الإنسان حين يحصل على السلطة، يمكن أن يتغير عمّا كان عليه، ويُصبح عنيفا، متعاليا أو متكبرا، متضخم الذات، لا تعنيه حقوق الناس بشيء، وقد يفقد أخلاقه وإنسانيته، وهذا الصنف من الناس يغلب عليهم حب الدنيا والتمسك بملذاتها، فما أن يصل إلى السلطة ويصبح له كنز من الأموال بأية طريقة كانت...
السُّلْطة هي قدرة شخص معين أو منظمة على فرض أنماط سلوكية لدى شخص ما. تعتبر السلطة أحد أسس المجتمع البشري وهي مناقضة لمبدأ التعاون. إن تبنّي أنماط العمل نتيجة فرض السلطة يُسمى الانصياع، والسلطة كمصطلح يشمل غالبية حالات القيادة، وهناك فرص كثيرة لانحراف من يمسك بالسلطة.
تُطبق السلطة استنادا إلى قوة اجتماعية معينة. قد تكون هذه القوة حقيقية (كالتهديد بالتسبب بأذى جسماني). تتحدد القوة من خلال الاستخدام المحتمل لعقوبة تمس بالشخص الذي لا ينصاع إلى السلطة أو يهددها. وقد تطبَّق السلطة بشكل مباشر استنادا إلى وجود قوة فعلية (كالتهديد بالحبس)، ما يسمى "الإكراه" أيضا، وقد تنبع من الشرعية التي يمنحها الخاضع للسلطة لأصحابها.
الإنسان حين يحصل على السلطة، يمكن أن يتغير عمّا كان عليه، ويُصبح عنيفا، متعاليا أو متكبرا، متضخم الذات، لا تعنيه حقوق الناس بشيء، وقد يفقد أخلاقه وإنسانيته، وهذا الصنف من الناس يغلب عليهم حب الدنيا والتمسك بملذاتها، فما أن يصل إلى السلطة ويصبح له كنز من الأموال بأية طريقة كانت، حتى يتنكّر لمبادئه وإنسانيته، ولا يعترف بحقوق أقرب الناس إليه.
من الغريب حقا أن نلحظ بونا شاسعا لدى هذا النوع من البشر قبل تسلّمهم السلطة وبعدها، إنهم يتغيرون كأنهم أناس من نوع آخر تماما، فيتنمرون على الجميع، القريب منهم والغريب، الصديق منهم والعدو، فمعادلة الصداقة لديهم يحكمها مبدأ المنفعة والتأييد، إذا تؤيّدني وتنفعني فأنت صديقي حتى لو كنت تكرهني في أعماقك، ومعظم طغاة السلطة مكروهون في الخفاء محبوبون في العلن.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يسردُ علينا قصة أحد أهالي مدينة كربلاء المقدسة، كمثال عن هذا النوع من البشر فيقول:
(كان هناك شخص يسكن في كربلاء يحبه الناس حباً جماً، حتى انه أصبح أمين الناس وموضع ثقتهم، فكانوا يودعون عنده أسرارهم وأماناتهم، وقد ساهمت سمعته الجيدة هذه بين الناس في تنصيبه قاضي القضاة في المدينة، ولكنه مع الأسف ما إن وصل إلى هذا المقام شوّه ماضيه الحسن وذكره الجميل، فقد قابل الناس بالقسوة والغلظة الشديدة، الأمر الذي كشف للناس أن حب الدنيا كان مغروساً في قلبه طوال الأربعين عاماً الماضية، حتى أنه بمجرد أن وصل إلى السلطة مال نحو الدنيا وحبذ مغرياتها على حياة الآخرة).
السلطويون بانتظار يوم الحساب الأشدّ
هذا النوع من عشاق السلطة والمال وملذات الدنيا المختلفة، غالبا ما ينتهي بهم المآل إلى ما لا يُحمَد عقباه، فيفقدون مكانتهم بين الناس، وحتى من يُظهر لهم المحبة والتأييد فهو مجبر على ذلك، أو يتبادل معهم المصلحة بالمصلحة، فيدعم صاحب السلطة ليس لأنه عادل أو كريم أو منصف، وإنما لأنه يغدق عليه أموالا ومنافع أخرى، وبمجرد غياب هذه المصلحة تنتهي المحبة ويزول التأييد.
كذلك هذا النوع من عشاق السلطة، ينتظرهم الحساب الأشدّ والأعظم، إنهم سوف يواجهون ظلمهم للناس ومساسهم بحقوق الآخرين، وقمعهم لهم أمام الله، يوم لا يكون هناك عمل، بل يبقى الحساب والعقاب وحده يتربص بهم، وهو مآلهم الأشد عذابا وألما ووطأة، فيخسرون بذلك مكانة الدنيا، وسعادة الآخرة، والسبب تمسكهم بالسلطة واستخدامهم الظالم لأدواتها ضد الآخرين.
لكن هذا لا يعني عدم وجود النموذج المناقض لهم، نعم هناك من يفوز بالسلطة وبكل امتيازاتها ومغرياتها، لكنها لا تهزّ شعرة من رأسه، ولا تغيره قيد أنملة، بل يزداد ثباتا على مبادئه وأخلاقياته وقيمه التي يؤمن بها، فهذا النوع من السلطة لا تغريه السلطة، ولا تسحبه الأموال إلى خديعتها، إنهم أصحاب نفوس عظيمة، وقلوب صادقة وأخلاق ثابتة ومبادئ لا يهزّها المنصب أو المال أو الكلام المعسول.
