شكل الخطاب المعتدل الذي نهجه الامام الشيرازي، قولاً وعملاً، مساهمة فاعلة في خلق التأثير الإيجابي لدى المجتمع، وما زال تأثيره قائماً من خلال نتاجاته الفكرية ومؤسساته العلمية والثقافية والخيرية المنتشرة في بلاد المسلمين ومختلف بقاع العالم، ورغم انه كان فرداً لا يملك القوة والسلطة التي تملكها مراكز السلطة...
يقترن معنى "الخطاب" بصورته العامة بـ"الافهام" لمن له القدرة على ذلك، كما أشار اليه أبي البقاء الكفوي في الكليات حين قال: "الخطاب هو الكلام الذي يقصد به الإفهام، إفهام من هو أهل للفهم، والكلام الذي لا يقصد به إفهام المستمع، فإنه لا يسمى خطابا".
اما الاعتدال فهو الاستقامة والاستواء او التوسط بين حالين، كالجو المعتدل بين الحار والبارد او الاعتدال في المواقف بلا افراط وتفريط.
بالتالي ينظر الى الخطاب المعتدل على انه الخطاب القادر على تحقيق التوازن والوسطية في مواجهة التحديات وبناء الامة الأخلاقي والمعرفي، ومكافحة منهاج الغلو والافراط لتجنب الوقوع في المحظور.
ويمثل الخطاب المعتدل جوهر الإسلام في حقيقة الامر، لأنهُ الأسلوب الأمثل للانسجام مع الآخر المختلف عنك، والطريقة الأمثل لاحتواء المشاكل والصراعات الناتجة عن الاختلافات الفكرية والثقافية والاجتماعية والدينية بين مختلف الأديان والطوائف والمذاهب، فالتنوع ليس سبباً للتناحر والفرقة بل يجب ان يكون هدفاً للتقدم المعرفي وتكامل الثقافات واحترام الاخرين والتعايش مع الجميع.
القرآن الكريم بين هذا المعنى بقوله تعالى: (ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)، فالحكمة والموعظة الجميلة هي الطريقة الأمثل لحل المشكلات، فيما أمر الله (عز وجل) النبي موسى وهارون (عليهما السلام) حين بعثهما إلى الطاغية فرعون بقوله: (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى)، رغم قساوة فرعون وادعائه الالوهية واستكباره وعدم اعترافه بالحق او قبوله بأسلوب الحوار مع الآخرين.
ومع هذا يصر القران الكريم على عدم المواجهة والذهاب نحو التطرف اللفظي او الجسدي، بل الاستمرار بأسلوب الاعتدال في القول والعمل، لأنها الثقافة الأفضل والاكمل في دفع العداوة والبغضاء والفرقة والعنف عن الفرد والمجتمع: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)، والثقافة الأكثر قدرة وبلاغة وعقلانية في الاقناع والافهام وايصال المطلوب، كما قوله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ).
لقد تبنى المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي طوال مسيرة حياته ثقافة الاعتدال وسعى الى تطبيقها في مجتمعات كانت تعاني من عقد اجتماعية ودينية وتناحر سياسي كبير، الامر الذي دفعه لذلك ايمانه الراسخ بان الوسطية والاعتدال هو الخيار الأفضل والانجح من بين جميع الخيارات الأخرى في تطور الأمم ورقيها، خصوصاً لدى المجتمعات المسلمة التي دعاها الله (ع وجل) الى سلوك منهج الوسطية: (وكذلك جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا)، حتى تكون خير الامم: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ).
ان عناصر قوة الإسلامي الخطاب المعتدل تكمن في مصادر التشريع الإسلامي وتراثه القائم على قيم التقدم والبناء الحضاري الإنساني بركائزه الأخلاقية والمعرفية التي كرمت الانسان وجعلت منه قيمة عليا، مثلما سعت الى منع استغلاله كوسيلة للوصول الى غايات هادمة لقيم الاعتدال او دافعة له نحو التطرف والانحراف، لذلك شكلت مواجهة التحديات وخلق الفرص، الواجهة الرئيسية للبناء الحضاري الإسلامي.
ورغم ذلك فان هذه الامة قد استدارت لإرثها الحضاري والفكري، وتنكرت لدورها الريادي وسط الأمم الأخرى في الدعوة الى المعرفة ونبذ العنف ونشر السلام والتسامح والاعتدال والشورى والاخوة وغيرها من القيم الاصيلة في تراثنا الإسلامي، وهذا الامر أدى الى تراجعها وانحدارها نحو هاوية التطرف والعنف والاستبداد، وبالتالي خسارتها لمقومات قوتها وعظمتها.
