هذه رسالة موجّهة إلى قادة المسلمين اليوم بالدرجة الأولى، لكي يعودوا إلى سيرة قادتهم العظام، لكي يجعلوا من الصدق طريقا لهم، ويحذفون الكذب والخديعة والبذخ والتفاخر من خرائط أعمالهم، هكذا يمكن لنا كمسلمين العودة إلى ساحة المنافسة العالمية في التقدم والتطور المتصاعد...
الصدق طريقنا إلى التقدم، بدلالة ما وصلت إليه الأمم التي تشبثت بالصدق كأسلوب حياة وإدارة، وبدلالة ما حققهُ المسلمون في أوائل النبوّة، فالصدق حسب تعريفه عند فقهاء الدين الإسلامي هو قول الحق ومطابقة الكلام للواقع، وقد أمر الله تعالى بالصدق، فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119]. والصدق ضدُّ الكذب، صَدَقَ يَصْدُقُ صَدْقًا وصِدْقًا وتَصْداقًا، وصَدَّقه: قَبِل قولَه، وصدَقَه الحديث: أَنبأَه بالصِّدْق، ويقال: صَدَقْتُ القوم. أي: قلت لهم صِدْقًا وتصادقا في الحديث وفي المودة.
الصدق منجاة وهو أول دروب الخير وهو وصف المؤمنين والأنبياء والصالحين، وقد امتدح الله سبحانه وتعالى الصدق وذكره في أوصاف أهل الجنة وأمر الناس به كما جاء في العديد من الأحاديث الشريفة التي تحث على الصدق، لأن فيه من الخير الكثير. وأخبر عنه الرسول عليه الصلاة والسلام بأنه طريق للبر. ومن المعروف أن الرسول محمد صلى الله عليه وآله، عُرف بأنه "الصادق الأمين". قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة: 119].
الكذب ويكون إما بتزييف الحقائق جزئيا أو كليا أو خلق روايات وأحداث جديدة، بنية وقصد الخداع لتحقيق هدف معين وقد يكون ماديا ونفسيا واجتماعيا وهو عكس الصدق، والكذب فعل محرم في أغلب الأديان. الكذب قد يكون بسيطا ولكن إذا تطور ولازم الفرد فعند ذاك يكون الفرد مصاب بالكذب المرضي. وقد يقترن بعدد من الجرائم مثل الغش والنصب والسرقة. وقد يقترن ببعض المهن أو الأدوار مثل الدبلوماسية أو الحرب النفسية الإعلامية.
لو أراد المسلمون العودة إلى الصدارة، إلى التقدم، إلى السؤدد، عليهم العودة إلى الأسلوب الذي اعتمده رموزنا وقادتنا وأجدادنا الأوائل، حينما تعاملوا بأسلوب الصادقين، فقطفوا أعلى الثمار، وحققوا أعظم النتائج، وتربعوا على القمم وتصدَّروا الأمم، فتكونت أعظم دولة للمسلمين في حينها، وتم تغيير عادات وسلوكيات المجتمع آنذاك بما جعله يتقدم على الجميع بلا ريب.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، أكدّ على قيمة الصدق ودورها في تغيير الإنسان، ومدّه بالطاقة التي ترفعه نحو الأعالي، يقول سماحته في كتابه القيّم الموسوم (إلى العالَم):
(إن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله، أسّسَ الإسلام على الصدق والواقعيّة، ولذا تقدّم ذلك التقدّم الهائل).
دور القيم العظيمة في بناء الأمم
ولكن ما أن فقد قادة المسلمين الصدق وحوَّلوه إلى الكذب والزيف، بدأت رحلة الانحدار نحو الحضيض، كل هذا حدث بسبب عدم مواصلة المسير على ما بناه رسولنا الأكرم من قيم عظيمة حوَّلت الناس من رعاة جاهلين، إلى مجتمع ودولة قادت العالم إلى محافل النور، بعد أن سقطت في دهاليز الظلام، لكن القادة الكذّابون حرفوا الإسلام والمسلمين بقضائهم على الصدق واعتمادهم الكذب في كل شيء.
الإمام الشيرازي يقول: (إنّ بني أميّة وأولاد العباس وآل عثمان، بدّلوا صدق الإسلام إلى الكذب، ولذا أخذ الإسلام والمسلمون في التأخر، حتى وصل الحضيض في زماننا).
وتقدم لنا الروايات الشريفة، وسجلات التاريخ الناصعة، ما يؤكد ويثبت منهج الصدق الذي أسس له قائد المسلمين الأعظم الرسول محمد صلى الله عليه وآله، بجعله للصدق وبساطة العيش معيارا وفنارا يهتدي به الناس نحو مسارات التطور، على عكس ما أتى به بعض القادة اللاحقين مثل معاوية ومن سار في مساره المنحرف، حيث تحوّل الصدق إلى كذب وزيف، وصارت حياة البساطة في خبر كان، وتحوّلت إلى قصور فارهة ضخمة، وكأن حياة التقدم تقوم على المادية والمظهرية!.
