q

يبدي المرجع المجدد، السيد محمد الحسيني الشيرازي أعلى الله مقامه، في تراثه وفكره النهضوي، اهتماماً واضحاً بمادة البناء العمراني، من خلال استقراء سماحته لموضوعة "وحدة الاشتراك في الحضارات"، وقد أثبت مادته النظرية، بتطبيقات عملية تاريخية، وفي عرض نماذج حضارية مختارة بعناية، بيّنت تحصيل تلك الحضارات، المختلفة في زمانها ومكانها، لوحدة القوانين الفلسفية العامة للتاريخ، مؤكداً "أن تلك الحضارات لها وحدة واحدة وروح عامة، وأن لها فلسفة عامة حالها حال النوع والجنس".

وقد تشكلت اختيارات المفكر المجدد، في هذه المباحث، لنماذج من أديان مختلفة، هي في جلّها غير سماوية، كالبوذية والكونفوشستية وسواها، ربما ليتجنب أن يسلك البحث فيها، منحى عقدياً، والحال أنها بنت حضاراتها، وفق رؤاها ومتبنياتها، فيبين المفكر المجدد، في مسألته في هذا المبنى، أن جميعها لها روح عامة واحدة، هي وحدة المبدأ والهدف، كما أن لكل واحدة بمفرها، روحاً عامة أيضاً، فالمرجعية المحورية، التي تتأسس عليها الروح العامة والقوانين الكلية، في فلسفة التأريخ، هو ما يطلق عليه، بقانون "التحدي والاستجابة".

لقد نشط المفكر المجدد في تراثه العلمي، في مجال البحث والدراسة في العلوم التاريخية، فكانت نتاجاته الفكرية فيها، استمراراً لسلسلة موسوعة الفقه، فهي مادة تاريخية واجتماعية في مضامينها، لكنها تنحو في منهجيتها البحثية، منحى التحقيق الفقهي، فتعبّر عن ذلك، من خلال شكليتها العلمية، ونصوصها الفقهية، التي دونّها سماحته بشكل مسائل فقهية، بما يتماهى والفقه الإستدلالي، أو تضمينه شكلاً، ضمن منهجية فقه الأحكام الشرعية، وهو بذلك يعد في نتاجه في هذا المضمار، استمراراً بحثياً علمياً، لسلسلة موسوعته الرصينة في الفقه، واستكمالاً لمشروع المجدد الرائد فيها.

لقد جهد السيد المجدد لإخراج أسفار مميّزة في مادتها العلمية، وفي حقل علمي، يندر الولوج لآفاقه ومبانيه، من قبل نظراء المؤلف، من الفقهاء المراجع والمجتهدين، كونه يصنّف عند الحجم الأكبر منهم، من العلوم غير الدخلية وغير الموضوعية، في البحث والتحقيق الفقهي، وهو ما أثبت المجدد نقيضه، لجهة العلاقة المباشرة بين العلوم التاريخية، ودخليتها الموضوعية في العلوم الدينية عموماً، وضمنها العلوم القرآنية، والتحقيق الفقهي.

وقد جمع السيد المجدد في هذا الموروث الفكري، وأثبت فيه، من عصارة الفكر والخبرة والدراية، لما يمكن أن يصنّف في العلوم والدراسات التاريخية، ومناهج البحث فيها، لفائدة الباحث وطالب العلم، فضلاً عن مشروع إعداد الفقيه المجتهد، بصفته المستهدف المباشر للإفادة منه.

وبذا يعد هذا التراث المعرفي، نتاجاً متميزاً، وإضافة للمكتبة الإسلامية الإمامية، التي تبقى فقيرة للأبحاث والمؤلفات، ذات الصلة بالتراث العلمي التاريخي، والبحث التاريخي عموماً، وذلك يسجّل ميزة لشجاعة المجدد المفكر، وصبره وصواب اختياره البحثي العلمي، التي تميّز بها سماحته، والتي أتحف بها المكتبة التراثية، في عناوين دافعة للطلاب والباحثين والدارسين، في المدارس والحوزات العلمية، للاهتمام في حقل علوم التاريخ والتراث العلمي.

