جمعت شخصية الإمام علي عليه السلام بين أضداد لا حصرها لها، كلّها تنتمي إلى الكرم والشجاعة والسخاء والشهامة والعدل والرحمة، لدرجة أن أمير المؤمنين كان ولا يزال وسيبقى مثار إعجاب الجميع، سواء من بسطاء الناس أو من الأعاظم في الفكر والعلم والإبداع...
(كانت لأمير المؤمنين عليه السلام خصائص كثيرة، لم يؤتها أحد قبله ولا بعده)
الإمام الشيرازي
نعيش هذه الأيام ذكرى الجريمة النكراء التي ارتكبها اللعين بن ملجم، هذا المتوحّش الغادر الذي تنكّر لكل القيم الأصيلة، فغدر وخان، وتجرأ على من أطعمه وكساه وكرّمه وحماه، فقام بفعلته النكراء في صبيحة يوم شنيع ومؤلم، حيث غادر فيه إمامنا الأجلّ الأعظم علي بن أبي طالب هذه الأرض إلى رحاب الخالق المنّان.
خصال أمير المؤمنين عليه السلام لا حصر لها، ولا تعدّ أو توصَف، ومن بينها وأعظمها العلم، فهو باب مدينة العلم النبوي، كما ورد في الحديث الشريف، وهو مؤلِّف نهج البلاغة الخالد، وهو الذي لم توضَع أمام عقله عقدّة إلا وحلّها، وفتّتها بعد سبر أغوارها، كيف لا وقد تربّى في مدرسة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله.
الإمام علي هو أول من أبصر نور الوحي وهو ينزل على النبي محمد، وهو أول من شم ريح النبوة فيه، هكذا كانت درجة القرب بين الإمام علي والنبي محمد، بالإضافة إلى عيشهما معا في حاضنة عائلية واحدة، فعلي كان ثالث اثنين (محمد وخديجة)، هؤلاء الثلاثة لا غيرهم هم أول المجتمعين في دار النبوّة الكريمة.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه الثمين، الموسوم بـ (المعصومون الأربعة عشر/ الجزء الثالث)، لقد:
(تربّى الإمام علي عليه السلام في حجر الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله، ونشأ في بيته، وإلى ذلك يشير الإمام عليه السلام في قوله: وقد علمتم موضعي من رسول الله بالقرابة القريبة، والمنزلة الخصيصة. وضعني في حجره وأنا ولد، يضمني إلى صدره، ويكنفني إلى فراشه، ويمسّني جسده ويشمّني عرفه. وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل... ولقد كان يجاور في كل سنة بحرّاء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة).
وليد الكعبة المكرّمة
يُضاف إلى خصلة العلم، خصائص لا تتوافر في شخصية أخرى، فهي محصورة بالذات العلوية المطهّرة، ولم تتكرر في ذات أخرى، وهذه أدلة قاطعة على المكانة المتفردة لأمير المؤمنين عند الله تعالى، فهو عليه السلام (وليد الكعبة المكرّمة)، وهذا التكريم الإلهي كفيل بأن يجعل من الإمام علي في قمة المجد والسؤدد، ويكفيه علوّا وفخرا أن الله تعالى كرّمه بهذا المكان الأكثر تقديسا في العالم أجمع.
كما خصّه تعالى بالزيجة المباركة من البتول الصديقة الطاهرة، سيدة نساء العالم، فاطمة الزهراء عليها السلام، فجمع الإمام بين الولادة المباركة في الكعبة وبين الزيجة بريحانة رسول الله، ليأتي منهما سيدا شباب أهل الجنة وهما (إمامان إن قاما وإن قعدا)، الإمامان الحسن المجتبى وهو أيقونة الحكمة والرشد الخالد، والحسين الثائر الشهيد الذي استعاد الإسلام من دوّامة الانحراف بدمه الطهور.
هنا يؤكد الإمام الشيرازي هذه الخصائص العلوية فيقول:
(كانت لأمير المؤمنين عليه السلام خصائص كثيرة، لم يؤتها أحد قبله ولا بعده، ومنها: 1. ولادته في الكعبة الشريفة. 2. زواجه من الصديقة فاطمة عليهما السلام. 3. جَعَل الله الحسنين عليهما السلام في ذريته. وجاء في الحديث أنّ رسول الله قال لأمير المؤمنين: يا علي، أُعطيتَ ثلاثاً. قلت: فداك أبي وأمي وما أعطيتُ؟. قال: أُعطيتَ صهراً مثلي، وأُعطيتَ مثل زوجتك فاطمة، وأُعطيت ولديك الحسن والحسين).
