تمرّ علينا في هذه الأيام الذكرى السنوية لرحيل الإمام الشيرازي، وهو صاحب المؤلَّفات التي فاقت الألف، وتنوعت في استبطان وتحليل القضايا المصيرية التي عاشتها الأمة الإسلامية، حيث تفرَّد الإمام الشيرازي بعقلية الاحتواء الإيجابي، ومن خلال تمكن من إنجاز ما يعجز عنه كثيرون، على مستوى الفكر والعمل والإنجاز.
تمرّ علينا في هذه الأيام الذكرى السنوية لرحيل الإمام الشيرازي، وهو صاحب المؤلَّفات التي فاقت الألف، وتنوعت في استبطان وتحليل القضايا المصيرية التي عاشتها الأمة الإسلامية، حيث تفرَّد الإمام الشيرازي بعقلية الاحتواء الإيجابي، ومن خلال تمكن من إنجاز ما يعجز عنه كثيرون، على مستوى الفكر والعمل والإنجاز.
العقل كما يصفه العلم هو مركز التحكم بالإنسان وتفكيره وأفعاله، وبالتالي هو الذي يحدد طبيعة إنتاجه كمّا ونوعا، وفي ضوء هذا التعريف، يمكن أن نصف عقلية الإمام الشيرازي بأنها (عقلية الاحتواء الإيجابي).
الاحتواء مفهوم ينضوي في حزمة المسميات التي تندرج في قائمة اللاعنف، فهي مفردة واضحة المعنى، تأخذ الإنسان بعيدا عن التصادم، وكلما ترسَّخت عقلية الاحتواء في شخصيته، أصبح بعيدا عن أساليب العنف بكل أشكاله المادية والمعنوية واللفظية وسواها.
لهذا جُبِلَت شخصية الإمام الشيرازي على طبيعة مسالمة، وتحاشت جميع أنواع العنف، واعتمدت على أسلوب الاحتواء كمنهج حياة، رسم الخطوط العريضة والضيقة لتفاصيل حياة الإمام الشيرازي، فالإمام (رحمه الله)، ربّى نفسه على (السلام)، وابتكر نظريته في اللاعنف، وبرع في ترسيخ وتطوير منهج الاحتواء ونشره في جميع الأماكن التي استطاع الوصول إليها، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا.
الاحتواء يعني عدم المواجهة العنيفة مع من يختلفون عنّا في الرأي والفكر وحتى في السلوك، وهو منهج سلوكي اعتمده الإمام الشيرازي في تفاصيل حياته المختلفة، وقبل أن يصبح منهجا سلوكيا تمّت تنميته تربويا وفكريا، فقد توغّل الإمام عميقا في سيِر أهل البيت عليهم السلام، ونهل الكثير من بحار هذه السِيَر المعطّرة بالسلام، وهكذا اغترف الإمام الشيرازي في طفولته من منابع الأئمة، وتعلّم في مركز العلم والتربية المشذَّبة من العنف.
التوغّل في منهج الاحتواء
وهذه التربية الفكرية الدينية، تدخّلت في رسم الأطر العامة لعقلية الإمام الشيرازي، ودفعته بقوة نحو التوغل عميقا في منهج الاحتواء، لهذا من المعروف عن الإمام، كما نقل لنا من عايشه عن قرب، أنه لم يدخل في مشاجرة مع أحد، ولم يدخل في حالة من حالات العنف، بل كان ميالا بشكل حاسم إلى المداراة، وامتصاص نقمة الآخر بالكلمة الطيبة.
فكان منهج الاحتواء عنده (رحمه الله) إيجابيا، أي أنه ليس احتواءً تراجعيا أو انهزاميا أو خاملا، نعم كان الإمام الشيرازي ينأى بنفسه وبمن معه، وبسياساته الحياتية وقراراته عن جميع أشكال العنف، ويحاول معالجة كل القضايا والمعوقات عبر الاحتواء وعدم التصادم.
ولكن هذا الأسلوب كان إيجابيا فعّالا، يقتحم مساحة الآخر، ويسعى بكل السبل البعيدة عن العنف أن يُقنِع ذلك الآخر بوجهة نظره، وبأفكاره، وبأهدافه التي تصب في صالح المسلمين وغير المسلمين، بل والبشرية كلها.