وقد جعلها المفكر المجدد، حلقة مهمة من سلسلة بحوثه الفقهية، الموسومة "موسوعة الفقه"، والتي تميزت عن سابقاتها من البحوث في هذا المضمار، أنها أضافت عناوين جديدة، لم تكن تولج دراساتها سابقاً، ضمن مباني الفقه ومدركاته، وقد لوحظ أن المجدد قد انتحل فيه المنهج الفقهي التقليدي، في البحث والتحقيق، دون خروج فيه، عن المألوف العلمي البحثي، لجهة حداثة العنوان، أو مادته العلمية، التي تفترض مناهج خاصة، تعرف بمناهج البحث التاريخي، لكنه لم يتراجع أو يتساهل إزاء هذا المطلب، بل تمسّك بالتحقيق الفقهي الإستدلالي، والبحث الأصولي المنهجي، في اعتماد الأدلة الأربعة في البحث، النقلية والعقلية.

إن تراث السيد المجدد في هذا المجال، يقدم نموذجاً لأهمية الدراسة الدقيقة للتاريخ العام، والتاريخ الفقهي بشكل خاص، لجهة تتبع نتاج المفكرين وأصحاب القرار، وتأثيرهم في مسيرة الحياة، وتجارب نهوض الحضارات، وأسباب قوتها وضعفها، بما يعرف بصناعة التأريخ.

ولكون مباحث سماحته في الدراسة التاريخية، فأنه يستفز طلبة المدارس الدينية، لتتبع هذا الحقل العلمي وثيق الصلة والأهمية بدراستهم، وكذلك المراكز الدراسية والحوزات العلمية، لتولي العلوم التاريخية الاهتمام الذي تستحقه، ولتكون أكثر انفتاحاً وإدراكاً، لمواضيع تاريخ التشريع الإسلامي، وتاريخ التراث الفقهي، وهي الغاية السامية ذاتها، التي سعى اليها المفكّر المجدّد، في إخراجه لأسفاره ومؤلفاته العلمية الكبيرة، في حقل التاريخ والتراث العلمي.

يركز السيد المجدد على محورية الدراسات التاريخية، واهميتها في تكوين قاعده معرفية، قائمة على تحليل وقائع وأحداث التاريخ، وتعليل أسبابها، وتوظيف قوانين هذا العلم، لبناء الحضارة والنهضة الإسلامية المنشودة، بالإضافة الى الاستفادة من هذه القوانين، وتطبيقها على المكونات المجتمعية المختلفة، والمنظمات الأهلية غير الحكومية، والحركات الفكرية والسياسية فيها، ومؤسسات الدول ومكوناتها، وانتهاء بتجارب الأمم والحضارات، التي يورد نماذج تاريخية لها، منتخبة بعناية.

وعليه يمكن اعتبارها منظومة متعددة الاهتمامات، تساعد في العمل الذي يقوم به، العاملون في الهيئات الدينية، وخاصة المتصدون لتوجيهها وتشغيلها، في الشرح والبيان والتبصير، وصولاً الى اتخاذ القرارات المناسبة، حول ما يجب أن يكون عليه، مسار النهضة في المجتمعات الإسلامية، في التعرف على مواطن الخلل، والتوقيت المناسب للنشاط العام وآلياته، وما يجب أن يكون اتجاهها، من حنكة وإلمام ودراية، لجهة المتغيرات المحتملة، وتأثيرها في المجتمع.

