الإمام الشيرازي حذر من هذه الظاهرة منذ عقود، لاسيما في المجتمعات الإسلامية، وهي ضارة حتى على المستوى العالمي، ولا يمكن تبريرها تحت مسميات النمو الاقتصادي العالمي وما شاكل من تبريرات لا ترقى للدقة، لذلك لابد أن يسعى عقلاء البشرية إلى إيجاد ما يلزم من وسائل وخطوات عملية تحد من وباء الربا...
(من الواجب التخطيط الشامل العاجل والآجل لإلغاء الربا) الإمام الشيرازي
من القوانين أو القواعد أو الأقوال المأثورة التي لا تقبل الخطأ، تلك الجملة التي تتكون من بضع كلمات تقول (لا يصح إلا الصحيح)، وهو قول تم تطبيقه في التاريخ وأحداث الحياة في كل العصور والأزمنة، وثبتت صحته، لأن مصدر هذه الصحة توافُق وانسجام هذه الكلمات مع فطرة الإنسان وما تهفو إليه من نتائج، لذلك فإن كل شيء خاطئ مصيره الزوال.
انطلاقا من هذا المعنى (كل شيء خاطئ مصيره الزوال)، يؤكد أن الربا في طريقها إلى الزوال، كونها تنتمي إلى الأعمال الخاطئة، لأن الربا يقوم على ظلم الناس وابتزازهم، وإكراههم على الاستدانة والاقتراض جبرا، وإضافة مبالغ ضخمة عليهم عند التسديد بطريقة التقسيط، أو التسديد اللاحق كما يحدث في بعض الأعمال التجارية.
الربا لا ينسجم مع فطرة الناس، ولا يستقيم مع مشاعرهم وحياتهم، فيفسد العلاقات فيما بينهم، ويجعلها قائمة على الإجبار تحت الحاجة المادية، وبعض هذه الحاجات غير قابلة للتأجيل كالمرض أو الفقر المدقع وسوى ذلك من أسباب قاهرة، تدفع الناس باقتراض الأموال بطريقة الربا المرفوضة إسلاميا وإنسانيا، ولذلك فهي في طريقها إلى الزوال الحتمي.
ولكن من الأفضل أن يتم العمل على تسريع خطوات إلغاء الربا، كيف يمكن أن يتم ذلك؟، يجب أن لا ينتظر أصحاب القرار أن ينتهي الربي بذاته دون تدخّل من المسؤولين عن القضاء عليه، ولذلك لابد من التخطيط العلمي العملي لمواجهة الربا والقائمين به، من خلال وضع خطط سديدة منسَّقة موضوعة من أصحاب الاختصاص، لتخليص البشرية من هذا الوباء المستشري على نحو واسع وخطير.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) قدّم ما يلزم لمعالجة الربا، واقترح وأوصى بإلغاء الربا بالتخطيط للتعجيل بنهاية هذا الوباء ولا ننتظره ينهي نفسه بنفسه كونه من الأخطاء التي تنهي نفسها، وقد جاءت هذه الخطوات والملاحظات العميقة في مؤلَّفهِ القيّم الموسوم بـ (فقه المستقبل)، حيث يقول (رحمه الله):
(إننا نرى أن إلغاء الربا من الحتميات المستقبلية بإذن الله تعالى، لكن التخطيط الفعلي والمستقبلي سوف يسرِّع في ذلك، فالواجب التخطيط الشامل العاجل والآجل، لأجل إلغاء الربا بمختلف أشكاله وصوره من البنوك وما شاكل ذلك).
انتشار حالات ابتزاز المحتاجين
هناك نسبة كثيرة تضطر إلى الاقتراض بالربا لتحقيق أهداف صالحة، ومطلوبة من الإنسان، كالزواج مثلا، أو الاسترزاق بإيجاد عمل ما وتمويله والعمل فيه لكسب الرزق اليومي للفرد والعائلة، وقد يقترض الإنسان لبناء مسكن بسبب غلاء إيجار البيوت وعدم توفرها، وبعضهم ربما يقترض كي يأكل ويشرب ويلبس، وهي احتياجات لا يمكن أن يتخلى الإنسان عنها.
في هذه الحالة كيف يجرؤ أصحاب الأموال على ابتزاز المحتاجين وفرض مبالغ كبيرة عليهم، قد تتجاوز المبلغ الذي يحصل عليه الإنسان المحتاج، أيعقل أن من يقترض كي يكمل نص دينه عليه أن يدفع أكثر مما يستدين، أو حين يستري أرضا أو بيتا للسكن، أو طعاما أو شرابا، فهذه الاحتياجات من الظلم القاهر أن يُرابا بها، ويُستربح منها.
الإمام الشيرازي يقول:
(إذا كان الشخص الذي يقترض مالا لحاجة من زواج أو أكل أو شرب أو مسكن أو ملبس أو ما أشبه ذلك، فمن الظلم الفظيع أن يؤخذ منه مالاً زائداً أكثر مما أُعطي إليه. وإن كان أخذه للمال من أجل أن يعمل به في نطاق المضاربة المشروعة، أو من أجل الاسترباح، فقد يتعرض إلى الخسارة، أو يحقق ربحاً، أو تكون النتيجة لا شيء، أي لا خسارة ولا ربح).
