يكمن تجنّب النزاع الفردي، في معرفة أسبابه، ومن ثم اعتماد التعقّل في معالجة ذلك، وعدم الانصياع إلى الجهل المتعصب، أو إلى التكبر المنبوذ شرعيا ومجتمعيا، ولا الركون إلى الحسد، ولا أحد يحب الحاسدين، بمعرفة هذه الأسباب، يمكننا أن نجنب أنفسنا عن خوض النزاعات التي لا طائل من ورائها...
(إذا كان منطلق النزاع هو الجهل يجب أن نكفّ عن ذلك) الإمام الشيرازي
النزاع في مفهومه البسيط هو تضارب مصالح، تتخذ مسارات متنوعة، منها الصراع الفردي الذي يحدث بين أشخاص، ومنها ما يدور بين الجماعات، حيث تصل النزاعات إلى الدول، فتنشب الحروب نتيجة لتضارب مصالح هذه الدولة مع تلك، ولم تخلُ حقبة تاريخية من النزاعات الدولية، أما النزاعات الفردية، فليس هنالك مجتمع على كوكب الأرض يخلو منها.
يكمن الاختلاف الفردي في المجتمعات، في درجة حدّتها، وكثرتها، وهنالك أسباب معروفة للنزاعات الفردية التي تشكل ركيزة لنزاع الجماعات، فالأخيرة هي حصيلة النزاعات الفردية، ويؤكد علماء الاجتماع والنفس والسياسية، تلك المعادلة الطردية حيث تزداد النزاعات مع ازدياد الجهل والكِبَر والحسد.
الأسباب الثلاثة الأخيرة، هي السائدة والمؤشَرة في معظم النزاعات الفردية، فإذا أردنا معالجتها والحدّ منها يجب أن نعرف أسبابها، (وإذا عُرِف السبب بطل العجب)، أي أننا حين نكتشف الأسباب المحركة للنزاعات الفردية، فسوف يكون بمقدورنا التصدي لها، والسعي لمعالجتها بالأساليب والأدوات الناجعة.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يشير إلى أسباب النزاع، ويضعها نصبَ الأعين، ويدعو المتنازعين إلى معرفة هذه الأسباب، والتأكدّ إذا كانت هي السبب الذي يؤدي إلى تأجيج النزعات الفردية، فيُطالب بالتالي:
(على من يريد التنازع أن يطرح على نفسه هذا السؤال؛ ما هو مصدر التنازع، هل هو الجهل أو الكبر أو الحسد؟) المصدر كتاب: لكي لا تتنازعوا.
بمعنى أننا قد نقف أمام أكثر من سبب، وبالتالي على من ينوي خوض النزاع مع غريمه، عليه أن يتأكد قبل بدء نزاعه مع الأضداد، ويسأل نفسه، ما هو سبب اندفاعي لخوض النزاعات مع الخصوم، هل هو الجهل، فإذا صحّ ذلك، عليه أن يتعلّم ويتنوّر ويغادر خانة الجهل إلى العقل.
قد يبدأ النزاع الفردي بين قرينين ينشطان معا في دائرة واحدة، كأن يكون طبيعة نشاطهم، تجاري مثلا أو سياسي، أو علمي، أو طبي، أو المنافسة في إطار عمل معين، ففي حال تفوق أحد القرينين على الآخر، فهذا سوف يكون مدعاة لإغاظة الثاني، وبالتالي قد يكون سببا في الحقد عليه.
الحقود لا يمكنه مجاراة الآخرين
النجاح الذي يتحقق لشخص ما، يمكن أن يكون سببا لأحقاد الآخرين، لاسيما إذا كان عملهما أو مشروعهما متشابها أو متقاربا، فحين ينجح أحدهما سوف يحصل على إشادة الآخرين والتفافهم حوله، وهو ما يغيض القرين الآخر الذي لم يستطع مجاراة قرينه في النجاح والتفوق.
وحين يتمّ التحقّق من أسباب النزاع بين القرينين، فإننا سوف نعجز عن إيجاد سبب حقيقي سوى الحقد، والأخير غالبا ما يقود صاحبه إلى الفشل، بل وإلى فقدان مكانته في المجتمع، وهنا عليه أن يسأل نفسه، ما فائدة تأجيج النزاع مع الآخر، إذا كانت النتيجة خسارته لسمعته ومكانته الاجتماعية؟؟
(ربما كان مصدر النـزاع هو الجهل، كأنْ يتصور الإنسان أنّ قرينه قد التفّ حولـه الناس أكثر من التفافهم حولـه، ويتسبب ذلك تبطين الحقد في نفسه فيبدأ بمخاصمته وإعطاء مبرر غير حقيقي للمخاصمة. وتنتهي هذه الخصومة إلى نتائج غير محمودة على الشخص نفسه، أما القرين فلا يتأثر كثيراً بهذه الخصومة)، هذا ما يؤكده الإمام الشيرازي ويحذّر المتنازعين منه.
لدينا أسباب أخرى، قد يكون مكمنها طبيعة النفس البشرية، فهناك من لا يتحمّل تفوق الآخر عليه، حتى لو كان التفوق استحقاقا له، لذلك قد يتكبّر الأدنى على الأعلى، بسبب التضخم الذاتي الذي يعاني منه، ولذلك يعمد إلى رفض توجيهات من يعلوه بالمرتبة الإدارية أو التنفيذية، وهذا سوف يكون سببا كافا لإحداث نزاع فردي، سببه حالة التكبّر التي تصيب بعض الناس.