يرى الأستاذ زكي الميلاد: "ان الخطاب هو الجانب المتغير، والإسلامي هو الجانب الثابت، ولا ينبغي أن ينفصل المتغير عن الثابت، كما لا ينبغي أن يفتقد الثابت إلى المتغير. فالثابت يعطي المتغير عنصر النظام الذي يحفظه من الفوضى والانفلات، والمتغير يعطي الثابت عنصر المرونة والحركة الذي يحفظه من التوقف والجمود".
ولو ركزنا على المعنى العام، لوجدنا ان الممارسة العملية للخطاب (سواء اكان ديني او اجتماعي) هو الانتماء الفعلي للدين بكل قيمه وتعاليمه، فهو الخزين المعرفي والحضاري الذي يغذي جميع الأنماط السلوكية التي ينتهجها المؤمنون في اقوالهم وافعالهم، وبالتالي هي المعرف والمعبر عن طبيعة سلوكهم الاجتماعي والديني وعاداتهم وقيمهم وثقافتهم وكل ما يتعلق بطريقة تفكيرهم، وهذا ما يبرز أهمية الاعتدال في الخطاب الديني ودوره في نشر السلام ومنع جميع اشكال العنف.
ويعتبر الأستاذ محمد محفوظ: "ان مشروع السيد الشيرازي عمل في الأمة لمحاربة التخلف من خلال، صناعة الوعي الإسلامي الطارد لجذور التخلف وإحياء قيم الإسلام في نفوس وعقول المسلمين بتجديد الفهم والمعرفة للنصوص الشرعية والواقع واستيعاب التفاصيل والجزيئات والمتغيرات في إطار الثوابت والكليات وذلك عبر عملية الاجتهاد وأن الالتزام بخيار التجديد الديني والإصلاح الثقافي والسياسي، هي من أهم عناصر القوة في تجربة السيد محمد الشيرازي".
ويرى الامام الشيرازي ان: "الرفق وعدم العنف أحسن وسيلة لقلع الجذور أو التخفيف من المشكلة أو تجميد الحركة المضادة"، وهو منطق الرسل والانبياء ايضاً: "إن منطق الرسل والأنبياء، هو منطق السلم واللاعنف والاحتجاج العقلاني من أجل إنقاذ البشرية، حيث يقول الله تعالى في كتابه الكريم حول استخدام السلم واللين والابتعاد عن العنف والغلظة، واستخدام سياسية العفو، والاعتماد على منهج الشورى كأسلوب في الإقناع الحر والحوار السلمي والمشاركة في اتخاذ القرار".
ان هذه القيم القرآنية والإسلامية هي التي أسهمت في نشر ثقافة الاعتدال وأسلوب الحوار وقبول الآخر والدعوة الى نبذ العنف والغلظة والقسوة والعنف، كما انها حررت الانسان من الخضوع لعقلية التطرف والجاهلية والتعصب والصنمية، بل ودعت الانسان الى التفكر والتعقل والسعي للوصول الى الكمال المعرفي والفكري والمنطقي للتحرر من القيود الاصطناعية التي تشد الانسان الى الأرض وتمنعه من الوصول الى الحقيقة.
لقد سعى الامام الشيرازي خلال حياته العلمية والعملية الى ترسيخ هذه المفاهيم داخل المجتمع الإسلامي، بل وسعى الى ايصالها الى جميع المجتمعات الإنسانية، لان الخطاب المعتدل لا يقتصر على فئة او جماعة دون أخرى، إذا كان همه الذي سعى اليه وبذل فيه غاية جهده هو تحقيق التعايش الإنساني والسلام والرفاهية بين الجميع وفقاً لتعاليم الدين الاسلامي التي لم تفرق بين فرد وآخر.
وقد شكل الخطاب المعتدل الذي نهجه الامام الشيرازي، قولاً وعملاً، مساهمة فاعلة في خلق التأثير الإيجابي لدى المجتمع الإسلامي بصورته الخاصة والمجتمعات الإنسانية عامة، وما زال تأثيره قائماً من خلال نتاجاته الفكرية ومؤسساته العلمية والثقافية والخيرية المنتشرة في بلاد المسلمين ومختلف بقاع العالم، ورغم ان السيد الشيرازي كان فرداً لا يملك القوة والسلطة التي تملكها مراكز السلطة والمال والاعلام، الا انه استطاع بإيمانه الواسع بضرورة تطبيق أسلوب ثقافة الاعتدال وتوابعه ان يتفوق بمراحل عن الآخرين، كما انه استطاع ان يبني الأساس الصحيح الذي يمكن اعتماده في تصحيح المسارات الخاطئة في نهجها نحو العنف والتطرف والخلاف.
اضف تعليق