q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

كيف تتخلّص من فرديّتكَ السلبية؟

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

يوجد من ينظر إلى الفردية على أنها نوع من الحرية الشخصية التي يجب أن تتوفر للإنسان، ولا يجوز المسّ بها بغض النظر عن الإفرازات السلبية التي تترشح من الأسلوب الفردي القائم على الأنانية، وهناك مناهج وفلسفات اجتماعية تصطف إلى جانب السلوك الفردي، وتغض الطرف عن السلبيات التي قد ترافق الفردية الأنانية...

الانضمام للجماعة يقلّل من غلواء الفردية السلبية)
 الإمام الشيرازي

يوجد من ينظر إلى الفردية على أنها نوع من الحرية الشخصية التي يجب أن تتوفر للإنسان، ولا يجوز المسّ بها بغض النظر عن الإفرازات السلبية التي تترشح من الأسلوب الفردي القائم على الأنانية، وهناك مناهج وفلسفات اجتماعية تصطف إلى جانب السلوك الفردي، وتغض الطرف عن السلبيات التي قد ترافق الفردية الأنانية، وهؤلاء ينظرون إلى الفردية بعيدا عن التبعات الخطيرة التي تتسبب بها، كالعزلة والانكفاء والتردد.

أما الجماعة أو المجتمع فتعني تضافر البشر فيما بينهم، وانضمامهم إلى بعض، وانضوائهم تحت قيم وضوابط تضبط الإيقاع القيمي والسلوكي البشري، ومن أهم ما ينتج عن هذا النوع من الأنشطة، النتائج الجمعية التي تنعكس إيجابيا على الجماعة أو المجتمع كله، على العكس من المنهج الفردي الذي ينحصر من حيث الفوائد بالفرد وحده، وحتى هذا النوع من الفائدة يكون ذا طابع غير فاعل ولا مؤثر في قضية بناء المجتمع الناجح.

هناك فوائد جمّة تنتج عن انضمام الفرد إلى المجتمع، بعضها معنوية وأخرى نفسية، وكذلك هناك جوانب وجدانية لعلاقة الفرد بالجماعة، حيث يشعر الفرد بأنه ليس وحيدا، وأن الكل معه، مثلما يشعر بأنه مع الكل، حيث تحكمهم منظومة قيم وسلوكيات واحدة، تبعد عنهم شبح الأنانية الفردية، وتفتح أمامهم آفاق التعاون والتقارب المشترك، حيث يصبح الجميع وكأنهم في جسد واحد، فيكون تفاعلهم جماعي والنتائج الإيجابية سوف تشمل الجميع.

الإمام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيم الموسوم بـ (الصياغة الجديدة):

(من فوائد انضمام الفرد للمجتمع شعوره الداخلي بالقوة، حيث يرى وجوده في داخل كل إنسان كما يجد كل أفراد المجتمع في داخله، وهذا ما يسمى بـ (المشاركة الوجدانية)، فكأنهما إنسانان في جسد واحد أو كأن الاجتماع بكله إنسان واحد، بالإضافة إلى الوحدة الاعتبارية التي يشعر بها).

نتائج وخيمة للعزلة والانكفاء

وهكذا يتحول الشعور الفردي والخشية من العزلة والانكفاء، إلى شعور آخر يشي بالأمان والطمأنينة وفتح آفاق الإبداع الفردية في إطار الجماعة أو المجتمع، وهكذا يحصل الفرد على القوة المعنوية والنفسية بانضمامه إلى الجماعة، ولا يشعر بعدها بالخوف من كونه وحيدا في مواجهة مصاعب الحياة أيّا كان نوعها أو مصدرها، وهذا الشعور الثنائي (شعور الفرد أن الكل مندمج فيه وأنه مدمج في الكل)، يمنح الفرد قوة مضاعفة فيزداد عطاؤه الفردي في ظل وجوده وفاعليته من ضمن الجماعة، فتكون الفائدة فردية جماعية في نفس الوقت.

كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي في قوله:

(في الانضمام للمجتمع قوة للإنسان حيث يجد أن الكل في باطنه وانه في باطن الكل).

يوجد اختلاف كبير بين الفرد الذي يؤمن بفرديته خارج الاندماج المجتمعي، وبين الفرد الذي يجد فاعليته ونشاطه وابتكاراته من ضمن الجماعة التي يعيش معها، لذلك الفرد المنخرط في المجتمع يكون ملتزما بالقيم والتقاليد والأعراف التي يؤمن بها الجماعة، فيسعى إلى أن يتشابه معهم ويقر ويأتمر بالضوابط الاجتماعية التي حدّدها الجماعة أو المجتمع.

فيلبس مثلما يلبسون ويتقارب معهم في القضايا الاجتماعية والأخلاقية والعقائدية وسواها، ويحاول أن لا يشذّ عن هذا الإجماع، فيصبح بذلك جزءا حيويا من الجماعة، على العكس من الفرد الذي لا يجد نفسه مع الجماعة، فينعزل ويغور في فرديته عميقا، فتكون أفعاله وأعماله المختلفة ذات طابع أناني لا تعود بالفائدة على المجتمع، بل حتى هو لا يستفيد من نشاطاته المختلفة، لأنها تبقى في مسار ضيّق محدود ولا تجد لها متنفّسا عند الآخرين.

