إن الغاية من تحقيق هدف الأمة الأهم، هو إنقاذ أفرادها من معاطب الدنيا، وهي كثيرة جدا بحيث تستعصي على الحصر، فهل يمكن أن نحصي نوعية وطبيعة الذنوب المتاحة للإنسان؟، بالطبع هذا محال، فما بالك بالآخرة وكيفية ضمان نتيجة جيدة، الأمر في غاية الصعوبة، ولكنه ليس مستحيلا...
(إن تحقيق الهدف يحتاج إلى توحيد جميع الطاقات وتكريسها، وعدم تشتيتها)
الإمام الشيرازي
للأمم أهداف محددة، تتوزع على مقياسين هما (المهم و الأهمّ)، مثلما للأفراد أهدافهم أيضا، ولكن قوانين التعامل مع أهداف الأمة سوف تختلف عن تلك التي تتعلق بأهداف الأفراد، وغالبا ما ترسم الأمم أهدافها على قدر كبير من الدقة والتمحيص.
وغالبا ما تستفيد في ذلك من الخبرات المختلفة التي تتوفر لها، ومنها التجارب التاريخية وسواها، كما أنها تسعى لاستثمار طاقات وخبرات العقول التي تنتمي لها، فتوظّف هذه العقول لكي تصل إلى أهدافها بأقصر الطرق وأكثرها دقّة.
ولكن هناك نقطة مهمة أو شرط في تمام الأهمية، وهو أن يتم السعي نحو تحقيق الهدف باستخدام كل ما متوفر من طاقات وخبرات وعقول ونشاطات، والأمر المهم جدا في هذا المجال، عدم التبذير في هذه النشاطات، أو التفريط بها، أو هدرها لأي سبب كان.
بمعنى يجب على الأمة أن تسعى نحو هدفها الأول بكل ما تمتلكه من قوة وتركيز، وترفض تماما تضييع الطاقات أو هدرها، لأنه من شأن ذلك تأخير تحقيق الهدف، أو حتى تضييعه، وهذا ينطبق على الأفراد أيضا، وهم يسعون نحو تحقيق أهدافهم.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه الذي يحمل عنوان (إلى العالم):
(إذا كان المطلوب هو السير إلى الهدف، حيث يكمن في ذلك نجاة البشر من معاطب الدنيا ومهالك الآخرة، فيجب أن تُصبّ كل النشاطات في تحقيق هذا الهدف وفي الطريق الموصل إليه).
إن الغاية من تحقيق هدف الأمة الأهم، هو إنقاذ أفرادها من معاطب الدنيا، وهي كثيرة جدا بحيث تستعصي على الحصر، فهل يمكن أن نحصي نوعية وطبيعة الذنوب المتاحة للإنسان؟، بالطبع هذا محال، فما بالك بالآخرة وكيفية ضمان نتيجة جيدة، الأمر في غاية الصعوبة، ولكنه ليس مستحيلا.
الانشغال العميق بالهدف الأهمّ
لهذا ينبغي على الإنسان (الأمة)، أن لا يلتفت يمينا وشمالا وهو يغذّ السير نحو هدفه، لأن الانشغال بالجوانب تضيّع هدف الإنسان وتجعلها مضبّبا وغير واضح، لا يمكن أن يبصره بشكل دقيق، لأنه ينشغل عنه (بالتوافه)، ويصرف طاقاته في مجالات أخرى تعيقه عن تحقيق الهدف المطلوب.
يجب التركيز على الهدف بقوة، ونبذ الانشغال بالقضايا الأخرى، مع أنها قد تكون ممتعة ومغرية للإنسان، ولكنها في نفس الوقت سوف تلهيه عن نشاطه الأساس، وتبعده عن هدفه الأهم، وهذه مشكلة قد تمنع الأمة والإنسان من الوصول إلى هدفه.
يقول الإمام الشيرازي:
(لابد من الإنسان أن لا يلتفت إلى اليمين أو إلى الشمال إطلاقاً، لأن هذا الالتفات يؤدي إلى هدر بعض الأنشطة بعيدا عن تحقيق الهدف).
هذه الملاحظات الكبيرة التي يذكرها الإمام الشيرازي ضمن مقالنا هذا، هي بمثابة دروس كبيرة ومتميزة، ينبغي أن يطلع عليها المعنيون (من مسؤولين أو نخبويين)، وعليهم هضمها وفهمها جيدا، والاستفادة من مضامينها السهلة العميقة في نفس الوقت، وتطبيقها في نشاطات وخطوات تطوير الأمة.
فيما سبق كان الحركيون (الرسل والأنبياء) وهناك شخصيات تاريخية أخرى، هؤلاء كانت الميزة الأساسية التي يتميزون بها، هي عدم انشغالهم بالجانبيات والمغريات وما شابه، نعم هم يعرفون تلك المغريات، والنفس البشرية ترغبها وتريدها، ولكنها تؤخر وصولهم إلى الهدف، لذلك فإنهم لا يشغلون أنفسهم وعقوله مطلقا بغير الهدف الأهم المرسوم.
