q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

شهر محرم ودور الخطباء الإرشادي

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

شهر محرم هو فرصة الخطباء النموذجية كي يزرعوا الأفكار المضيئة في عقول الناس، فهذا الشهر يمثل حالة استذكار مستمرة لملحمة الطف، كما أنه يناسب زرع المبادئ والأفكار التي تنهض بالإنسان عقلا وسلوكا وتفكيرا، وتمنحه الحصانة ضد الانحراف الغرائزي المادي، وكلما أظهر الخطيب شخصية متوازنة محبّبة للناس وقريبة منهم...

(على الخطيب أن لا يظهر أمام الناس بمظهر الإنسان المادي)

الإمام الشيرازي

ها أننا نقف مرة أخرى على أعتاب محرم الحرام، وبنا حاجة إلى الإرشاد والتوجيه واستقاء العِبَر من الملحمة الحسينية الخالدة، ففي كل عام وفي مثل هذا الوقت تبدأ ملحمة الخلود الحسيني بكل عنفوانها وألقها، لتبث الخير والصلاح والأمل في واقع بشري أفضل، يستقي مبادئه من فكر الإمام الحسين عليه السلام، ومن وقفته المتحدية للظلم والاستبداد.

إن الإنسان يواجه اليوم تعقيدات كبرى تجعل حياته أشبه بالمتاهة المغلقة، والسبب ذلك الاندفاع الغريزي المدمر الذي يهيمن على العلاقات والتعاملات البشرية، سواء داخل الأمم والبلدان أو خارجها، مما يؤكد حاجتنا القصوى إلى جهود إرشادية كبرى، تأخذ على عاتقها تنوير الناس وتخليص عقولهم من شرك الماديات ودعمها بالمعنويات والقيم.

لا ينحصر النمط المادي الاستهلاكي بين المسلمين، وإنما اجتاح العالم غربا وشرقا، بل الغرب هو مصدر الشراهة الاستهلاكية، حيث نجد أن المادية أخذت تجتاح التفكير البشري، فانعكس ذلك على السلوك المادي للناس، وتغيّرت الكثير من القيم الإنسانية الرشيدة لتحلّ بدلا منها قيم وافدة أو دخيلة تسعى لتخريب أفكار الناس وقيمهم وتدفع بهم نحو السلوك المادي، وتفرغ من عقولهم وأفكارهم أي تأثير للقيم والتقاليد الرشيدة، فيصبح البشر أسيرا لشهواته ورغباته التي يطغى عليها النمط المادي والنزعة الاستهلاكية المبتذلة.

من الذي يقوم بالدور الإرشادي، لاسيما أن شهر محرم يعكس الأجواء الإيمانية المناسبة للبدء بحملات إرشادية تقي الإنسان من ميوله المادية، إنه الخطيب الحسيني، كونه الوسيط الناقل للفكر الحسيني ومبادئ أئمة أهل البيت للناس، وهو من أوائل المتصدين لهذه المهمة، لكنه لا يمكن أن ينجح في مهمته هذه ما لم تكن شخصيته ذات مواصفات وخصال ومعلومات تؤهله للنجاح في دوره التنويري المبدئي، هذه الشخصية يجب أن تنفرد بمواصفات وقدرات تؤهلها للقيام بالدور الإرشادي المطلوب والمهم.

لذلك لابد أن يتّسم الخطيب الحسيني بالشخصية الرافضة للنمط المادي الاستهلاكي، على الرغم من أن عصرنا تجتاحه المظاهر المادية، ويبدو أسير الأنماط الاستهلاكية، لكن الخطيب الحسيني باعتباره النموذج والوسيط الحيوي الرافض لتدمير القيم والمتمسك بالمنهج المعنوي العالي، لابد أن يظهر أمام المتلقين لإرشاداته كنموذج يسترشد به الجميع، وأن لا تكون المادة غايته أو هدفه الأول.

الخطيب النموذج ونبذ المظاهر المادية

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (تجاربي مع المنبر):

(نحن لا نقول يجب على الخطيب عدم تقاضي الأجر اللائق، بل نعني بذلك أن لا يكون مفرطاً في التقاضي، وأن لا يجعل همّه المادة، وأن لا يظهر أمام الناس بمظهر الإنسان المادي، فإن ذلك يؤدي إلى هبوط مكانته عن النفوس، وعدم تأثير كلامه في القلوب).

في شهر محرم تتضاعف المجالس الحسينية، وينشط الخطباء، ويتضاعف أيضا عدد المتلقين للفكر الحسيني، لذلك يصبح الخطيب قدوة لغيره من الناس، فيجب أن لا يهدف في نشاطه الخطابي إلى جمع الأموال، لأن تأثير أفكاره التي يطرحها عبر المنبر لا تؤثر في نفوس وقلوب الحاضرين ولا المستمعين، ومن الأهمية بمكان أن يركز على القيم وتنمية الجانب المعنوي والأخلاقي من خلال تركيزه على مبادئ الفكر الحسيني الخلاق.

التركيز في شهر محرم على الشخصية القويمة، غير المادية، وغير المبالية بتكالب البشر على المظاهر المادية، من شأنه أن يساعد الناس على فهم أنفسهم بصورة أكثرة، ويسيطروا على نوازعهم وغرائزهم التي تسعى للدفع بهم نحو السلوك المادي المنفصل عن سيطرة العقل، والخالي من الشحنات المعنوية التي تنقذ الإنسان من ميوله البائسة والسطحية نحو الماديات.