فالمشروع النهضوي في فكر سماحته، قدم أفكاراً ثاقبة، طرحها بأسلوب لغوي دقيق، لجهة تصنيفها في فقه الأحكام والفقه الاستدلالي، ولهذا فقد صيغت عناوينها الرئيسة والفرعية، باسلوب المسائل الفقهية التقليدية المحكمة، التي تستوجب الدقة في صياغاتها اللغوية، والمباشرة في التعبير، دون تورية أو رمزية، لغرض فهمها بشكل لا يقبل التأويل أو الحاجة للتفسير.

فسماحته بذلك، يلج العلم الذي يحاول أن يكتشف القوانين الموجهة لحركة المجتمعات، ورسم المشروع النهضوي فيها، ويؤشر بتركيز واهتمام مقصود، الى الدور البشري في توجيه الوقائع التاريخية، سلباً وإيجاباً، باتجاه الخير أو الشر، في الإصلاح أو الإفساد.

فيؤكد سماحته في مشروعه النهضوي، على أهمية دراسة التاريخ، في تحقيق التغيير وبناء النهضة، ويبين مقومات الدول والحضارات، وأسباب نجاحاتها واندثارها، وأن نهضة الأمم، مشروطة بامتلاك إرادة التغير، لاغياً الاعتقاد لدى المعنيين بالمشروع النهضوي، والمشتغلين في جنباته، بأن التاريخ جزء من الماضي، وسرد لوقائعه وحوادثه، وسير رجالاته الماضين لا غير، والحال أن السيد المجدد، يتفرد في مباحثه، ليثبت الدور الموضوعي للتاريخ، في تأسيس العلوم الدينية عموماً.

ويثبت سماحته، أن الدراسة والبحث في السنن الكونية، مطلب رباني، وهو مطلب عقلي أيضا، فالتاريخ هو بيت الخبرة الإنسانية، ومن لا يعرف التاريخ يتعثر في مطبّات كبيرة، أما من يستفيد من تجارب الذين سبقوه، ونتائج أعمالهم، فحرّي به ألّا يكرر التجارب الفاشلة للآخرين، وأن يزيد البناء لبنة، وأن يبدأ من حيث انتهوا، وبذا سيملك حتماً فرصة سانحة للنجاح، وعليه فإن المهمة الأكثر إلحاحاً، هي في كيفية قراءة التجربة الإنسانية، بما يفضي الى فهم قوانينها ومبانيها، بكونها المفتاح والنافذة، للولوج في المشروع النهضوي، في المجتمعات الإسلامية، والأمة عموماً.

فيؤكد سماحته على أهمية تحليل أحداث التاريخ، والقوانين الفاعلة في نهوض المجتمعات، وتكوين الحضارة أو انهيارها، مع فهم الأفكار والربط بينها، والتي كانت مخرجاتها، تشكل النظريات التي تقوم عليها تلك الحضارات، أو تهوي وتزول، من خلال دراسة نماذج مختلفة للحضارات، في الزمان والمكان، تبين قوانين بناء أو سقوط الحضارات، فالإنسان شاهد على الزمن، والتاريخ شاهد على الإنسان، مما يمكنّه من ملكة استشراف المستقبل، والتنبوء بمساراته، وفق منهجية علمية.

إن المباني المعرفية، التي يتأسس عليها المشروع النهضوي، في منظور سماحته، تتأسس في الاهتمام بدراسة الفكر ومكنوناته، وهي الوعاء المعرفي "الإبستيمولوجي"، الذي يؤسس لتقنين العلوم والمعارف، بما ينشئ دراسة معمّقة، للتراث العلمي ومعالم إحيائه، ومن المفيد أن يبسط الفكر، لما فيه من سرد بأحوال الأمم السابقة، ليتحصل المعنيون وبناة الحضارة والنهضة، على خلفية تجارب الدول والحضارات، وعن أفكار الشخصيات التي صنعت التاريخ، لتعينهم على قراءة الوقائع بشكل موضوعيّ، ودراسة أثرها وتأثيرها، في مسار الأحداث، وبناء النهضة والحضارة.

اضف تعليق