وهذه الخطوة هي أولى خطوات الانحراف التي طالت الإسلام والمسلمين، حيث غاب الصدق وهيمن الزيف والكذب على حياة المسلمين بعد أن سار قادتهم الأمويون في هذا المسلك الخطير الذي انحدر بالمسلمين إلى الدرجات السفلى، متناسين أو ناسين تلك الدروس العظيمة التي رسّخها الرسول الكريم من صدق وبساطة في السلوك والمأكل والملبس والسكن، فالمهم أن لا تخدعك المظهرية والمادية، لكن الذي حدث أن القادة الأمويون ساروا في طريق الكذب والمظاهر المزيفة، فأسسوا لتخلف المسلمين قبل مئات السنين.
الإمام الشيرازي يؤكّد على: (إن غرفة الرسول صلى الله عليه وآله، التي مات فيها لم تتجاوز عن قدر وضع جنازته باتجاه القِبلة، وعشرة أفراد ملتصقين وقوفاً للصلاة عليه ــ كما تحدثنا الروايات ــ تبدّل هذا الأسلوب البسيط في زمان معاوية إلى قصر ضخم يساوي أربعة ملايين دينار).
المادية المظهرية وباء التخلف
الزهد الذي عاشه قادة المسلمين الأوائل العظماء، للأسف لم يرقْ للقادة اللاحقين ومنهم قادة اليوم، حيث حياة البذخ والفخفخة والتبهرج صارت مقاييس لهم، كأن القائد الجيد يُقاس بما يلبسه من ثياب فاخرة، وبما يسكن من فلل وقصور فخمة، وصار المظهر والسلوك المادي مقياسا لقوتهم ونجاحهم كما يتصورون، لك العكس هو الصحيح تماما، بمعنى كلّما ازداد بذخ الحاكم وتعطشه للمادة والبهرجة، كان هذا دليلا على فشله في القيادة وفي الحفاظ على حقوق الأمة.
يقول الإمام الشيرازي: (إنّ رهن درع رسول الله صلى الله عليه وآله بثلاثة أصوع شعير ــ أو أكثر ــ لأجل قوته وقوت أهله، تحوّل إلى سبعمائة مائدة لقصر عبد الحميد العثماني، وفي كل مائدة ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين).
ولعل مشكلة الإسلام اليوم تتشكل في تحوّل قادته اليوم من الصدق إلى الكذب، ومن الجوهر إلى المظهر، ومن الروحانية إلى المادية، لهذا بات المسلمون يعيشون على أكتاف الآخرين، ويصرّ حكام المسلمين على سلب حقوق رعيّتهم، والإيغال في تجهيلهم، وتكبيلهم في أفكار وسلوكيات بعيدة كل البعد عمّا يتطلبه العصر الراهن من مجاراة للتطور والتقدم العالمي الذي يحيط بالمسلمين من جميع الجهات.
لهذا يقول الإمام الشيرازي: (من المعلوم أن مثل هذا الإسلام المحوّل من الصدق إلى الكذب، لا يعيش بنفسه وإنما على أكتاف الآخرين). وهذه هي حقيقة ما يعيشه حكام المسلمين اليوم، فهؤلاء بسبب اعتمادهم الزيف والكذب والمظهرية والمادية، باتوا اليوم العقبة الأكبر في وجه الإسلام والمسلمين ومنعهم من مواكبة ما يجري من تطور في المحافل العالمية المختلفة.
أما بخصوص إمكانية أن يعود المسلمون إلى الصدارة، وإلى أخذ المكانة التي تليق بهم، فهذا لا يزال متاحا، والفرص لم تلغى أو تغلق أبوابها أمام الصادقين منهم، فالعودة إلى صدق القادة العظماء السابقين وإلى أسلوبهم في إدارة الدولة ومواردها وطاقاتها البشرية والطبيعية، هو السبيل الذي لا يزال متاحا لقادة المسلمين اليوم، ولكن هل يتنبّهوا إلى هذه النقلة الكبرى وهل يتعلموا ممن سبقهم في جعل المسلمين هم قادة العالم في العلم والإنتاج والتميز؟
يقول الإمام الشيرازي: (إن المسلمين سيبقون في هذا التخلّف والتأخر والاضمحلال والتبعيّة ما لم يتحوّل الكذب الحادث إلى الصدق السابق).
نعم سيبقى المسلمون متأخرين إذا لم ينتبه من يقودهم إلى تغيير واقع الحال المتأزم، وإذا لم يعودوا إلى الصدق كمنهج تعامل وطريق حياة، ليس الأمر غامضا ولا الطريق مجهولا، المطلوب العودة إلى سيرة الرسول الأعظم وسيرة أئمة أهل البيت في تعاملهم مع الحياة وجعل الصدق في المقدمة والبساطة ورفض التضخيم والبهرجة والبذخ من قاموس حياتهم، هكذا يمكن أن نعود إلى الصدارة، أو على الأقل نعود إلى المرتبة التي تليق بتاريخنا في حلقاته المشرقة.
الإمام الشيرازي يقول: (إذا أعدنا تلك السيرة العطرة، رجونا أن يعود إلينا الإسلام بعزّه وسيادته واستقلاله وسعادته).
هذه رسالة موجّهة إلى قادة المسلمين اليوم بالدرجة الأولى، لكي يعودوا إلى سيرة قادتهم العظام، لكي يجعلوا من الصدق طريقا لهم، ويحذفون الكذب والخديعة والبذخ والتفاخر من خرائط أعمالهم، هكذا يمكن لنا كمسلمين العودة إلى ساحة المنافسة العالمية في التقدم والتطور المتصاعد.
اضف تعليق