وهناك فارق جوهري بين المنضمّ إلى الجماعة والمنعزل عنها، الأول يكون إيجابيا في تعاملاته ونظرته إلى الآخرين ويلتزم بما يتفقون عليه في الشأن الاجتماعي والأخلاقي وسواه، كما أنه يستجيب إلى العادات والقيم الرابطة والضامنة للجماعة، بمعنى أدق أن الفرد ذو الاندماج الاجتماعي يكون ملتزما بكل شيء، على العكس من الآخر الذي يسعى لحرية شخصية قد تريحه لكنه لا يجني منها أي شيء.

يقول الإمام الشيرازي:

(بسبب الانضمام للمجتمع تقل فردية الإنسان واستقلاله، فليس الفرد المنفرط كالفرد المنضم إلى غيره، لأن الفرد المنفرط كامل الاستقلال في ما يعمل ويأكل ويتصرف، أما الفرد المنضم فإنه يكون مقيَّدا في أكله وشربه، في لبسه وزواجه، في مسكنه ومركبه، في ذهابه ومجيئه، صحيح أن التقييد ليس كليا لكنه تقييد على أي حال وهذا يسمى بـ التقييد الإطاري).

كيف ندرأ خطر الأنانية؟

الفارق كبير بين النوعين من العلاقات، فمن يسعى لتوسيع علاقاته الاجتماعية، ويقرّ بالضوابط والقيم التي تحكمها، نجده بعيدا عن السلوكيات الفردية ذات الطابع السلبي، فلا يكون أنانيا، ولا يفكر بفائدته الشخصية، بل غالبا تصبّ نشاطاته في الفوائد والنتائج التي تعمّ الجميع، فهو يحصل على نتائج فردية جيدة وفي نفس الوقت يحدث ذلك في دائرة جماعية بعيدة عن العزلة والأنانية.

يقول الإمام الشيرازي:

(العلاقة الاجتماعية نقيض للوحدة والفردية السلبية، وهي في نفس الوقت تقود إلى الوحدة الاجتماعية، وتضعف الأنانية بينما تزيد من الأنانية الاجتماعية).

كذلك تقود العلاقات الاجتماعية (الجماعية) إلى وحدة الناس، وتقاربهم، ووقوفهم إلى جانب بعضهم، فتنتشر القيم الأصيلة فيما بينهم، وتسودهم العلاقات المتوازنة، والثقة المتبادلة، ولا يشعر الفرد وهو في إطار الجماعة بالغبن أو القلق أو الخوف الذي يعاني منه الإنسان حين يعزل نفسه عن الآخرين، بحجة أنه متمسك بحريته الفردية وأنه ضد الاندماج مع الجماعة، لأسباب قد تكون فكرية أو فلسفية أو سواها.

لكن حين يتخلى الإنسان عن الفعل والشعور والوجدان الجماعي، فإنه في هذه الحالة سوف يكون أنانيا إلى درجة كبيرة، وأن نتائج مثل هذا السلوك تؤثر عليه وتؤذيه هو قبل أي شخص آخر،   لأن الأنانية سوف تسيطر عليه تماما وتفسد حياته قبل غيره.

كما يؤكد الإمام الشيرازي بقوله:

(إن الانضمام الاجتماعي نوع من التواضع، إذ معناه إنك تحب نفسك وتحب غيرك، وكونك في داخله، وكونه في داخلك، بخلاف عدم الانضمام للمجتمع، حيث يكون الإنسان في هذه الحالة أنانيا لا يحب غيره، وإنما يحب نفسه فقط).

السلوك الأناني الفردي يبعد الإنسان عن المجتمع، فيظن الفرد أنه في منأى عن المسؤولية، لكن هناك خسارة كبيرة سوف يُمنى بها الفرد بسلوكه الأناني، حيث سوف يصبح غريبا عن المجتمع، ويسيطر عليه شعور سلبي بأنه نرجسي يطيح به التكبر والغرور، لكنه في نهاية المطاف سوف يكتشف عزلته ووحشتهُ وخسارته التي تسلبه كل شيء في الحياة.

أما الفرد الذي يكتشف وجوده بين الناس ومع الجماعة، فنلاحظ أنه يتسم بتواضع جم وأخلاق جيدة، تؤهله لأن يكون عنصرا فاعلا ومتميزا في المجتمع، فينقذ نفسه من الأنانية، ويكون فاعلا ومحبوبا ممن يعمل معهم أو يحتك بهم.

الإمام الشيرازي يؤكد على:

(إن الإنسان الأناني لا يشارك المجتمع في شؤونه، لكنه بنفس القدر يظل غريبا عن المجتمع وتطوقه الوحدة والوحشة وإن كان موجودا في المجتمع، بخلاف المتواضع الاجتماعي الانضمامي حيث لا يحسّ بهذه الوحشة، وإنما يحس بالألفة وإن كان في خارج الاجتماع).

الخلاصة إن المجتمعات الناجحة، ليست تلك التي تصنع أسوارا شاهقة بين الأفراد، ويعيش كل منهم في صومعته، أو مكانه المغلق على الآخرين، بل الأمم الناجحة هي تلك التي تقرّب بين النفوس والقلب، وتشجع الفعل الإنساني الجمعي، وتوحد بين الأعمال ولا تفرقها، وهذا ما ينبغي أن يعمل عليه قادة النخب في المجتمع، كما أن الفرد تقع عليه مسؤولية حماية نفسه من الانزلاق في هاوية الفردية السلبية المميتة.

اضف تعليق