أننا كمجتمع نحتاج إلى الألفة بشكل ضاغط وكبير، لأننا بحاجة إلى التعاون ودعم القيم الجيدة، وزيادة التقارب، وبالتالي إحقاق الحق، والعمل بالعدل بين الناس بعد الإيمان بالحفاظ على حقوقهم، فليس من المعقول أنك تألف الإنسان وتحبه وفي نفس الوقت تتجاوز على حقوقه، هذه هي المحصلة الكبرى للمخرجات الجيدة للألفة الاجتماعية...
(يُستحسَن للإنسان أن يربّي نفسه على الألفة، وإلاّ خسر نفسه وخسر غيره)
الإمام الشيرازي
الألفة بمعنى التآلف بين الناس، وقد جاء في معجم المعاني الجامع عن كلمة (أُلْفة( بأنها اسم مصدر (أَلِفَ)، وجمعها أُلُفات و أُلْفات، وتعني الاجتماع والالتئام، والأُلْفَة في علم النفس: خاصةُ تجاذُبِ الظواهر النفسية في المجال الشعوريّ بتداعي الأَفكار وترابُطها، أما الأُلْفَة في الأَخلاق، فإنها وشيجة بين شخصين أَو أَكثر، يُحْدِثها تجاذُب الميول النفسية، كصلة الصداقة ولُحْمة القرابة، فتَكَوَّنَتْ أُلْفَةٌ بَيْنَهُمَا أي صَدَاقَةٌ، ومُؤَانَسَةٌ.
وبهذا المعنى فإن الألفة هي الركيزة الأساس التي تقوم عليها صلابة البنية الاجتماعية، وهذه القوة والتماسك في المجتمع يجب أن تبدأ بنوع عالٍ من الألفة بين الناس، وهذا يتطلب مدخلات معروفة، منها تعضيد المنظومة الأخلاقية، وترسيخ القيم الصحيحة في المجتمع، وحماية العقائد من الانحراف، وتحصين الوعي والمستوى الثقافي للناس، وإرشادهم نحو تمتين العلاقات المتبادلة التي تقوم على التعاون بالدرجة الأولى.
لذا فإن أية مشكلة تحدث على صعيد الألفة بين الناس، سوف ينتج عنها مخرجات غير مفيدة للمجتمع، وكلما كانت الألفة قوية وركائزها راسخة بين الناس، تكون البنية الاجتماعية في أعلى تماسكها ومتانتها، لهذا يجب أن يحاول الجميع تحسين العلاقات الاجتماعية التي تقوم بين الأفراد والعائلات، والجماعات الأكبر مثل العشائر أو الطوائف وما شباه، فزيادة الألفة تعني بالنتيجة مضاعفة الوشائج التي تقوي علاقات الناس مع بعضهم بعضا.
ولا فائدة من الفرد غير المتآلف، فهو بالنتيجة أما متكبر أو مغرور ومنعزل، وبهذا فهو مريض نفسيا ولا فائدة منه على الصعيد الجمعي أو الاجتماعي، من هنا جاء التركيز على أهمية ركيزة الألفة بين أفراد المجتمع، لأنها الأسلوب الأهم والأقصر لضمان لحمة وتلاحم قوي ومتين بين أفراد ومكونات وطوائف وشرائح المجتمع الواحد.
وفي حال لا يبدي الإنسان تآلفا تجاه الآخرين أو معهم، فهو في هذه الحالة يكون في جانب الشر بالضد منهم، ولا يقدم لهم الخير، وبالتالي يكون عنصرا مؤذيا للمجتمع، بدلا من أن يكون إنسانا صالحا مفيدا يعطي الخير للناس من خلال علاقاته معهم ونشاطاته بينهم.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (كل فرد حركة وفلسفة التأخّر):
(إن الخرق في العلاقات الاجتماعية وعدم الألفة مع الناس تعدّ من سمات التأخر، وقد ورد في الحديث الشريف: لا خير في من لا يألف ولا يُؤلف).
معالجة حالات الاغتراب بالمجتمع
ولكن قد تعترض الناس معوقات بخصوص زيادة التلاحم الاجتماعي، فليس جميع البشر على استعداد للتعاون في تحسين وتطوير العلاقات الاجتماعية، وهذه مشكلة كبيرة تواجه الأفراد والجهات التي تسعى لزيادة متانة البنية الاجتماعية كالمنظمات والمؤسسات الاجتماعية ومثيلاتها، ومنها وجود أشخاص لا يرغبون بتكوين العلاقات الجيدة مع الآخرين.
ومنهم مثلا الناس الذين يشعرون بحالات من الاغتراب عن المجتمع، على الرغم من أنهم يعيشون فيه، وهؤلاء غالبا ما يكونوا متأثرين بأفكار وثقافات دخيلة، تجعلهم منعزلين عن المنظومة الفكرية والأخلاقية والعرفية للمجتمع، وبالتالي هذا النوع من البشر يمكن أن يشكل عائقا أمام تمتين البنية الاجتماعية، لهذا يجب التدقيق في مسألة العلاقات المتبادَلة.
كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي في قوله:
(إن معاشرة الناس ــ بشكل عام لا فئة خاصة فحسب ــ صعب وبحاجة إلى مقومات كثيرة).
