للصائم فرحتان: فرحة عند إفطاره، وفرحة عند لقاء ربه)، فبعد رحلة الصيام الطويلة والشاقة، لا يخرج الإنسان من هذا الشهر خالي الوفاض، وإنما هنالك ثواب يومي يحصل عليه في لحظة إفطار كل يوم من أيام شهر الله، بالإضافة إلى الفرحة التي تنتظره حين يلتقي ربه تعالى...
(الصوم يُلزِم الإنسان بالارتقاء بنفسه) الإمام الشيرازي
إن معنى الصوم في اللغة هو مطلق الإمساك، وهذا يعني الامتناع عن تناول الطعام والشراب في شهر رمضان الكريم، أو في الأيام المباركة الأخرى المستحَب فيها الصيام، ويأتي الصوم على نوعين هما، امتناع عن الطعام ومسك الجوارح عن ارتكاب الخطأ بأنواعه، والمعنى العام للصيام هو الامساك عن أشياء مختلفة.
أما جانب الحكمة في الصيام، فهو فضاء أوسع من الأول، وهو يشمل الكثير من الأمور والأنشطة التي تدل على صوم الإنسان، وحصد الثمار الجيدة من صومه هذا، على مستويات عديدة تفرضها حكمة الصوم، ومن أهمها أن يرتقي الإنسان بنفسه إلى مرتبة الشهر الكريم، وإلى ما يستحقه فعل الصوم من نقاء وسمو وارتقاء للنفس، بما يدل على نظافتها وطهرها وبياض سريرتها.
ومن حكم الصوم ونتائجه الكبيرة تقوية إرادة الصائم، بحيث تجعله متحكما بنفسه ورغباتها الكثيرة، بحيث يكون قادرا على صدّها ودحرها لأنه يتحصّل على إرادة قوية من صيامه، فمن يستطيع تحمّل الجوع والعطش، ويتمكن من كبح غرائزه غير المشروعة، وتطويع نفسه وحصرها في الحيّز النقي النظيف والصحيح، يحتاج حتما إلى إرادة قوية يحصل عليها من خلال أدائه للصيام.
الإنسان الحكيم هو من يتخلص من أمراضه الجسدية والنفسية، ويعد الصيام من أفضل طرق العلاجات العضوية والنفسية، ولهذا من حكم وفضائل الصوم، تخليص الإنسان من أمراضه على المستويين العضوي البايولوجي والنفسي الذي يصيب الإنسان فيما لا يُلمَس ولا يُرى رؤية العين، ولهذا من فضائل الصوم على الإنسان، تخليصه من الأمراض بأنواعها المختلفة.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يؤكد في إحدى محاضراته القيّمة، على أن:) الصوم يلزم الإنسان بأن يرتقي بنفسه، ويجب انطباعها بطابع الملَكات الحسنة، وتقوية الإرادة، وتنظيف الجسم من الأمراض الناشئة عن الأكل والشرب وما أشبه).
من الحِكَم التي يطبعها الصيام على الناس، هو شعورهم بالمساواة الإنسانية في هذا الفعل الإنساني الديني الجمعي، فالكل عليه أن يؤدي صيام شهر رمضان، لا أحد معفي من ذلك إلا في الحالات التي حددتها الأحكام الشرعية، وهي معروفة ومنها المرض أو السفر، أما الناس الأصحاء فكلّهم مطالبون بأداء الصوم.
وحدة الشعور الوجداني بشهر رمضان
لا فرق في ذلك بين غني أو فقير، ولا بين قوي أو ضعيف، ولا بين رجل أو امرأة، فلا توجد امتيازات معينة تعفو أحدا من الصيام بسبب ماله أو جاهه أو قوّته أو مركزه في أي مجال كان، الجميع يتساوون في أداء الصوم، لذلك فإن الإنسان يشعر أنه ملتحم مع الآخرين في هذا الفعل ومتساوٍ معهم، فيمنحه ذلك شعورا بالمساواة والعدل والاعتداد الراسخ بالنفس.
بالإضافة إلى ذلك من الأمور الحكيمة التي تنتج عن الصوم، توضيح أحوال الفقراء للأغنياء، أو للمسؤولين، فيجعلهم يشعرون بأوضاع المعوزين، وهذا يفترض أن يهبوا لمساعدتهم والوقوف إلى جانبهم، وسد نواقصهم المادية وسواها.
يقول الإمام الشيرازي: إن (الصوم هو تذكير للغني بحالة الفقير، وتسوية الناس أمام الله سبحانه، مما يشعر الإنسان بأنه فرد في مجموعة من البشر المتساوين أمام خالق واحد).
من الشروط ذات النفع الجمعي في الصيام، أن الشرع جعل بداية شهر رمضان تُعرَف وتحدَّد من خلال رؤية الهلال، وكما أن نهاية هذا الشهر تُعلن وتُعرَف بطلوع الهلال أيضا، وهذا يُلزم الجميع بالصيام في يوم ووقت محدَّد، ويعلن نهاية الشهر في يوم محدد يخص الجميع، مما يمنحهم شعورا جماعيا يزيد من تماسكهم النفسي والاجتماعي والديني، ويمنحهم شعورا بالتقارب والتساوي والاحترام.
