نحن أمام مسؤولية إتمام النهضة الإصلاحية، وهي مهمة صعبة وشاقة وملزمة أيضا، وخارطة الطريق واضحة لمن يهمه الأمر من القادة والمسؤولين والخبراء، وما هو مطلوب هو دراسة المقومات، ووضعها قيد التمحيص والتخطيط والتنفيذ، ولعل فرصة الأمة اليوم أفضل من أي وقت مضى كي تمضي في تطبيق خارطة الطريق...
تشير مفردة النهوض في فحواها إلى وجود خلل في البناء السياسي والاقتصادي وحتى الثقافي للأمة، وهذا يجعل من قضية البحث عن المقومات التي ترتكز عليها عملية النهوض أمرا مطلوباً، وحين ننظر إلى واقع أمتنا اليوم، فإننا سوف نلاحظ بوضوح غياب مقومات النهضة، ما يعني وجوب السعي إليها كي نعالج المسببات ونضع الخطوات اللازمة للنهوض.
فالعالم اليوم في حالة تطور متسارع، ومن يتخلّف أو يبقى يراوح في مكانه لن يجد فرصة للحاق به، وهذا نقص خطير على العلماء والمفكرين معالجته على الفور، ليس بطريقة الارتجال، وإنما اعتماد الخطوات العلمية، وتأشير المقومات التي يمكن من خلالها دفع الأمة والمجتمع إلى أمام، وإدخاله في ميدان السباق العالمي للتقدم والتطور والتغيير، وهذا يعني أننا إزاء مهمة ليست عادية، وننطلق في ذلك من واقعنا الذي يدل على أننا في حالة ركود وتراجع عن الآخرين.
الإمام الراحل آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يؤكد أهمية البحث في مقومات الإصلاح عبر كتابه القيّم الموسوم بـ (الطموح في حياة الإنسان والمجتمع)، ويؤكد أننا بحاجة لها في قوله:
(اليوم لا نجد في المسلمين الطموح إلى الإصلاح، ولا الأمل بالكرامة والسعادة، وعلى أثره تركوا العمل في سبيل تحقيق العزة للإسلام والكرامة للمسلمين، ومن ثم استعادة سيادتهم ومجدهم؛ لهذا السبب وصلت أحوالنا إلى ما وصلت إليه، وتبدلت أوضاعنا إلى هذه الحالة المتأخرة والمفجعة).
تأشير هذه الإشكالية يتضح بين دفتيّ الكتاب المذكور، ولا يكتفي مؤلّفه بطرح هذه المشكلة الخطيرة، ونعني بها حتمية النهوض بالأمة في ظل تسارع عالمي نحو التقدم، ولكن قضي النهوض لن تأتي اعتباطا ولا يمكن تحقيقها بمجرد تدبيج الكلمات، إنما هنالك خطوات تمهيدية يجب أن تسبق عملية الالتحاق بالركب العالمي، ومالم تتوافر هذه الخطوات يغدو من المستحيل بلوغ الهدف.
الإمام الشيرازي يطالب بذلك في قول واضح:
(ينبغي على المؤمنين الطموحين من أجل القيام والنهوض للصلاح والإصلاح، أن يوفروا في أنفسهم مجموعة أمور مهمة).
مقومات الإصلاح النهضوي
ويسعى الإمام الشيرازي إلى تقديم خارطة طريق للنهوض بالأمة، بمعنى أن سماحته لا يشير إلى مشكلة التخلف والتراجع الإسلامي ولا يكتفي بذلك، بل يضع النقاط فوق حروفها، حينما يقدم جملة من المقومات التي تسهم بصورة فعالة في تحريك عجلة الإصلاح، ودفع الأمة إلى أمام وحثها على خوض غمار التطور العالمي، ويطرح الإمام جملة من مقومات النهوض تسهيلا لصنّاع القرار حتى يتنبّهوا لخطورة المرحلة ويتم الشروع الفوري في البرنامج الإصلاحي النهضوي.
أول المقومات التي يطرحها الإمام الشيرازي الوعي فيقول:
إن (الوعي هو أول مقومات الإصلاح، ويعني إيجاد الوعي السياسي والاقتصادي والاجتماعي، واليقظة الفردية والجماعية، بين الأمة بكاملها، وذلك بقدر الكفاية، فإن الإنسان الواعي اليقظ لا يقبل الخضوع ولا تنطلي عليه المكائد).
والوعي هنا لا ينحصر في مجال واحد، أو فئة أو شريحة بعينها، بل هو وعي شامل من حيث مجالاته التي تدخل في ضمنها السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة وسواها، يُضاف إلى ذلك لا يقتصر الوعي على مجموعة معينة بل هو وعي يجب أن يطول أدمغة الجميع للمشاركة في عملية الإصلاح النهضوي.
وهناك مقومات أخرى يضعها الإمام الشيرازي بين أيدي القائمين على شؤون الأمة، وهي عبارة عن مقومات متلازمة وداعمة لبعضها، فبعد الوعي يؤكد سماحته على مقوّم ثانٍ هو التنظيم، ولا يخفى عن المختص اللبيب ماذا يعني التنظيم وما هو دوره في إدارة دفّة العملية الإصلاحية النهضوية للأمة!.
لذلك يؤكد الإمام الشيرازي على هذا المقوّم الهام فيقول:
(التنظيم وهو ثاني مقومات الإصلاح ويقصد به التنظيم الدقيق الذي يعد من أهم وسائل القوة).