المسؤولون الحكوميون غالبا ما يتعرضون لهذا النوع من الاختبار، إنهم ينقسمون إلى نوعين، الأول هو من يُغرَم بالسلطة والمال مدفوعا بتمسكه بالدنيا، والآخر هو النوع الذي لا تغرّه السلطة ولا منافعها ولا أموال وملذات الدنيا كلّها، فأخلاقه قبل السلطة وبعدها تبقى نفسها، وأفعاله كذلك، ومحبته وعلاقاته من الناس لن تتغير لأنه صار صاحب أموال أو سلطة.
هذا النوع من البشر هو الذي يفوز بالدارين، ويكسب مكانته الكبيرة في الدنيا، وسعادته التي لا تضاهيها سعادة أخرى، ألا وهي سعادة الدار الأخرى، تلك التي يسعى إليها بنو البشر جميعا، ولكن هناك من يفوز بها، وآخرون يخسرونها، لأسباب واضحة ومعروفة للجميع، فمن تفسده السلطة، وتسقطه الأموال، سوف يسقط في الدارين ولا أمل له بالنجاة من يوم الحساب، أما من يتفوق على نفسه وعلى دنياه وعلى السلطة والمال، فهذا هو الذي سيفوز بحسن المآل.
الشخصية المثالية بالسلطة أو دونها
الإمام الشيرازي يسرد لنا قصة نموذج آخر من الناس، لا تعنيه السلطة ولا الأموال بأي شيء، فيقول:
(بينما في المقابل نرى أن أحد علماء الدين البارزين في العراق أصبح رئيساً للوزراء في فترة سياسية معينة، حيث أنه قبل أن يرتقي إلى هذا المنصب كان رجلاً بسيطاً في تعامله وخلوقاً مشهوداً له، وبعد وصوله إلى هذا المقام لم يتغير وضعه وسلوكه أبداً، وإنما استمر على الوضع السابق فقد كان يدرِّس في المدرسة الهندية، وكانت له خالة عجوزاً تسكن بجوار المدرسة يزورها باستمرار ويسأل عنها قبل حصوله على منصب رئاسة الوزراء وعن صحتها وقد استمر على زيارتها حتى بعد توليه هذا المنصب. وذات يوم شوهدت سيارة فخمة واقفة أمام باب المدرسة الأمر الذي لم يعهده الطلاب من قبل، فكان الأمر بالنسبة إليهم غريباً تماماً وباعثاً على الدهشة والاستفسار! وبعد لحظات خرج رئيس الوزراء من دار خالته العجوز، فعلم الناس أن هذا الرجل لم يغيره المنصب، ويخدعه ويضعه في زاوية حادة مع الناس لا يرى أحداً ولا يراه أحد).
هذه الشخصية المثالية حفظت حق القرابة، وحق الإنسان على أخيه الإنسان، ولم تؤثر عليه السلطة قيد أنملة، ولم تستطع تغيير أو محو ثوابته وأخلاقياته، ولم تمسس إنسانيته ولو قيد شعرة، لذلك حين تحوّل من إنسان عادي إلى مسؤول كبير ذي سلطة هائلة (رئيس وزراء)، لم يتغير، ولم تستطع كل هذه الأمور أن تزحزح أخلاقه ولا قيمه ولا مبادئه، بل بقي كما هو قبل أن يتسلم السلطة ويتنعم بالأموال.
لماذا تمكن من إلحاق الهزيمة بمزايا السلطة، ومغريات المال والدنيا؟، الجواب، لأنه بقي أمينا على ثوابته وعقائده وإيمانه، وحافظ على دينه، وتمسك بأخلاقه، ووضع إنسانيه كمعيار لا يتبدل سواء كان صاحب سلطة أو فاقدا لها، وصاحب أموال أو مفتقرا لها، لهذا فاز بمكانة الدنيا وبسعادة الآخرة.
يقول الإمام الشيرازي: (إن حقوق الناس من الأمور الخطيرة في الإسلام التي يحاسب الإنسان عليها لا في الدنيا فقط بل في الآخرة، ولا ينال الإنسان رحمة الله ولا يذوق طعم العفو والمغفرة الإلهية إلا إذا رضي أصحاب الحقوق عنه).
هذا الدرس يجب أن نطّلع عليه جميعا، ونستوعبه بعمق، لاسيما من وصلوا أو يصلوا إلى السلطة والمال، فهؤلاء أكثر عرضة من غيرهم (لسوء المآل، وسوء العاقبة)، لأنهم بلغوا هذه المراتب العالية من السلطة والمال، وغيرهم لم يصل إلى ذلك، والواقع أن من لم يبلغ (السلطة والمال) محظوظ، لأنه لن يخوض هذا الاختبار العصيب، لذا على كل من يصل للسلطة والمال، أن يحسب حسابه جيدا، ويتهيّأ للحساب الأشد والأكبر، يوم لا ينفع مال ولا بنون، ويوم تغادر سلطاتهم وامتيازاتها إلى غيرهم، وربما تذهب حتى إلى أعدائهم.
اضف تعليق