هكذا جمعت شخصية الإمام علي عليه السلام بين أضداد لا حصرها لها، كلّها تنتمي إلى الكرم والشجاعة والسخاء والشهامة والعدل والرحمة، لدرجة أن أمير المؤمنين كان ولا يزال وسيبقى مثار إعجاب الجميع، سواء من بسطاء الناس أو من الأعاظم في الفكر والعلم والإبداع، لما تتوفر عليه شخصيته من خصال وصفات يندر اجتماعها في ذات واحدة.
وبهذا أثارت شخصية الإمام علي عليه السلام قريحة الشعراء، وشهية المفكرين والمبدعين، فأصبحت عقولهم مشغولةً بعلمه، وقلوبهم ولِهةً بنور كلماته، فانبرى القدماء والمحدثون على حد سواء، وكتبوا أشعار وكتبا ومؤلّفات كبيرة عن هذه الشخصية العظيمة.
الإمام الشيرازي أشار إلى هذه النقطة الجليّة فقال:
(لقد جُمِعتْ في شخصية أمير المؤمنين عليه السلام صفات لم تُجمَع في أحد قبله ولا بعده، وقد جُمعت فيه الأضداد من المكارم، وإلى ذلك يشير صفي الدين الحلّي:
جمعت في صفاتك الأضداد
فلهذا عزت لك الأنداد
زاهد حاكم حليم شجاع
ناسك فاتك فقير جواد
شيم ما جمعن في بشر قط
ولا حاز مثلهن العباد)
خصال مؤطّرة بالعلم العلوي الأثير
وكما أسلفنا الذكْر، فإن جميع هذه الخصال الخالدة مؤطّرة بالعلْم العلوي الأثير، حيث تهفو إليه العقول وتنهل منه ما يسمو بها عاليا عاليا، وتنهل منه الضمائر ما يغنيها عن الخطل ويحميها من الزلل، وتباركه الألسن التي تلهج بعلمه وذكْره ومآثره التي فاقت حدود العظَمة.
فهو عليه السلام صاحب الخطب الخالدة، ومؤلّف درر الحكم الذي لا يدانيه مؤلَّف آخر في هذا المجال، وهو القاضي الذي حكم بين الناس بالعقل والعدل الكريم، وهو الذي استنجد به الآخرون لحلّ العقد المستعصية في القضاء وفي سواه، فما أن تواجههم مشكلة قضائية حتى يتذكروا عليّا (عليه السلام) فسيتنجدون بحنكته وحصافته وعدله وذكائه المتوقّد.
لهذا أُدرجت أفكار أمير المؤمنين وكلماته ومضامينه في التشريعات القانونية العالمية. ومنها منظمات كبرى مثل منظمة الأمم المتحدة التي ضمَّنت في حقوق الإنسان قول الإمام علي ذائع الصيت: (الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق).
فعرف العالم كله كيف ينظر الإسلام إلى الناس، وكيف يتعامل معهم في إطار من المساواة والعدالة والرحمة واللين والعفو، وكل القيّم الإنسانية العالية. لاسيما أن القائل شخصية علمية فذة تجمع بين الفكر الإنساني، وبين العلم التنويري الذي يقوم على أساس النظرة الإنسانية لعموم البشرية دونما استثناء أو تمييز أو تفريق.
يقول الإمام الشيرازي:
(من خصال الإمام علي عليه السلام علمه ويظهر ذلك في خطبه ورواياته ورسائله الشريفة الدالّة على مدى علمه، والذي لم يرد مثله أصلاً عند بقية المسلمين ولا أحد من الصحابة، وهذا (نهج البلاغة) خير دليل على ما نقول، وكذلك إخباره عن شتى العلوم والحقائق بل والغيبيات بإذن الله تعالى. حيث قال رسول الله صلى الله عليه وآله في حقه: أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأت الباب ـ وقال ـ أقضاكم علي).
فما أحرانا ونحن نعيش هذه الذكرى، وننتمي إلى هذه الشخصية الفذة الخالدة، أن نتعلّم منها، ونطّلع على كنوزها العلمية في نهج البلاغة، وفي كتاب العهد لمالك الأشتر، وفي الخطب العظيمة، وفي الحلول القضائية التي دوّنتها الكتب الموثوقة والروايات الشريفة، لاسيما أن علمية الإمام عليه السلام تتوزع على السياسة والاجتماع والاقتصاد وإدارة الدولة، وهي خزين علمي هائل للمسلمين إذا قرّروا مجاراة التقدم المضطرد للعالم.
اضف تعليق