هذه المقومات وإن تبدو مستقلة عن بعضها، إلا أنها في الميدان العملي لتحقيق الإصلاح ينبغي أن تكون مترافقة، فالوعي يجب أن يكون منظّم ولا فائدة منه إذا كان عبثيا عشوائيا مرتجلا، حيث تضيع جهود العاملين والخبراء سدى، لكن في حالة التنظيم للوعي فإننا نكون قد وضعنا أقدامنا على سكّة التطور الصحيحة.
وهاتان المقومان السابقان(الوعي والتنظيم)، يُنتظَر منهما أن يقودا الأمة ومساعيها إلى مرتبة أعلى وخطوة أهم وأكثر تقدما، فما هي الخطوة اللاحقة التي يطلق عليها الإمام الشيرازي بالمقوّم الثالث، إنه (الاكتفاء الذاتي) الذي يجب أن يقودنا إليه الوعي المنظَّم.
خطوات لتحقيق الاكتفاء الذاتي
الأمم التي سبقتنا إلى النهوض والتطور بلغت هذه المرحلة، وضمنت هذا المقوم، فجميع الأمم المتطورة مكتفية ذاتيا، بحيث أنها حققت هذا النوع الأساسي من الاكتفاء في مجالات عدة ورئيسة في المقدمة منها، الاكتفاء الاقتصادي، وهو يضمن شرطا آخرا للتقدم ونعني به الاكتفاء أو الاستقلال السياسي، فحين لا تكون الأمة محتاجة لغيرها فلن تخضع لشروطها.
من هذه النقطة تحديدا تظهر أهمية مقوّم الاكتفاء الذاتي الذي وضعه الإمام الشيرازي من ضمن خارطة الطريق نحو الإصلاح النهضوي للأمة.
الإمام الشيرازي يؤكد هذا الإلزام في قوله:
إن (الاكتفاء الذاتي هو الثالث من مقومات الإصلاح، ويعني العمل من أجل الاكتفاء الذاتي في كل المجالات، اقتصاداً، وسياسةً، وزراعةً، وصناعةً، وغير ذلك).
ومن مجموع المقومات الثلاثة سابقة الذكر (الوعي، التنظيم، الاكتفاء الذاتي)، يضع الإمام الشيرازي ضمن خارطته الإصلاحية مقوّما آخر بالغ الأهمية، وفي حال عدم توافره فلا فائدة من المقومات السابقة، وقد تكون عاجزة عن دفع الأمة باتجاه التمازج التقدمي مع العالم، هذا المقوم الرابع الذي يختم سلسلة مقومات النهضة الإصلاحية هو الطموح والأمل الصادق.
تُرى هل يمكن للوعي أن ينتج عقولا ناضجة دون طموح وأمل، وهل هناك فائدة من التنظيم والاكتفاء الذاتي إذا لم يتوافر الطموح الذي ترتكز عليه جميع مقومات النهوض، ولهذا أعطى الإمام الشيرازي الأولوية لمقوّم الطموح والأمل، وجعله في مقدمة المقومات، وهو الذي يقود عمليات وخطوات النهضة متقدما إلى أما وهو يحدو الأمة إلى عالم جديد حداثوي يمنحنا استحقاق الاصطفاف إلى جانب الأمم المتقدمة بجدارة.
يقول الإمام الشيرازي:
إن (المقوم الرابع من مقومات الإصلاح هو الطموح والأمل الصادق، ويقصد به الطموح الكبير، والأمل الصادق بالصلاح والإصلاح، فإن الطموح والأمل يحلان المحل الأول من مقومات الإصلاح؛ ولذلك ينبغي لنا قبل هذه الأمور الثلاثة، أن نطمح إلى تغيير هذا الواقع المأساوي الذي نعيشه).
ويؤكد سماحته على أولوية وأهمية مقوّم الطموح والأمل فيقول:
(لولا الطموح والأمل في التغيير لن يمكننا أن نفعل شيئاً، كما ينبغي لنا أن نستعيد طموحنا وأملنا، ونواصل نشاطناً وعملنا مرة أخرى، ونتوكل على الله عز وجل، ونجعل الرسول الكريم صلى الله عليه وآله، والأئمة المعصومين من أهل بيته قدوة وأسوة لنا، حتى نستطيع إنقاذ المسلمين، بل جميع الناس في كل العالم).
ويرى سماحته، إن المسلمين الأوائل تقدموا على الأمم الأخرى بالطموح والأمل الذي دفع بهم إلى مراتب عالية من التقدم في عالمهم آنذاك، وإذا أراد أحفادهم والأجيال اللاحقة لهم إيجاد المكانة الصحيحة في عالم يقفز إلى الأمام بخطوات متسارعة، فعليهم التمسك بالطموح والأمل، والتخلي عن الخمول والكسل واللامبالاة التي تشل إرادتهم وتدمّر قدراتهم.
يقول الإمام الشيرازي:
(لقد كان الطموح والأمل، المستتبع للسعي والعمل، هو أحد أهم الأسباب الرئيسية التي سببت علو شأن المسلمين الأوائل).
نحن أمام مسؤولية إتمام (النهضة الإصلاحية)، وهي مهمة صعبة وشاقة وملزمة أيضا، وخارطة الطريق واضحة لمن يهمه الأمر من القادة والمسؤولين والخبراء، وما هو مطلوب هو دراسة المقومات، ووضعها قيد التمحيص والتخطيط والتنفيذ، ولعل فرصة الأمة اليوم أفضل من أي وقت مضى كي تمضي في تطبيق خارطة الطريق المؤدية إلى النهضة الإصلاحية للمسلمين.
اضف تعليق