لماذا فشلنا حتى الآن في بناء دولة متطورة؟، هذا السؤال يقودنا إلى تقصير وخلل واضح، يمكن اختصاره بفشل بناء المجتمع الواعي المتحضّر، وهو أمر يدعو إلى الشروع الجاد في معالجة هذا الخرق الخطير، ومع أن مهمة بناء المجتمعات ليست سهلة، ولا قصيرة الزمن، إلا أن البقاء في حالة فوضى وتردد وعدم تخطيط للبناء المجتمعي...
المجتمع هو أحد أركان الدولة، إذ بغيابه أو تشتّته لأي سبب كان، لا يمكن لكيان الدولة أن يكتمل، ومن الجدير ذكرهِ أن المجتمع هو الحاضنة التي يخرج النظام السياسي وطبيعته، فحين يكون مجتمعا متحضّرا، هذا يعني أنه يُدار بنظام سياسي لا يعتمد الاستبداد في الإدارة، كون الطبقة السياسية هي إحدى مخرجات المجتمع، وطالما كان الأخير متطورا متحضرا، فإن التعددية هي سمة النظام الحاكم.
هل يعني هذا بأن صناعة المجتمع المتحضر هي الهدف الأول؟، وإذا أجبنا بالإيجاب، وهو جواب يتفق معه العلماء والخبراء المتخصصون، فإننا سوف نكون إزاء مهمة كبيرة تتلخص بالسعي لبناء المجتمع المتحضّر الواعي المثقف، قبل أن ننشغل في بناء القوة العسكرية، أو الاقتصادية أو سواها مما يستلزم بناءه في الدول الساعية للتطور.
إذاً لماذا فشلنا حتى الآن في بناء دولة متطورة؟، هذا السؤال يقودنا إلى تقصير وخلل واضح، يمكن اختصاره بفشل بناء المجتمع الواعي المتحضّر، وهو أمر يدعو إلى الشروع الجاد في معالجة هذا الخرق الخطير، ومع أن مهمة بناء المجتمعات ليست سهلة، ولا قصيرة الزمن، إلا أن البقاء في حالة فوضى وتردد وعدم تخطيط للبناء المجتمعي، سوف يسلب منّا التمتّع بدولة رصينة.
هناك أُطر وأولويات يجب أن نتبعها، تخطيطا وتنفيذا لإنجاز هدف بناء المجتمع المتحضر، فما هي هذه الأطر والأساليب التي يجب علينا اعتمادها؟؟
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، انشغل بهذا الهدف، ونظَّر له، وقدم ما يلزم من أفكار سديدة، لبناء المجتمع المُرام.
في كتابه القيّم (الصياغة الجديدة)، يطرح الإمام الشيرازي الأًطر والصفات التي يمكن من خلالها نجاح المجتمع في بناء نفسه حضاريا، فيقول:
(إن المجتمع الذي يمتلك سعة الصدر، ويبحث عن الكفاءات والمقاييس الصحيحة، ولا يبحث عن العلاقات والارتباطات الحزبية الضيقة، هذا المجتمع يتقدم على المجتمعات التي تفكر في المصالح الشخصية الضيقة).
ماذا تعني سعة الصدر، وهل نمتلكها أم أننا نفتقد لها، وهل الكفاءات مدعومة لدينا، وهل أخذت مكانها المناسب والصحيح، للمساهمة في تدعيم البنية الاجتماعية، ومن ثم الذهاب إلى مخرجات صحيحة في السياسة والاقتصاد والتعليم وسواه؟
أحزابنا السياسية هل أدّت دورها كما يجب في بناء الدولة والمجتمع، أم أنها انشغلت بمصالحها الضيقة؟
المصالح الضيقة وعقبات البناء الحضاري
الجواب يمكن استلاله من واقع حكوماتنا وأنظمتنا السياسية، فطالما تصر هذه الحكومات والطبقات السياسية على تجاهل الكفاءات، واعتماد الولاءات في إدارة الدولة والمجتمع، فإن هدف بناء المجتمع المتحضّر يبقى غاية مهدّدة بخطر المصالح الضيقة، واللهاث وراء الغايات والمنافع المادية، بعيدا عن الحرص والتوجّه الصحيح للبناء.
خرق آخر أو مشكلة أخرى يعاني منها مجتمعنا، ودولتنا، تتمثل في إهمال القيم الجيدة، والسماح للرديئة الوافدة أو المستجدة أن تحلّ محلها، وهذا يؤدي إلى تدمير اجتماعي لا يمكن وقفه، إلا في حال تحلّى المجتمع بالقيم النبيلة التي تحكم أفعاله وعلاقاته.
وأمر طبيعي حين يتعاضد نبذ الكفاءات، مع تفضيل المصالح الشخصية الضيقة، مع ضعف القيم التي تحكم علاقاتنا، فإن النتيجة سوف تصب في تدمير متواصل للبنية الاجتماعية، ينتج عنها استحالة بناء مجتمع متحضّر ونظام سياسي استشاري، لهذا يجب التنبّه إلى إحياء وإنماء القيم الرصينة داخل النسيج المجتمعي.
الإمام الشيرازي يقول:
(القيم الجيدة من الأمور التي يجب أن يتحلى بها أبناء الشعب، بجميع فئاته وشرائحه).