كذلك يجب أن يستثمر الخطيب شهر محرم لينبذ صفة التكبر عند بعض الناس، فهي صفة لا تتسق مع المبادئ الحسينية مطلقا، لذلك على الخطيب أن لا يكون متكبرا، فهذه الصفة يجب أن لا توجد في شخصته، لأنها سوف تصنع حواجز وأسواراً شاهقة بينه وبين الناس، وسوف ينظرون إليه بعين الاستصغار وهبوط المنزلة، وفي هذه الحالة لن يكون لكلامه وأفكارهِ أي تأثر على عقولهم، فمن المحال أن يستقبل الناس كلمات الإرشاد من إنسان يرى نفسه أفضل منهم.

لذا يؤكد الإمام الشيرازي على: (أن الخطيب يجب أن لا يكون مجافياً للناس، ولا مترفعاً عليهم، فإن الخطيب الإسلامي يعد من أتباع الأنبياء والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين)، وقد كانوا يؤثِّرون في الناس بفضل اختلاطهم بالمجتمع).

شهر محرم هو فرصة الخطباء النموذجية كي يزرعوا الأفكار المضيئة في عقول الناس، فهذا الشهر يمثل حالة استذكار مستمرة لملحمة الطف، كما أنه يناسب زرع المبادئ والأفكار التي تنهض بالإنسان عقلا وسلوكا وتفكيرا، وتمنحه الحصانة ضد الانحراف الغرائزي المادي، وكلما أظهر الخطيب شخصية متوازنة محبّبة للناس وقريبة منهم، كان أكثر تأثيرا فيهم.

شهر محرم نقطة انطلاق لتنوير العقول

هذه نقطة مهمة يجب أن يركز عليها الخطباء، فمن يفرّط بشخصيته كخطيب، ومن لا يتمكن من خلق التوازن الاجتماعي المطلوب في علاقاته مع الآخرين، سوف يفقد تأثيره تماما على الآخرين، ولن يسمعوا كلامه، ولا يأبهوا لأفكاره، وهذا يعني أنه ليس قادرا على أداء دوره الإرشادي كما يجب، وهذا يعني أنه غير مؤهل لهذا الدور بسبب عدم تأثير كرمه في الناس، وبالتالي يكون قد أهدر فرصته في شهر محرم وأجوائه التي تساعد الخطباء على أداء دورهم بأفضل طريقة وأبسط أسلوب.

يقول الإمام الشيرازي:

(على الخطيب أن يحافظ على شخصيته، وأن لا يكون خارجاً عن المتعارف في آدابه وسلوكه ومعاشرته مع الناس. لأن الخطيب المبعثر، والمفرط، والمفرّط، لا يؤثر كلامه في الناس).

إذا أيقن الخطيب بأنه ليس مؤثرا في الناس، وأن كلامه لا يعني شيئا لهم، فهذا يعني أنه لا يمتلك الشخصية الإرشادية المكتملة، لذلك عليه أن يعرف نقصه جيدا ويحدّده ويسارع إلى معالجته، فميزة تأثير الخطيب في الحاضرين أو المستمعين تقف في مقدمة مقومات الخطيب الناجح، بل تجعل منه في صف الخطباء الحسينيين المتميزين بتأثيرهم وتنويرهم لقول الآخرين وتحسين أفكارهم وتصرفاتهم في المجتمع، ومن لا يتمكن من تحقيق هذا الهدف، فعليه أن يبحث عن النقص وأن يعالجه بأقصى سرعة ممكنة.

أيضا من المقومات الأكثر أهمية التي ينبغي توافرها في شخصيات الخطباء الأجّلاء، امتلاك القدرة على إرشاد الناس إلى التدبّر بالقرآن الكريم، وهذا يعني عودة محمودة إلى ما تركه كثيرون، وهو العمل بآيات كتاب الله الحكيم، مما أدى إلى سقوطهم في فخ العجز الفكري وتراجعهم بين الأمم الأخرى، وهذا نقص خطير يجب أن يتلافاه المسلمون كي تستقيم حياتهم من خلال التدبّر بالقرآن الكريم.

يقول الإمام الشيرازي:

(على الخطيب أن يهتم بإرشاد الناس إلى آيات القرآن التي تَرَكَ العملَ بها غالبُ المسلمين، وهي التي سببت سقوطهم فصاروا كالطير الذي يريد النهوض بجناح واحد، وهل يمكن ذلك؟).

إذاً شهر محرم الذي نقف على أعتابه كان ولا يزال وسوف يبقى، نقطة انطلاق متجددة للخطباء، كي يرشدوا الناس إلى ما يساعدهم ويقودهم نحو حياة متوازنة، لا تهيمن فيها الماديات على المعنويات، ولا يتفوق فيها المظهر على الجوهر، وهذا لن يتحقق ما لم يتم استثمار الوقت والمناسبات الصحيحة ومن بينها (شهر محرم) لتنوير عقول الناس، وحمايتهم من الانحدار في منزلق الاستهلاك الخطير.

اضف تعليق