إن صوت الحق وانتشار العدل والفضيلة لا يمكن إيصاله إلى الناس بواسطة المدافع أو الأسلحة الذرية الفتاكة أو أساليب العنف، بل يمكن إيصاله عبر الطرق السلمية المشروعة، من الأقلام والمنابر، ومختلف طرق الحوار الهادف، وعبر الاستفادة من أساليب الإعلام الموجه الحديثة بكل تصنيفاتها...
يؤثر الإعلام في صياغة وتوجيه الرأي العام، فهو مصطلح يُطلق على أي وسيلة أو تقنية أو منظمة أو مؤسسة تجارية أو أخرى غير ربحية، عامة أو خاصة، رسمية أو غير رسمية، مهمتها نشر الأخبار ونقل المعلومات، إلا أن الإعلام يتناول مهاما متنوعة أخرى، تعدت موضوع نشر الأخبار إلى موضوع الترفيه والتسلية خصوصا بعد الثورة التلفزيونية وانتشارها الواسع.
الرأي العام هو تكوين فكرة أو حكم على موضوع أو شخص ما، أو مجموعة من المعتقدات القابلة للنقاش وبذلك تكون صحيحة أو خاطئة، وتخص أعضاء في جماعة أو أمة تشترك في الرأي رغم تباينهم الطبقي أو الثقافي أو الاجتماعي، والرأي العام هو ذلك التعبير العلني والصريح الذي يعكس وجهة نظر أغلبية الجماعة تجاه قضية معينة في وقت معين.
حول تعريفات الرأي العام، فقد رأى مختصون بأنه التعبير عن آراء جماعة من الأشخاص إزاء قضايا، مسائل أو مقترحات معينة تهمهم، سواء أكانوا مؤيدين أو معارضين لها، بحيث يؤدي موقفهم بالضرورة إلى التأثير السلبي أو الإيجابي على الأحداث بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في لحظة معينة من التأريخ.
كما أنه يمكن أن يكون الرأي الغالب أو الاعتقاد السائد أو إجماع الآراء أو الاتفاق الجماعي لدى غالبية فئات الشعب أو الجمهور تجاه أمر أو ظاهرة أو قضية أو موضوع معين يدور حوله الجدل، وهذا الإجماع له قوة وتأثير على القضية أو الموضوع الذي يتعلق به. وهو أيضا مجموع الأفكار والمفاهيم التي تعبر عن مواقف مجموعة أو عدة مجموعات إزاء أحداث أو ظواهر سياسية واجتماعية.
ويعرّف الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، الرأي العام: بأنه (موقف جماعة من الناس تجاه مشكلة معينة كالفقر أو الظلم أو الاستبداد السياسي، أو حادث معين كالكوارث الطبيعية أو البشرية من حروب وغيرها، إمّا سلباً أو إيجاباً).
تتأتى أهمية الرأي العام من كونه قوة ضغط يلجأ إليها المعنيون مثل قادة النخب، لاسيما السياسية منها، كي تبلور نوعا من المعارضة الرصينة القادرة على إعادة بلورة القرار بما ينسجم وتطلعات الشعب، ولابد من الإشارة أن الإعلام يمكن أن يلعب دورا سلبيا بحسب فحوى التوجيه، فهنالك إعلام مضلِّل يدفع بالرأي العام في اتجاهات خاطئة، وقد ينجح الإعلام المضلِّل في ذلك لاسيما إذا تراجع الإعلام الجاد.
الإعلام المضلِّل وإخفاء الحقائق
وقد أشار الإمام الشيرازي إلى هذه الحقيقة حين قال:
(لقد لعب الإعلام المضاد والمضلل دوراً هاماً في سبيل إخفاء حقيقة الرأي العام، وذلك لسلب الحرية الإنسانية وإخفاء الحقائق والمبادئ البنّاءة).
وهذا يُثبت بأن الرأي العام له تأثيره الكبير الذي يشكل قوة ضاغطة على السلطة في حال تقصيرها أو انحرافها، فأشد ما تخشاه الأنظمة الدكتاتورية هو الإعلام الحر والرأي غير المكبّل وغالبا ما تهز سلطة الكلمة سلطات الطغاة، ولهذا يُنظَر للرأي العام على أنه أسلوب ضاغط على السلطة كي ترتقي بالشعب إلى مراتب التقدم والتطور المضطرد، من خلال أداء مهامها الرسمية بإدارة سليمة.
من الأهمية بمكان التركيز على حلقات التعاون بين الإعلام والرأي العام، فكلاهما له دوره الخلاق في بناء الدولة ومؤسساتها، وضبط حركة السلطة في الإطار الدستوري، من خلال استمرارية القوة الضاغطة للرأي العام التي يتبنى الإعلام الجاد إدامتها وتجديدها، عبر التوعية والتوجيه الإعلامي الذي لا يجعل من عمله بوقاً للسلطة ولا يكون التضليل جزءاً من أجنداته.
