في هذه الأيام نقف على مسافة زمنية قصيرة جدا من بلوغ شهر محرم، وهذا يدعونا للاستعداد الجيد لاستقباله، فهو الشهر الذي نستذكر فيه فاجعة عاشوراء، ونستعيد المآسي الهائلة التي تعرض لها أئمتنا عليهم السلام، ولكن يبقى الهدف الأسمى الذي علينا أن نصل إليه، هو استنهاض القيم والعقائد والأعراف الجيدة...
هناك سؤال يتردد بين كثير من الناس، وهناك من يسأل، لماذا علينا إحياء الشعائر الحسينية؟، وفي نفس الوقت، يوجد من يجيبهم عن هذا التساؤل بالقول، إن إحياء الشعائر تعني إحياء القيم الأصيلة لبناء الإنسان، بناءً سليما، يقوم على أسس الفضيلة والحق والعدالة، وهي منظومة قيم الثورة العاشورائية التي أعلن عنها منذ اللحظة الأولى وتمت المناداة بأهدافها التي تمحورت على حماية الإسلام من الانحراف، وإعادة أمور المسلمين إلى نصابها الصحيح، وإن كان ثمن هذا الهدف نفس الإمام الحسين (عليه السلام).
لهذا يُعنى بمفردة إحياء هنا النقيض لمفردة الموت، لأن كليْهما يعني الضد للآخر، حيث ينتمي الإحياء للحياة والاستمرارية، وتنتمي الإماتة للموت والاندثار التام، لذلك فإننا كمسلمين ومن شيعة أمير المؤمنين (عليهم السلام)، مطالبون بأن نحيي الشعائر الحسينية التي هي من شعائر الله تعالى، وأنسب وأنشط مناسبة لإحياء هذه الشعائر شهر محرم الذي نستذكر فيه استشهاد سيد الأحرار، الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام).
وهناك معانٍ أخرى للإحياء منها الخروج من الضلالة إلى الهداية ومن الظلمة إلى النور، وإذا أعدنا الاثنتين إلى جذورهما، سوف نجد أن الضلالة تنتمي للشر، وأن النور ينتمي للخير، والشعائر هي النور والحياة، أما محاربة الشعائر فهي الظلام والإماتة.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) يذكر في كتابه القيّم الموسوم بـ (إحياء الشعائر):
(قال تعالى في كتابه المجيد: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً). وقد ورد في بعض التفاسير أن من معاني الإحياء في هذه الآية الكريمة هو الخروج من الضلالة إلى النور).
لهذا فإن شهر محرم الذي يمثل مناسبة راسخة في التاريخ الإسلامي، يعد من أنسب الأوقات التي يجب استثمارها بالشكل الصحيح لإحياء الشعائر الإلهية بعد الاستعداد لها، ومنها الشعائر الحسينية، حيث أوصى الله تعالى بالاهتمام بهذه الشعائر من قبل المسلمين، لأن إحياء ذكر الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام)، من القضايا العقائدية المهمة التي تحافظ على الإسلام والمسلمين.
الاستعداد لهذه المناسبات الشعائرية الكبيرة، يجب أن يكون في مقدمة اهتمام المؤمنين، ذلك أنهم بهذا الاستعداد يصونون العقائد الإسلامية، ويحمون الدين من الانحرافات الداخلية والخارجية، لذا يجب إحياء وتعظيم هذه الشعائر، لأن الإسلام دعا إلى إحياء هذه المناسبات، ومنها شعائر الحسين (عليه السلام) واستعادة ذكرى المذبحة التي ارتكبها الأمويون بحق آل النبي (عليهم السلام) ظلما وبهتانا وفسقا وانحرافا.