لا أحد ينكر بأننا نمتلك الطموحات التي ترتقي بنا إلى مصاف الدول المتقدمة، وأننا نفهم ماذا يعني المستقبل لأبنائنا وأجيالنا القادمة، ونعرف ما هو نوع المستقبل المطلوب، لكن هذا الأمر يتطلب أن نكون يدا واحدة وقلبا واحدا، وأن لا نضيع في الخلافات والصراعات والمصالح النفعية الضيقة.
حتى يمكننا تجنّب هذه العقبات، يجب علينا أن نفهم ونحدد ونعرف ما مدى طاقاتنا على المستويين المادي والفكري، فرصد هذه الطاقات وتنظيمها بصورة صحيحة، يساعد إلى أبعد الحدود على برمجة الأهداف المستقبلية، والعمل على إنجازها.
إذ يؤكّد الإمام الشيرازي في كتابه المذكور على أننا يجب أن: (نتطلع إلى مستقبل مشرق، وهذا المستقبل يتطلب منا الوحدة والتعاون والتنسيق بين طاقاتنا الفكرية وقدراتنا المادية).
ويضيف الإمام: (فلتكن نفوسنا صبورة ورؤانا بعيدة، ولتكن أهدافنا وتطلعاتنا سامية، حتى تكون شخصيتنا قادرة على استيعاب المجموع وتجميع طاقاته وقدراته).
مما يجعل الجميع أمام مسؤولية البناء، لاسيما من يتصدّر المسؤولية التربوية والأخلاقية والدينية والعلمية، فهذه النخب مسؤولة بشكل مباشر على تنمية القيم وحمايتها، وغرسها في قلوب وعقول الجميع، لأنها بمثابة الوقود الذي يغذي الصبر لدى أفراد المجتمع، ويمنحهم القدرة والأمل والإعداد الجيد (لخوض الصراع مع الأنظمة الفاسدة الذي هو أمر لا بد منه) كما يؤكد الإمام الشيرازي.
التغيير الحضاري بتوافر القوة الواقعية
بمعنى يجب أن نتحلى بالقوة الفعلية الواقعية للتغيير، ومهمة البناء الاجتماعي الحضاري، ليست هيّنة ولا متاحة لمجرد التفكير بها، أو زجّها في شعارات برّاقة لا يؤازرها التطبيق والالتزام، فالمجتمع الذي يريد أن يبني حضارته عبر الأمنيات، أو الشعارات، فهذا أمر لا يمكن أن يُنجز في أي حال من الأحوال.
المجتمع الحضاري والنظام السياسي التعددي المستقر، يُبنى ويتحقق عندما تكون هناك إرادة منظّمة واعية مخطِّطة فاعلة، لإنجاز هذا الهدف الكبير، الأفعال والأعمال الواقعية هي وحدها القادرة على إنقاذنا من الضعف الاجتماعي، وتخليصنا من الخلل الثقافي، وتساعدنا على التحوّل من التمني إلى الانجاز.
إذاً هي سلسلة مترابطة من حلقات عديدة، تتماسك وتتداخل فيما بينها، تبدأ بتدريب الناس على الصبر وسعة الصدر، وإقناع الساسة والأحزاب بالكف عن المصلحة الضيقة، والسماح للكفاءات القيام بدورها في ترميم البنية الاجتماعية، وحماية القيم والنهوض بها، ومن ثم الإعداد الجيد لمواجهة أنظمة الفساد، هذه السلسلة المترابطة كفيلة بإنجاز البنية الاجتماعية المتحضّرة، وليس الجلوس فوق التل والتمني بانتظار النتائج.
لهذا يقول الإمام الشيرازي: (إننا إذا أردنا أن نصنع حضارة بالتمنيات، فإننا سنكون واهمين لأن بناء الحضارة لا يُنجَز يس بالتمني، فالإنسان لا يستطيع أن يصنع حضارة أو دولة بالتمنيات، وإنما يكون صنع الحضارة وبناء نظام الحكم الرصين، بالمساعي والعمل الجاد من أجل بلوغ الأهداف المحددة).
جميع الأهداف الكبيرة، تبدأ بالإعداد الصحيح، والجدّية، وتحفيز الطموح إلى أقصى درجاته، يسبقه التخطيط المنظّم، وإدراج خرائط التنفيذ بمستوى عال من العلمية، مع التمسك بالعوامل والصفات التي تفتح الأبواب واسعة أمام البناء الحضاري للنسيج المجتمعي.
وكلما كان التصميم عاليا، والإصرار على الإنجاز لا رجعة عنه ولا تردد فيه، تكون النتائج مواتية، فمن يكدح بصدق للتغيير والتطوّر، سوف يجد سبل النجاح ممهَّدةً له، لاسيما أن الهدف المطلوب، من أنبل أهداف الشعوب، وأكثرها مشروعية.
الإمام الشيرازي يقول حول ذلك:
(إننا بعملنا الجاد وإعدادنا المستمر لمرحلة البناء الصحيح، سوف لن تخيب آمالنا وطموحاتنا، والله عز وجل يقف مع الذين يكدحون في هذه الدنيا من أجل عزتهم وكرامتهم وتحكيم مبادئهم الخيرة).
صناعة المجتمع المتحضّر ليست بالمهمة المستحيلة، لكنها تحتاج إلى ما ذًكرَ في أعلاه، لاسيما أن الدول والمجتمعات تعيش عصر التنافس والتسابق نحو القمة دائما، فالبقاء في الخانة الخلفية، أو في أسفل القائمة، لا يليق بأمة منحت النور للبشرية يوم كانت تغطُّ في الظلام.
اضف تعليق