هناك من يشتغل بالمبلغ الذي يحصل عليه بالربا، وقد يخسر في مشروعه لأسباب كثيرة، فهل يصح أن يدفع أموالا أكثر من المال الذي اقترضه بالربا، وهل يجوز أن يدفع فوق خسارته والوقت الذي أهدره بالعمل؟، وقد لا يربح ولا يخسر وفي هذه الحالة لا يجب أن يدفع أكثر مما استدان لأنه خسر وقته وجهده.
وقد يربح القليل وفي هذه الحالة سوف يحصل على هذا القليل في مقابل جهوده وأوقاته التي خسرها في هذا العمل، ومن العدل أن يحصل على ربح مقابل عمله، فلا يصح في هذه الحالة أن يدفع لصاحب المال أكثر من المبلغ الذي حصل عليه، وهذا يوضح أن هناك ظلما واضحا يقع على الناس المحتاجين بسبب الربا.
الإمام الشيرازي يؤكد ذلك في قوله:
(إذا خسر فمن الظلم أن يؤخذ منه مالاً إضافياً أكثر مما أعطي إليه، فقد صرف وقته وذهب ماله، فكيف يحمل الزيادة بإعطاء الرّبا. وإذا لم يحصل على شيء أي لم يخسر ولم يربح، فلا معنى لأخذ الزيادة أيضاً؛ لأنه لم تحصل زيادة على ماله، بل قد خسر وقته. وإذا ربح، فالربح قد يكون مساوياً لما يعطيه من الفائدة، فقد خسر جهده الذي بذله في العمل).
الزحف المادي الاستهلاكي العالمي
تبدو الحاجة إلى العدل في قضية الاقتراض واضحة، سواء كان مصدرها الحكومة وبنوكها، أو البنوك الأهلية، أو بعض الأثرياء، فلا يمكن أن يُجبر الإنسان الخاسر لأمواله في تجارة أو مشروع ما، على دفع أموال فوق ما يخسره، وحتى في حال الربح، لابد أن تكون نسبة الزيادة على المال المقرَض محسوبة بدقة وعدالة ومنصفة، وهذا هو دور العقلاء لإشاعة سلوكيات جيدة بين الناس وعدم إكراه الفقير على الدخول في الربا.
وهذا ما يؤكده الإمام الشيرازي في قوله:
(لابد أن يجعل الأمر مُضاربة بالنسبة، فإذا خسر في التجارة، أو لم يحصل على شيء، أي لم يربح ولم يخسر، لا يدفع شيئاً، وإذا ربح أعطى صاحب المال بالقدر المقرر عند العقلاء، من نصف أو ثلث أو ثلثين أو ما أشبه ذلك، باختلاف الزمان والمكان والبضاعة وغيرها في هذا الأمر).
النتيجة التي نصل إليها أن نظام الربا مكتوب عليه الزوال، وأن استمرارية العمل به غير مجدية، ومع ذلك هو موجود، ويتزايد في مجتمعاتنا التي باتت تحت رحمة الزحف المادي العالمي، هنا تكمن خطورة الربا، لاسيما عندما يتم تبريرها بحجة أن عصرنا هذا عصر استهلاكي مادي يتطلب المراباة، وهذا قول مخالف للعقل والفطرة والسلوك السليم.
الإمام الشيرازي حذر من هذه الظاهرة منذ عقود، لاسيما في المجتمعات الإسلامية، وهي ضارة حتى على المستوى العالمي، ولا يمكن تبريرها تحت مسميات النمو الاقتصادي العالمي وما شاكل من تبريرات لا ترقى للدقة، لذلك لابد أن يسعى عقلاء البشرية إلى إيجاد ما يلزم من وسائل وخطوات عملية تحد من وباء الربا المادي وتسرّع خلاص البشرية منه.
يقول الإمام الشيرازي:
(لما كان إلغاء الربا بهذه الكيفية أمرٌ عقلي، والفطرةُ تدعو إلى العقلانية، فإنّ الحتمية المستقبلية تؤكد إلغاء الربا؛ ذلك لأنّ العقلاء يسيرون نحو الفطرة، لأنّها نداءٌ من أعماق الإنسان، فلا بد من الانقياد لها ومسايرتها).
وأخيرا فإن من يلقي نظرة على العالم أجمع، ويتابع مشكلة الربا، فإنه سوف يكتشف مستوى استشرائها وانتشارها عالميا في الأنظمة المالية والبنوك العالمية، فضلا عن تداولها في شبكات الصيرفة على نطاق واسع حتى في بلداننا الإسلامية، لذلك حان وقت الخلاص من الرباء من خلال وضع الدراسات والخطط الدقيقة التي تُسهم في وأد هذه الظاهرة بشكل تام.
اضف تعليق