ومن بين المقومات المهمة التي تساعد على إنتاج مخرجات اجتماعية جيدة، هي أن يسعى الإنسان بجدية إلى تربية نفسه وتدريبها على إقامة الألفة بينه وبين الآخرين، فالتربية هي نوع من التدريب، والتعلّم، والنصح، والوعظ الصالح الحقيقي من مصادره المؤهَّلة للقيام بهذه المهمة، كالخطباء الموثوق بهم، والمفكرين الصالحين المعروفين بأفكارهم المعتدلة.
هذا يعني إمكانية وضع برنامج أو خطة أو برمجة لزيادة ألفة الشخص وتمتينها مع الناس، وليس غريبا أن يضع خطوات مكتوبة ومشروحة يلتزم بها تطبيقا بعد أن يستوعبها ويفهمها ويؤمن بها، ففي هذه الحالة يكون الشخص على استعداد تام للتقارب مع الناس، والتعاون معهم، ومساعدتهم وتلقّي المساعدات المختلفة (المعنوية والمادية) منهم، ومنحها لهم بحسب المستطاع، لأن الابتعاد والانعزال عن الآخرين يؤذي الشخص قبل غيره.
لذا من المستحسن أن يعتاد الإنسان على الألفة، وأن يجعلها من ضمن جوهر علاقاته مع الآخرين، سواء في العمل، أو الدراسة، أو القرابة، أو حتى في السوق أو الشوارع العامة، فالإنسان يجب أن يكون أليفا في كل مكان وزمان حتى يفيد نفسه والناس، وإلا خسر نفسه وخسر الآخرين أيضا، وهذا من أهم المخرجات الاجتماعية الجيدة للألفة.
هذا ما ينبّه عليه الإمام الشيرازي حينما يقول:
(يُستحسَن للإنسان أن يربّي نفسه على الألفة، وإلاّ خسر نفسه وخسر غيره).
ومن ضمن التدريبات النفسية على الألفة، واستخدامها أسلوبا في العلاقات المتبادلة مع الناس، أن يفكر الإنسان بالعطاء، فهذا الجانب في غاية الأهمية، أي على الفرد أن يكون معطاءً، متفاعلا، متعاونا، مشاركا للناس في كل ما يهمهم، حتى يكسب ألفتهم أيضا، ويمكنه في هذه الحالة أن يأخذ ما يريده لنفسه وما يحتاجه، على أن يعطي للناس ما يريدونه في حالة من التبادل المتقابل بين الطرفين أو بين الاطراف التي تشترك في تكوين المجتمع.
حيث يقول الإمام الشيرازي: (إن في الألفة أخذٌ وعطاء، فأخذه لنفسه وعطاؤه لغيره).
التآلف في الواقع الأخلاقي
ولعلنا نفهم بأن المخرجات الإيجابية تقوم على الطرفين، الإيجابي والسلبي، أو ما يسمى بالعطاء والأخذ، والتوصيف السلبي هنا ليس بمعنى السلبية بل بمعنى أن تأخذ ولا تعطي، وهذه الحالة غير مقبولة ولا تساعد على تمتين البنية الاجتماعية، بل تساعد على نشر الأنانية بين الناس، وتسود المصلحة الذاتية وتنتهي قيم العدالة والتعاون بين الناس، وتُصاب البنية الاجتماعية باختلال كبير.
لذا هناك حاجة لصنع الواقع الأخلاقي الحقيقي المساند لنشر الألفة بين الناس، فلا توجد ألفة بلا أخلاق، كذلك أمر طبيعي أن تؤدي الأخلاق إلى الألفة بين الناس، لهذا يجب العمل الحثيث على بناء واقع أخلاقي قوي ومتين وراسخ، حتى نضمن قوة ومتانة البنية الاجتماعية، من خلال دعم القيم الأخلاقية ونشرها وترسيخها بين الجميع.
يقول الإمام الشيرازي حول هذه النقطة:
(إن السلب والإيجاب يرتبط بالبُعد المقابل له عادة، والواقع الأخلاقي بحاجة إلى الأمرين، لا أن يَألف فقط ولا أن يُؤلَف فقط).
وعلى العموم سوف تكون هناك مخرجات حاسمة للألفة على الصعيد الفردي والاجتماعي، فالإنسان الذي يألفك سوف تحبه، وأنت في المقابل سوف تحب من يألفك، وهذه المحبة هي من أرقى مخرجات الألفة، ومن أقوى الوشائج التي تزيد من تماسك المجتمع وتقاربه وتعاونه وانسجامه، فالنتيجة تكون في صالح الفرد والمجتمع بنفس الوقت.
حيث يقول الإمام الشيرازي:
(من نتائج الألفة كسب محبة الناس، فمن تألفهم يحبونك ومن يألفوكَ ستحبهم).
الخلاصة هي أننا كمجتمع نحتاج إلى الألفة بشكل ضاغط وكبير، لأننا بحاجة إلى التعاون ودعم القيم الجيدة، وزيادة التقارب، وبالتالي إحقاق الحق، والعمل بالعدل بين الناس بعد الإيمان بالحفاظ على حقوقهم، فليس من المعقول أنك تألف الإنسان وتحبه وفي نفس الوقت تتجاوز على حقوقه، هذه هي المحصلة الكبرى للمخرجات الجيدة للألفة الاجتماعية.
اضف تعليق