ولهذا تجنّب الإمام الشيرازي سياسة العنف، سواء في مجال العلاقات الاجتماعية، الفردية أو الجماعية، أو مجال العلاقات العملية (في الأسواق والمصانع والمعمل والمدارس وأماكن العمل المختلفة)، وفعَّل الإمام الشيرازي في جميع النشاطات التي كان يقوم بها، تربية الاحتواء الإيجابي وهي ببساطة (سياسة اللاعنف).
ولكن منهج اللاعنف هذا كما توضّح نظرية الإمام الشيرازي، لا يهدف إلى إضعاف الشخصية، ولا إلى تراجع الناس عن أفكارهم، بل كان الهدف الأول هو بناء (عقلية الاحتواء الإيجابي) وهي عقلية تجمع بين اللاعنف والاقناع في نفس الوقت.
بمعنى عندما تظهر في السطح الاجتماعي بؤر متطرفة، مضادة، تسعى لإيقاد الضغائن والفتن، وتعتاش على الفوضى، وما إلى ذلك من أساليب التأليب والتطرف، فإن عقلية الاحتواء الإيجابي تتحرك في عدة مسارات وتحتوي هذه الأفكار وما ينتج عنها بأساليب هادئة مرنة لطيفة تتحاشى العنف الفعلي واللفظي.
نظرية اللاعنف للإمام الشيرازي
وتستمر هذه السياسة وهذه الأساليب في التعامل مع البؤر المضادة، وتسعى بألف طريقة وطريقة لإقناع الآخر بإمكانية عدم التصادم، وأن اللاعنف فعل اجتماعي يمكننا تطبيقه في علاقاتنا المختلفة، وهكذا تتضاءل فرص التصادم، في مقابل نمو منهج الاحتواء الإيجابي.
يتساءل كثيرون لم يعايشوا الإمام الشيرازي (رحمه الله)، كيف استطاع في (عمرٍ واحد) أن يحقق هذه الإنجازات الكبيرة خصوصا في قضية اللاعنف التي طرحها في حزمة فكرية متواترة جمعها في نظريته المعروفة باللاعنف، كمعالجة شاملة لجميع المشكلات والأزمات التي فتكت ولا تزال بالعالم؟
ثم كيف انتشرت (عقلية الاحتواء الإيجابي) حين كان الإمام الشيرازي حيّا يُرزَق، ويتحرك وينشط بهمّة ونشاط وطاقة عشرة رجال، فقد ربّى الإمام الشيرازي أجيالا من المؤمنين على هذه العقلية التي يمكنها معالجة جميع الأزمات، وكانت درجة التأثير بالآخرين كبيرة، كما أن المتأثرين بمنهج الاحتواء علّموه لأناس آخرين.
فالاحتواء يعني ببساطة، أنك لا تفكر بالعنف، ولن تقترب من منطقة الصراع، وأنك تفكر وتبحث عن ألف وسيلة و وسيلة قبل أن تدخل في ما يسمى بليّ الأذرع وكسر الإرادات وسفك الدماء، هذه الأساليب العنيفة لم تجد لها موطئ قدم في عقلية الاحتواء الإيجابي التي أسَّس لها الإمام الشيرازي، وغرزها في النفوس والعقول كمنهج حياة.
واليوم ونحن نستذكر تلك العقلية الخلّاقة، وذلك المنهج الحياتي الأخلاقي الفريد من نوعه، فإننا نفتقد لمنهج اللاعنف، ونتعطش لتلك اللمسات الإنسانية التي كان يتحلى بها الإمام الشيرازي (رحمه الله)، فما أنْ يحلّ الإمام في مكان ما حتى تنتشر أجواء الهدوء والاطمئنان والسلام، وتضمحلّ البؤر العنصرية، وتنطفئ نيران الكراهية، وتتشكل هالة من اللاعنف تغلّف العقول والقلوب وتقرّب فيما بين الناس وتجعل منها أخوانا بالدين والإنسانية.
اضف تعليق