذا كان النظام قويا، وتكون هناك أموال كافية لبناء هذه المؤسسات، مع أهمية إطلاق المشاريع التي ترتقي بالواقع الاقتصادي للدولة والمجتمع...
(إن نتائج البخل تظهر أول ما تظهر في مال البخيل، بل سمعته، وآخرته) الإمام الشيرازي
من أهم شروط تقدّم الدولة، أن يقودها نظام سياسي غير مستبد، لا مركزي، تقوده وتديره المؤسسات القوية، وهذه المؤسسات لا يمكن بناءها بشكل قوي إلا إذا كان النظام قويا، وتكون هناك أموال كافية لبناء هذه المؤسسات، مع أهمية إطلاق المشاريع التي ترتقي بالواقع الاقتصادي للدولة والمجتمع، وهذا أيضا لا يتحقق ما لم يشارك الأغنياء في هذه المهمة.
كما أن الإسلام لا يمكن أن يتقدم لا يتقدم إلا بالمؤسسات القوية، والمشاريع المتميزة، مع ضرورة نشر الوعي بين الجميع، أي صنع المواطن الوعي العارف بما يدور حوله ويواكب ما يجري في العالم من تطورات ويفهم المعلومات الجديدة التي نجتاح العصر الحالي، وهذا بالطبع يحتاج إلى جهود كبيرة يتحمل الجميع المشاركة في تقديمها.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم، الموسوم بـ ( أنفقوا لكي تتقدموا):
(لا يتقدم المسلمون إلى الأمام، ولا يتخلصون من شرور المعادين لهم إلا إذا تقدم الإسلام، وتشكّل نظام الحكم الجيد في البلاد، ولا يتقدم الإسلام إلا إذا كانت هناك مؤسسات ومشاريع ووعي جماهيري لدى المسلمين، بما يتطلبه العصر الحاضر).
فالإمام يشترط لتحقيق تقدم المسلمين، أن لا تبتعد الدولة عن إطلاق المشاريع الرصينة، في المجالات كافة، الاقتصادية، السياسية، الاجتماعية، التعليمية، والصحية، مع حتمية إدارة الدولة والمشاريع، من خلال نظام مؤسساتي رصين، يسير وفق ضوابط وقوانين عادلة وحازمة، لا يجوز خرقها أو عدم تنفيذها، أو التجاوز عليها.
فالدولة التي لا يديرها نظام مؤسساتي قوي، سوف تضعف أمام المناوئين لها، ولا يمكنها مواجهة من يريد أن يلحق بها الأذى لأن الشرط المهم في مواجهة الأعداء أن تكون الدولة مبنية وفق نظام مؤسساتي قوي، وحازم، ولا يسمح بالفوضى، أو بالعشوائية الإدارية، أو بضرب قواعد الإدارة العادلة والصحيحة للدولة.
الإمام الشيرازي يؤكّد هذه النقطة فيقول:
(الدولة التي تبتعد عن المشاريع، والمؤسسات، لا تتمكن أن تقاوم من له المؤسسات والمشاريع، فالغرب القابض على زمام المسلمين ــ اليوم ــ مزود بأكبر قدر من الرجال والمال والتفكير والتخطيط. والمؤسسات والمشاريع وسائر مقومات الحياة، في أدق معاني المقومات).
زيادة الوعي الجمعي
الأمر الذي ينبّه عليه الإمام الشيرازي، حتمية وفرة الأموال، فمن دون وجود المال اللازم، لا يمكن بناء المؤسسات، ولا إطلاق المشاريع الكبيرة، كما أن الدولة لا يمكن أن تُبنى، بلا مؤسسات ومشاريع، والأخيرة تحتاج إلى الأموال الكبيرة والكثيرة.
فالأموال تجلب الخبرات الرصينة، وتجعل المشاريع في حالة من الاستمرارية، ومواصلة الإنتاجية الجيدة، حتى الوعي الذي يجب أن يتوفر عند الفرد والجماعة، لا يمكن أن يتحقق ما لم يتم توفير الأموال، وهنا يبرز دور المتبرعين من الأثرياء والأغنياء الذين يجب أن يكون لهم تعاون كبير في هذا المجال، حتى يمكن بناء دولة مؤسساتية بإمكانها حماية نفسها وممتلكاتها، والأهم هو حماية المجتمع من أي انتهاك أجنبي.
يقول الإمام الشيرازي:
(المؤسسات والمشاريع والوعي لا تتحقق إلا بالمال والرجال، والرجال تجمعهم المؤسسات المتطورة تصاعديًا، لذا يجب بناء مؤسسات الدولة في أسرع وقت وبكمال الدقة والحزم، مع أهمية توفير المال الذي يأتي به الجهد المتواصل عن خبرة وجرأة ومعرفة الحاجة وقدرة الإقناع).
في الحقيقة يوجد لدينا أثرياء يمكنهم التبرع لتأسيس ودعم المؤسسات المستقلة القادرة على تعزيز دورها في إدارة الدولة، ولكن هناك نوع من البخل لا يجوز أن يؤثر على القضايا المصيرية ومن بينها بناء الدولة ومؤسساتها، وإطلاق المشاريع، وزيادة الوعي الجمعي.
