ما ميَّز الإمام الشيرازي من بين جميع صفاته الحميدة الأخرى هو الأخلاق العملية أو التطبيقية، وهو السر الذي خلَّد تراثه الثري. كيف لا وهو المنادي: مهما كان للفرد من صفات ودرجات عالية من العلم والمال والشرف والحسب والنسب فلا فائدة إن عدمت الأخلاق، وسيزول كل شيء بزوال الأخلاق...
ما هو دور الاخلاق العملية في استنهاض الامة؟ وكيف كانت الاخلاق العملية للإمام الشيرازي كنموذج وقدوة؟
كما أن هنالك واجبات فردية فهنالك أيضا واجبات اجتماعية، وكما ان هنالك أخلاق فردية فهنالك أخلاق اجتماعية، وهي ليست نظرية بقدر ما هي تطبيقية، من هنا فإنها تعنون بـ" الأخلاق العملية"، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأسوة الحسنة حيث يقول تعالى عنه: "وإنك لعلى خلق عظيم"؛ وهنا في الوهلة الأولى يتبادر إلى الأذهان ان هذه الأخلاق هي أمور فردية كالصدق والأمانة وإلقاء السلام والوجه الطلق وما شابه..
في حين إن لهذه الأخلاق جانب اجتماعي؛ حيث ان حكومته كانت لعلى مبنى عظيم من خصائص ومميزات وصفات كالأمور التي ترتبط بالناس والنظام العام.
ولقد ترجمها وجسدها الإمام المجدد السيد محمد بن المهدي الحسيني الشيرازي أعلى الله مقامه الشريف في سيرته العلمية والعملية من خلال نظرياته ومواقفه وتطبيقاته.
والمتتبع لآثاره يلاحظ ذلك بوضوح؛ فهو مثلا لا يرى "الغيبة" انها مجرد حديث بين شخصين ضد طرف ثالث غائب، وإنما وسع هذا المفهوم ليرى أن مفهوم الغيبة في تخصص أجهزة المخابرات وتدخل الحكومات في شؤون الناس فيرى حرمة ذلك وحرمة الأقاويل أو الإشاعات التي تطلقها التيارات السياسية والاجتماعية ضد بعضها البعض.
ومن خلال هذه الرؤية وسع إطار الفقه والأوامر والنواهي الشرعية فيرى الاستبداد من أبرز مظاهر المنكر، والسجون ظاهرة غير إسلامية، كما يرى أن المعروف ومكارم الأخلاق في إطلاق الحريات وإحقاق حقوق الناس. (راجع فقه الدولة الإسلامية).
وكما ان الإمام الشيرازي قد وسع من نطاق مفهوم الأخلاق فإنه يرى أن مفردة "المسلم" تشمل كل إنسان مهما يحمل من أفكار ومعتقدات ولابد من حمايته وصيانته ما دام بين المسلمين. (راجع: الإسلام هو الإسلام).
ويرى قابلية إشاعة الأخلاق ونشرها عند جميع الأمم، فإذا كانت الصناعات والعلوم قابلة للتصدير وعابرة للقارات فلماذا لايكون ذلك لمكارم الأخلاق؟ (راجع: فقه المستقبل).
ومع كل ذلك فإن الإمام الشيرازي وبناء على حديث "كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم" يؤكد على النهج التطبيقي لا النظري فيقول: ".. وليست المسألة مسألة المبادئ والتاريخ فقط، وإنما مسألة التطبيق أيضاً.. فقد رأى المسلمون والعالم أجمع المجتمع الإسلامي الأول الذي بناه الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم مجتمع مبني على الألفة والثقة والتعاون والمحبة ووحدة الكلمة والاستشارة.. و.. لقد رأوا منهجًا سليمًا، وتطبيقًا كاملًا لذلك المنهج، بينما لا يجد الناس في كثير من المنظمات والأحزاب النموذج الذي تدعو المنظمة أو الحزب أو الجماعة أو الهيئة إليه، بل يرون العكس من ذلك. مثلًا: المنظمة أو الحزب أو الجماعة تدعو إلى الشورى في الحكم، والناس يرون أن الاستبداد والدكتاتورية يسودان التنظيم فيقولون: هؤلاء يمارسون الدكتاتورية فيما بينهم قبل الحكم فإذا وصلوا إلى الحكم ماذا يصنعون؟" (راجع: الصياغة الجديدة).
فواقع الحال يقول ان ما يفعله هؤلاء باسم الدين يوحي ان مهمة تشويه صورة الإسلام صارت بيد المسلمين أو الإسلاميين!! (راجع: الفقه القانون، وعاشوراء والقرآن المهجور).
ولقد كان الإمام الشيرازي بشخصه وشخصيته نموذج للتطبيق العملي للأخلاق؛ فكم من افتراءات قد وجهت ضده في حياته وحتى بعد وفاته؛ وكان منها ما قال أحدهم انه متأثر بأفكار سيد قطب او الإسلام السياسي المنبثقة من حركة الإخوان، في حين ان كتب الإمام الشيرازي مملوءة بالرد على أفكاره وأفكار تلك الحركة، وأعلن بصراحة القول : "إني لا أرغب بهذا المؤلف لأنه من المنحرفين عن أمير المؤمنين عليه السلام" (راجع: كيف ولماذا أسلموا؟)
ومنها ما كتبه في كتاب "القرآن منهج وسلوك" حيث جاء في رده على كتاب في ظلال القرآن: "إن صاحب كتاب (في ظلال القرآن) الذي لم يهتدي بنور الإيمان؛ إذ ملأ قلبه بالحقد والغل للرسول وآله وذويه عليهم السلام، فتراه في عرض تفسيره وطوله ينتقص من الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.." (راجع: القرآن منهج وسلوك ص٨، وحوار حول تطبيق الإسلام).
والكثير من الإفتراءات والأكاذيب وهو لم يلتفت إليها وإنما كان شعاره: "إن النظرة الإصلاحية لا تستوحش من السب، فإن الرجل لا يقدم على الإصلاح إلا إذا وطن نفسه على أمور أهونها الشتم والوقيعة فيه، لكن سرعان ما ينقشع السحاب، ويجلو العمى، فيمدحه الساب، ويفتخر به الشاتم، ويعظمه النائل منه، ولوكان المصلح مجهزا بحلم وثبات شديدين، لكن اللازم عليه ان يفرح بالسب أكثر من ان يفرح بالمدح.." (راجع: المقالات، ص٥٦).
من هنا وبناء على ما سبق فإن ما ميَّز الإمام الشيرازي من بين جميع صفاته الحميدة الأخرى هو "الأخلاق العملية أو التطبيقية، وهو السر الذي خلَّد تراثه الثري. كيف لا وهو المنادي لهذا القول: مهما كان للفرد من صفات ودرجات عالية من العلم والمال والشرف والحسب والنسب فلا فائدة إن عدمت الأخلاق، وسيزول كل شيء بزوال الأخلاق. (راجع: الأخلاق الإسلامية).
اضف تعليق