إحياء الشعائر يهدد بزوال الطغاة
هناك من يقول إن هذا النوع من الاستذكار ينتمي إلى الماضي، فلا فائدة من ذلك، لكن الأمم والشعوب التي تعرضت إلى مذابح ونكبات لم تنس ذلك، بل تصرّ حتى يومنا هذا على استعادة تلك المذابح وبشاعتها، حتى تذكّر المجرمين والبشرية كلها بما حصل من مجازر، ولكي لا يرتكبها الطغاة اللاحقون، لهذا فإن إحياء الشعائر يزلزل العروش الظالمة، ويضع أمام الطغاة مصيرهم المهزوم دائما، لعلهم يرتدعون ويتراجعون عن ظلمهم وطغيانهم الذي يطول الناس ظلما وبهتانا.
هنا يؤكد الإمام الشيرازي قائلا: إن (من أهم الشعائر الإلهية ما يرتبط بالمناسبات الدينية فإنه يصادف بعض أيام السنة العديد من المناسبات الإسلامية، ولابد من الاستعداد مسبقاً بشكل جيد لغرض إحيائها وتعظيمها بصورة تناسب نوع المناسبة؛ فإن إحياء المناسبات الإسلامية من الشعائر التي دعا إليها الإسلام. وليس هذا فحسب، بل حتى إحياء ذكرى موتى المؤمنين يعدّ بمثابة إحياء لهم، فيكون من باب أولى إحياء ذكرى الرسول (ص) وأهل بيته عليهم السلام).
من المعروف أن البيئة المناسبة لتحقيق الأهداف المؤذية للإسلام والمعوِّقة لتقدم المسلمين، هي بيئة الجهل، لذلك نلاحظ استماتة أعداء الإسلام، والحكام الطغاة على ترويج الجهل وإفشائه بين المسلمين، وخوفهم الشديد من الشعائر التي تسعى لتوصيل بريق المبادئ الإسلامية وجوهرها السديد إلى عقول الناس، لكي ترتقي بهم إلى درجة الوعي التي تجعلهم عارفين جيدا بما يهدد حياتهم حاضرا ومستقبلا.
فالشعائر هي نور المبادئ الإسلامية، وإحياؤها تهديد مباشر لكل من يعادي الإسلام والمسلمين، فالإشعاع الذي تبثه هذه الشعائر مصدره أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، ومهمة وضع الحواجز أمام هذا الإشعاع يتصدى لها المشككون بالشعائر وهم المتضررون منها، سواء كانوا حكّما طغاة فاسدين تابعين للأعداء الأجانب، أو أعداء الداخل الذين تتضرر مصالحهم الدنيوية بسبب زيادة وعي الناس وفهمهم من خلال الشعائر.
إن صحوة الأمة غير مرغوب بها بالنسبة للحكام الطغاة والفاسدين والمستفيدين من وجودهم، بينما تسعى المشاعر الحسينية على مرّ الأسام والسنين والقرون، أن تحيي في الناس ضمائرهم، وتشعل في قلوبهم جذوة الثورة على الفساد، لهذا السبب يخشى الطغاة على عروشهم من الشعائر الحسينية، ويحاربونها، ويقمعون السعادين لإحيائها، لأنها تشكل مصدر تهديد مباشر لعروشهم وسلطاتهم وامتيازاتهم.
الإمام الشيرازي يؤكد على: (إن الأعداء يعارضون اليوم بشدة، إقامة مثل هذه المجالس والشعائر، في مختلف المناسبات، خوفاً من امتداد إشعاع الأئمة (عليهم السلام) إلى كل طبقات المجتمع، فيفيق من نومه ويصحو كاشفاً مخططات الأعداء فيفشلها، ولابد من ذلك اليوم الذي تهدّ فيه أعمدة الظلم).
شواهد على فاعلية الشعائر الحسينية
ما هو الشيء الذي يثبت فاعلية هذه الشعائر الحسينية المقدسة؟، هناك أدلّة لا تحصى تثبت ذلك، ولكن هنالك دليل قاطع على أهميتها يثبتها أعداء الشعائر بأنفسهم، هذا الدليل هو إصرارهم على محاربتها، فلو أنها ليست مهمة ولا تأثير لها عليهم، ولا دور لها في تطوير العقول، ومن ثم تطوير الأمة ودفعها إلى أمام، لما انشغلوا بها كل هذا الانشغال.