وهذا ما يشير إليه الإمام الشيرازي في قوله:
(لربما كان السبب من وراء الخصومة الشخصية الكِبر، مثلاً عند ما يتكبَّر إنسان عن طاعة مَنْ فوقه، وحيث لا يجد سبيلاً للفرار من واجبه يلتجئ إلى المخاصمة ليحطّ من قدره، ويبرِّر عند المجتمع عصيانه له).
يوجد سبب آخر يذكره الإمام الشيرازي، يمكن أن يكون سببا في إثارة النزاعات، فالحسد قد يقود الأشخاص إلى نزاع لا يهدأ، ومن طبيعة الإنسان أنه لا يحب أن يتفوق عليه أحد، لذلك يمكن أن يحسده بسبب هذا النجاح والتفوق، وقد يكون هذا الأمر سببا في التخاصم بين الطرفين.
الجهل الكِبَر الحسد ثالوث الفاشلين
لكن ما ذنب الإنسان إذا كان ناجحا في مشاريعه وأعماله، ولماذا يذهب الغريم إلى الحسد، كبديل عن الجدية والعمل لبلوغ مرتبة النجاح والتفوق؟، الحاسد غالبا ما يتعرض لانتقادات اجتماعية لاذعة، ولكنها ربما لا تثنيه عن مواصلة حسده للمتفوقين، لهذا نجد الحاسد فاقدا لاحترام الناس، لتتعرض مكانته إلى الاهتزاز حتى يكف عن حسده، ويستبدل ذلك بالجدية والسعي والإنجاز.
(لربما يكون المنطلق نحو الخصومة هو الحسد، فقد يحسد إنسان إنساناً آخر، أعلى شأناً منه، وتصبح النتيجة هو حدوث الخصومة بين الحاسد والمحسود، وإذا سألت أحدهما لأي سبب تختصمان؟، فإنك لا تشعر بوجود سبب معقول للاختلاف سوى الحسد، والحسد يضع صاحبه؛ لأنه سيجعله صغيراً في أعين الآخرين)، هذا ما أشار إليه الإمام الشيرازي في كتابه نفسه.
إذا يقف المجتمع أمام أسباب واضحة، تقود غالبا إلى النزاعات الفردية، وما على الفرد سوى أن يحمي نفسه من التكبّر والحسد، وحين يبلغ هذه المرتبة من تجنّب هذين السببين، سوف يكون في منجاة تامة من حالة التنازع الفردي، وبذلك سوف يحصد النجاحات المتتالية، بسبب تفرّغه للنجاح وليس للنزاع مع الآخر.
ويوجد سبب ثالث يؤدي إلى إثارة النزاع الفردي، يثبته الإمام الشيرازي في مؤلَّفه (لكي لا تتنازعوا)، وقد أشرنا إليه في مقدمة هذا المقال، ونقصد به (الجهل)، فإذا كا الأخير هو سبب النزاع، يجب الكف فورا عن ذلك، والانحياز إلى العقل والتعقّل، فهذا كفيل بوضع النقاط على حروفها وإعادة الأمور إلى نصابها.
لأن الجهل لا يمكن الاعتماد عليه في خوض أي نوع من المعارك، لا الفكرية ولا المعنوية ولا المادية، فمن كان منطلقه الجهل، فهو فاشل لا ريب، وما عليه سوى الانصياع إلى صوت العقل، والعلم، والحقائق، والأعراف والقيم التي تشكل المعيار في المفاضلة بين المتنازعين، بالأخص إذا كانوا أفرادا يعيشون في محيط واحد.
كذا الأمر حين يكون السبب في النزاع التكبّر على الآخرين، فهذه صفة مرفوضة بين الناس، لا أحد يمكن أن يمنح صاحبها التأييد إلا تحت الترهيب أو الترغيب، كأن يكون حاكما وما أشبه، وإن كان السبب هو الحسد، فإن الحسود لا يسود، وهو قول حكيم لسيد البلغاء والحكماء، الإمام علي عليه السلام.
(إذا كان منطلق النـزاع هو الجهل، يجب أن يكفّ عن ذلك؛ لأن نزاعه لا مورد له، وهو هواءٌ في شبك. وإذا كان منشأ النزاع هو الكِبر، فليعلم أن التكبر مذموم في الشريعة، ولذا يجب الابتعاد عنه، أما إذا كان الباعث هـو الحسد، فليكن فـي علمه أن: الحسود لا يسود)/ غرر الحكم.
في الخلاصة، يكمن تجنّب النزاع الفردي، في معرفة أسبابه، ومن ثم اعتماد التعقّل في معالجة ذلك، وعدم الانصياع إلى الجهل المتعصب، أو إلى التكبر المنبوذ شرعيا ومجتمعيا، ولا الركون إلى الحسد، ولا أحد يحب الحاسدين، بمعرفة هذه الأسباب، يمكننا أن نجنب أنفسنا عن خوض النزاعات التي لا طائل من ورائها.
اضف تعليق