من الأمثلة على ذلك أن النبي محمد صلى الله عليه وآله، عندما دخل مكة فاتحا، وحقق النصر على الأعداء بعد عشرين سنة من القتال الضاري، لم يشغل نفسه بقضايا جانبية، ولم يأخذه تفكيره نحو تفاصيل غير مفيدة، بل ركز على بناء الإسلام، وتكريس القيم الحميدة كي يبني مجتمعا متحضرا ومسالما.
حيث يقول الإمام الشيرازي:
(لذا نلاحظ أن المتحركين الهادفين (الثوار أو المجدّدين)، سواءً كانوا دينيّين كالأنبياء والأوصياء عليهم السلام، أم زمنيّين، يقصدون الهدف مباشرة ولم يصرفوا وقتهم إلاّ في الأمور التي تقودهم إلى الهدف، مثلاً النبي صلى الله عليه وآله لم يصرف شيئاً من نشاطه في مكة المكرمة إلاّ في تحقيق هدف تقوية وتركيز لواء الإسلام).
هناك نوع من المفاضلة بين ما هو مهم وبين ما هو أهم، وأمر طبيعي لأننا جميعا نفضل الأهم على المهم، ولكن هذا الأمر يحتاج إلى خطوات في غاية الأهمية، أولها هو توحيد جميع طاقات الأمة لإنجاز أهدافها الأهم من سواها.
عدم تشتيت الطاقات
وهناك خطوة أخرى تتمثل في عدم تشتيت هذه الطاقات، بل جمعها وكأنها تتحرك في نسق واحد، وتحركها إرادة واحدة، ورؤية واضحة، حتى لا تغيب الرؤية في دهاليز مظلمة، فيضيع الهدف الأهم في التفاصيل والتوافه والمغريات، كما أن من المتعارف عليه أن أي إنسان حكيم وعاقل لا يمكن أن يسمح بتضييع جهوده وطاقاته إلا إذا كانت في إطار الهدف الأهم.
ومن الأمور المتوقعة أن الإنسان السوي، لا يجعل طاقاته في خدمة المهم على حساب الأهم، وبهذا فإن النتائج الجيدة، هي التي تصطف إلى جانب العقلاء، الحكماء، الذين يرفضون المساومة على الأهم بغض النظر عن المغريات أو الفوائد المادية الآنية الكبيرة.
الإمام الشيرازي:
(إن تحقيق الهدف يحتاج إلى توحيد جميع الطاقات وتكريسها، لذا يجب عدم تشتيتها، وعلى الأقل يجب أن تكون هناك مفاضلة بين (الأهم والمهم)، ومن المعلوم أن العاقل لا يصرف طاقته في المهم إذا كانت الخيارات تدور بين الأهم و المهم، فعليه تفضيل الأهم على المهم حتما).
بالطبع ليس سهلا أن ينشغل الإنسان بالقضايا الأساسية الأهم، ويترك ما تقدمه له الدنيا من فوائد وامتيازات هائلة، فهذه الدنيا عندها المزيد مما تقدمه للإنسان، من قضايا مادية وشهوانية تدخل في إطار مختلف الشهوات، ويمكن أن تجعلها بين يديّ الإنسان عندما يكون مستجيبا وطائعا لها.
ولكن ما فائدة هذه الامتيازات الدنيوية، وهي تجعله يخسر الامتيازات الأخروية، كما أنه سوف يضيّع على أمته فرصا كبيرة من فرص التطور والتقدم، لاسيما أن العالم كله اليوم، يدخل في سباق عجيب غريب نحو التطور والتقدم التكنولوجي والرقمي ومجال الذكاء الاصطناعي، فهل يجوز للإنسان أن يفضّل نفسه على أمته ومستقبلها؟
لذلك فإن مواجهة النفس ستكون في غاية الصعوبة بالنسية للإنسان، خاصة إنه يجب عليه أن يترك التفاصيل والملذات ويهتم ويركز على ما أسماه الإمام الشيرازي بـ (الهدفية الكلية):
يقول الإمام الشيرازي:
(لا يخفى أن التخلص من الأمور الجزئية أو الوقتية، والتركيز على الأمور الكلية والهدفية، بحاجة إلى تعقل كافٍ ونفس كبيرة قادرة على تجاوز الجانبيّات).
في هذا المقال قدمنا بعض الملاحظات والخطوات التي قد تساعد من يهمه الأمر، لكي يعمل بشكل جيد وجاد ورصين لتحقيق الهدف الأهم، ليس فقط على المستوى الشخصي وإنما على مستوى الأمة كلها، فالذين يبنون الأمم هم أصحاب العقول الجبارة التي تمتلك ضمائر حية وعظيمة، لا يأبهون بمصالحهم، ولا بملذاتهم، وبالامتيازات، وإنما يكرسون أعمارهم لتحقيق الهدف الأسمى للأمة.
اضف تعليق