يوجد في الغرب اليوم الكثير من الأثرياء الذين تصل ثرواتهم إلى عشرات المليارات من الدولارات، وهذا الثراء ساهم بشكل فعال في بناءة الدول القوية، وجعلها تطمع بالدول التي لا تقدم ما يجب أن تقدمه من أموال حتى تبني نفسها ومؤسساتها القوية وتطلق مشاريعها الرصينة، وتبث الوعي السياسي والاقتصادي والاجتماعي بين الناس.
لذلك نلاحظ أن الثري في الغرب أكثر ثراء من أثرياء المسلمين، وينطبق هذا على الحكام أيضا، ويمكن أن يطال جميع المجالات الأخرى، وهناك نقطة لابد أن يفهمها الجميع، وهي أن الإسلام إذا تأخر، لا يمكن لأحد من المسلمين أن يتقدم، لا الأفراد ولا الدول أيضا.
الإمام الشيرازي يثبت هذه النقطة فيقول:
(إن في الغرب اليوم أغنياء قد تعد ثروة أحدهم بعشرات المليارات، فهل في بلاد الإسلام اليوم من تبلغ ثروته عشر هذه الثروة؟ كلا! ولماذا؟ لأن الإسلام إذا تأخر فالمسلمون كلهم متأخرون، ثريّهم متأخر عن ثريّ الغرب، وحاكمهم متأخر عن حاكم الغرب، وعالمهم متأخر عن عالم الغرب، فإذا بذل أغنياؤنا المال، لم يكونوا بذلك إلا مساهمين في رفع مستواهم، قبل كل شيء، وصدق الله سبحانه حيث يقول: ومن يبخل فإنما يبخل على نفسه).
معالجة الأزمات الحادة
لهذا نرى الدول الإسلامية تعاني من أزمات حادة، حيث كانوا في السابق تحت سيطرة الغرب الاستعماري، واليوم أصبحوا تحت سيطرة الغرب والشرق، وهذا سببه واضح كل الوضوح، أنهم لم يبذلوا الجهد الكافي لبناء الدولة المؤسساتية، ولم يطلقوا المشاريع الكبيرة، كما أنهم تركو قضية الوعي جانبا.
لهذا أصبحت الأمم القوية وسواها، تضغط على المسلمين، وتحاول أن تجعلهم تحت سيطرتها بكل الأساليب المتاحة، وهذا ما لا يمكن القبول به، ولا يمكن معالجته إلا عبر بناء الدولة المؤسساتية القوية القادرة على بناء المشاريع المعاصرة والمتطورة.
يقول الإمام الشيرازي:
(إن البلاد الإسلامية تعاني أزمة حادة، فقد كانوا في الماضي القريب، يستعمرهم الغرب فقط، واليوم يستعمرهم الشرق والغرب على حد سواء، وكانوا في السابق تضغط عليهم أقوى الأمم واليوم تضغط عليهم حتى أذل الأمم).
هذه الأزمات التي تعصف بالدول الإسلامية، لا يتأثر بها الفقراء والبسطاء وحدهم، بل أول من يتأثر منها هو الأغنياء، وهؤلاء هم الذين يسقطون قبل غيرهم، لذا على هؤلاء الأغنياء أن يقدموا كل ما يلزم من الدعم حتى يبقى الإسلام قويا، حتى لا يسقطوا قبل غيرهم من الناس.
وهنا لابد من معرفة الأسباب التي أدت إلى هذه الأزمات، والمباشرة الفورية للتخطيط والعمل على مواجهتها ومعالجتها، بشكل علمي رصين من حيث التخطيط والدراسة والتنفيذ.
هذا ما يشير إليه الإمام الشيرازي بوضوح خين يقول:
(الأزمة الحادة التي يعاني منها المسلمون أدّت إلى سقوط الأغنياء واحدا بعد آخر، ومجموعة تلو أخرى، فكل بلد يتقلص فيها الإسلام يتساقط الأغنياء فيه تساقط الورق في الخريف. أليس من الأفضل أن يساهم الأغنياء في بناء الإسلام لكي يحفظوا أنفسهم من السقوط، وفي المثل الشعبي (قبل الوقوع لابد من علاج الواقعة).
وهكذا فالمسلمون يقعون اليوم تحت ضغوط كبيرة، منها اقتصادية، وأخرى سياسية، وهم اليوم يعانون الكثير من الأزمات في عالم بات التطور فيه كبير جدا، حيث دخل العالم كله في هذا السباق، وعلى المسلمين أن يواكبوا بدقة من يجري في العالم، وأن يتحركوا بشكل سريع إلى اعتماد البناء المؤسساتي الرصين لدولهم، وأن يتحرك الأثرياء للقيام بدورهم في هذا المجال من حيث الإنفاق والمشاركة في دعم بناء الدول وأنظمتها القوية.
اضف تعليق