فالشيء غير المهم لا يستثير أحدا، حتى الأعداء لا ينتبهون إلى ما هو غير ذي أهمية، ولكن لأن الشعائر تستنهض همم الناس، وتملأ العقول بنور الثورة والتغيير، وتضيف إلى القلوب نفحات الإيمان، فإنها في هذه الحالة تشكل خطرا على الطغاة والفاسدين، فيؤازر بعضهم بعضا على محاربتها، ومحاولات وقف تأثيراتها وفاعليتها في مساعدة الناس على مغادرة الجهل، ومن ثم التعاضد الجمعي على مقارعة الظلم بكل أنواعه.
هنا يقول الإمام الشيرازي: (إن محاربة الأعداء للشعائر دليل واضح على مدى أهميتها، وقوة تأثيرها على أفراد الأمة، وإلاّ لم يكن هناك أي مبرّر ومقتضى لمنع الناس عنها، ومنعها عنهم).
إن كل ما يتّصل بالشعائر غير مرغوب به بالنسبة للأنظمة المستبدة، هذا على المستوى السياسي، وعلى المستويات الأخرى، فإن كل ظالم هو محارب عنيد للشعائر لأنها تهدد قدرته على ظلم الناس، وتضع له حدا، وتهدد من يدعمه، من خلال توعية الناس وتعريفهم بحقوقهم، وتشجيعهم على رفض الظلم والحف، اهتداءً بمسيرة الإمام الحسين (عليه السلام) الحافلة بالتضحيات، لهذا فإن شهر محرّم يخيف الظالمين جميعا.
ولهذا تكون المنابر الحسينية مصادر تهديد للمستبدين، وكل الشعائر بأنواعها والمحافل القرآنية، تمثل مصدر وعي، لمحاربة الجهل الجمعي، وفتح أذهان الناس على ما يتهدد حاضرهم ومستقبلهم، وهكذا تكون الشعائر ومحافل القرآن الكريم نقاط انطلاق لمحاربة الظلم بأنواعه وأشكاله وأحجامه كافة: (إن لمجالس العزاء أهمية كبيرة لا يمكن تجاهلها، وإن للمنبر الحسيني والشعائر دوراً عظيماً في إحياء الشعوب. وهذا مما لا ينكر.. وإن لمحافل القرآن أثراً فعّالاً في النفوس، حيث يبقى صدى القرآن يرنّ في مسامع المؤمنين، وتطمئن قلوبهم لذكر الله، فيدخل القرآن في وجودهم وتكون آياته منطلقاً لهم.. فالقرآن يرفض الظلم والعدوان، وأكل حقوق الناس، ومصادرة حرياتهم، واستعبادهم) هكذا يوضح الإمام الشيرازي رفض انتهاك الحقوق.
في هذه الأيام نقف على مسافة زمنية قصيرة جدا من بلوغ شهر محرم، وهذا يدعونا للاستعداد الجيد لاستقباله، فهو الشهر الذي نستذكر فيه فاجعة عاشوراء، ونستعيد المآسي الهائلة التي تعرض لها أئمتنا عليهم السلام، ولكن يبقى الهدف الأسمى الذي علينا أن نصل إليه، هو استنهاض القيم والعقائد والأعراف الجيدة التي بإمكانها أن تعيد للمسلمين أمجادهم وإنسانيتهم وتصدّرهم في قيادة البشرية نحو السلم والسلام، نحن نبتغي من إحياء الشعائر النهوض بالمجتمع من خلال القيم العظيمة التي طالب بها الإمام الحسين عليه السلام وقدم روحه ونفسه وذويه ثمنا لها.
اضف تعليق