لهذا السبب أكد الإمام الشيرازي في كتابه القيّم (الرأي العام ودوره في المجتمع) على (أن عدم الاهتمام بالرأي العام وسائر مقومات التقدم والرقي كان مما أدى إلى وقوع الأمة بين مخالب التخلف إعلامياً وثقافياً واقتصادياً وعسكرياً وغيرها).
ولعلنا لن نأتي بجديد حين نؤكد على السمة الضاغطة للإعلام الحر على السلطة الرافضة للدستور والشرعية، وهنا لا يمكن أن نحصر دور الإعلام في المهام الخبرية السريعة التي غالبا ما يتم توظيفها للاستهلاك الشعبي الذي يضلل العقول عبر الأخبار الملفقة والمحرَّفة، والتي سرعان ما يختفي تأثيرها على العقول بسبب سطحيتها وقلة عمقها.
عجز الأسلحة الفتاكة عن توصيل الأفكار
لذلك على المنظومة الإعلامية الحرة أن تعي جسامة دورها ومهامها، فهي معنية بتطوير عقول الناس وتنويرهم، وجعلهم أكثر فهما للأحداث وقدرة على تحليلها، فمن حق المواطن البسيط أن يحصل على الدعم الفكري من وسائل الإعلام وتمنحه المساعدة اللازمة كي يكون قادرا على تجاوز المهمة السطحية الخبرية للإعلام ومستعدا لقراءة ما بين السطور أو ما خلفها.
الأفكار العميقة لا يمكن إيصالها للناس عبر السلاح أو القوة بكل أشكالها، إنها تصل إلى الناس من خلال الكلمة وفنون الإعلام الحديثة المتنوعة، ولكي يتم صنع رأي عام ضاغط لابد أن يكون السبيل الوحيد هو الكلمة التي يصوغها الإعلام الحر، بعيدا عن الإكراه أو أساليب التخويف والتسقيط وغيره مما يلجأ إليه الإعلام المسيَّس أو المسمَّم.
الإعلام النظيف يجب أن يكون المعاضِد الأول والأقوى للجمهور، والساعي الأول لصناعة الرأي سلميا، مع التركيز على استثمار وسائل التوصيل الحديثة في نقل الأفكار والآراء التي تسهم في نشر العدالة بين الجميع، وتجعلهم أكثر تماسكا وقوة كي يشكلوا قوة ضغط مستمرة تجبر السلطات على احترامها والرضوخ لحقوقها.
وهذا ما أكده الإمام الشيرازي في قوله:
(إن صوت الحق وانتشار العدل والفضيلة لا يمكن إيصاله إلى الناس بواسطة المدافع أو الأسلحة الذرية الفتاكة أو أساليب العنف، بل يمكن إيصاله عبر الطرق السلمية المشروعة، من الأقلام والمنابر، ومختلف طرق الحوار الهادف، وعبر الاستفادة من أساليب الإعلام الموجه الحديثة، كالصحف والإذاعات والقنوات الفضائية والإنترنت، وغيرها).
طالما أننا نعيش عصر الثورة الإعلامية التواصلية على مستوى عالمي، فإن الفرصة متاحة لنا كي ندمج بين قوة الإعلام وقوة الرأي العام، وهي مهمة ليست سهلة، لكنها يمكن أن تكون متاحة للجهات المعنية التي تعي أهمية قطبي الإعلام والرأي العام، وتسعى وتخطط للتقريب بينهما وجعلهما في حالة تماس متواصلة، وإبعاد الوسائل الإعلامية عن السقوط في براثن الولاءات الفردية أو الشللية.
الحرية لا يمكن الحصول عليها والوصول إليها في ظل إعلام مسيّر فاقد لحريته، هذا هو حجر الزاوية في الإعلام القادرة على التجانس مع الرأي العام والتأثير فيه، وإذا تمكنت بعض الأبواق الإعلامية من تضليل الناس، فإن الحقيقة سرعات ما تظهر إلى العلن، وحينئذ لا يحترم الشعب الأبواق الإعلامية التابعة أو المضلّلة.
وحده الإعلام الحر هو القادر على إدامة علاقة راسخة مع الشعب، وهذا يدفع نحو استثمار جميع الفرص لجعل الإعلام محط ثقة الرأي العام كي يكون مؤثرا فيه بقوة وموجّها له لاسيما حين يشتد الصراع مع السلطات الفاسدة بكل أنواعها.
يقول الإمام الشيرازي:
(لكي نمارس حريتنا الإنسانية المشروعة لابد أن نكرس جهودنا بهمة عالية من أجل تحصيل مقومات التقدم والرقي، ومنها الاستفادة من الرأي العام والمنظومة الإعلامية في صالح نشر الفضيلة والتقوى).
هكذا يمكن أن يتم تركيز الرأي العام وبلورته بما يصب في صالح الشعب، كي يبقى قوة ضاغطة دائمية على وسائل السلطة، ولا ننسى الدور الأساس لمنظومة الإعلام الحرة وإسهامها كقوة ضاغطة أيضا، في دعم الحقوق المشروعة للشعب.
اضف تعليق