هذا الارتباط بين بدء وختام شهر رمضان، وجعل الهلال إشارة البداية والانتهاء، يجعل الناس في حالة وجدانية موحَّدة، تزيد أيضا من لحمتهم، وتراحمهم، وألفتهم، على العكس مما لو كان قرار اختيار شهر الصيام حالة فردية أو شخصية، يحددها كل فرد بنفسه كما يشاء، ففي هذه الحالة يغيب الشعور الجمعي الوجداني، ويخسر الناس رابطا عظيما من الألفة والرحمة والتكافل فيما بينهم.
وهذا ما يشير إليه الإمام الشيرازي في قوله: (الشرع جعل بدء شهر رمضان وختامه بالهلال، وشرّع الصيام للكل في وقت واحد، لما فيه من المظهر العام والمشاركة الوجدانية التي لا تتحقق في حال خيّر كل شخص بوقت الصيام الذي يريده خلال السنة).
من الحِكم المفيدة للصيام أن تشريعه وأدائه يتم في ساعات النهار وليس في الليل، وهذا التحديد النهاري للصيام له منافع كبيرة للناس، تُظهر الفائدة من الصيام نهارا، فيما يصبح الليل مقابلا من حيث السماح بالقيام بما يتم منعه أثناء الصوم في النهار، فالليل ليس في منافع النهار، كونه أساسا يشكل حالة سبات للبشر.
الفرحة التي لا تقدَّر بثمن
بمعنى أن مصاعب الصوم في النهار أكثر بكثير مما لو كان يتم ليلا، ومنها على سبيل المثال اختلاط الناس مع بعضهم، وتضارب المصالح فيما بينهم، وازداد التعاملات المتبادلة التي يجب أن يحكمها الصوم من حيث النقاء والصدق والدقة وما إلى ذلك من شروط التعاملات الصحيحة، كما أن إرادة الإنسان تكون أمام المحك الأصعب عند الصوم في ساعات النهار.
يقول الإمام الشيرازي: (جاء تشريع الصيام في النهار دون الليل، لأن الليل ليس فيه المنافع الموجودة في النهار، وإذ ينام الإنسان في الليل غالباً، فلا تنطبع النفس بطابع الكف المؤثر في إرادته قوةً، وفي نفسه ملكةً، وفي روحه سمواً).
مما تقدم فيما سبق، تظهر بجلاء قيمة شهر رمضان، وكيف أن الله تعالى جعل منه دستورا للبشر، كي يحققوا من خلال تطبيقه سعادة النشأتين، أو سعادة الدارين، الأولى، والآخرة، فحريّ بالناس أن يعوا جيدا هذا الدرس، ويفهموا ويغتنموا جيدا هذه الفرصة، فمن يفعل ذلك سوف يكون من الغانمين، ومن تضيع منه فرصة اغتنام الدستور الإلهي، فإن سوف يتعرض لخسارة تعدّ الأكبر بالنسبة له.
هذا الشهر المبارك، سمّي بشهر تطهير النفس، وطالما أن النفوس معرّضة للأخطاء، وارتكاب الذنوب، على مدار الساعة، فإن معرفة شهر رمضان ومزاياه والتمسك بها فرصة لا تعوَّض لمحو الدنس وتنقية النفس، وإعادتها إلى المسار الصحيح وفق الدستور الرمضاني الذي يساعد الجميع على تنظيف أنفسهم.
ولا ننسى العنصر الحاسم الذي يمكن أن يفوز به الإنسان في حال أدائه الجيد والصحيح للصيام، فهو يدخل بشكل مجاني دورة تدريب مدتها شهر على تقوية الإرادة وجعلها فولاذية، ويمكن أن تتحول من خصلة أو عادة إلى ملَكة والأخيرة تعني أن الإرادة لم تعد خصلة أو عادة عند الإنسان وإنما باتت تشكل شخصيته برمّتها، لأنها باتت مزروعة في الإنسان زرعا ثابت الجذور.
لذلك يدعو الإمام الشيرازي الجميع للاستفادة من هذا الشهر الكريم فيقول:
(ما أجدر بالإنسان أن يتخذ مثل هذا الشهر الذي منّ الله فيه على البشر بأعظم دستور لحياته وسعادته في النشأتين، شهر تطهير وتنظيف وتقوية إرادة، وتجديد صلة بالله سبحانه).
وأخيرا، عن الصادق (عليه السلام) أنه قال: (للصائم فرحتان: فرحة عند إفطاره، وفرحة عند لقاء ربه)، فبعد رحلة الصيام الطويلة والشاقة، لا يخرج الإنسان من هذا الشهر خالي الوفاض، وإنما هنالك ثواب يومي يحصل عليه في لحظة إفطار كل يوم من أيام شهر الله، بالإضافة إلى الفرحة التي تنتظره حين يلتقي ربه تعالى، وهي الفرحة التي لا يمكن أن تقدَّر بثمن.
اضف تعليق