ما يساعد الإنسان على ابتغاء منهج التوازن، أنه جُبِل تكوينيا على هذه السمة أو الصفة، وحين يسلك الطريق المعاكس، أي حين يذهب إلى وأد التوازن في شخصه فكرا وسلوكا، فإنه كمن يمضي بذاته وكيانه في المسالك الخاطئة المنحرفة، فما يناقض التوازن هو التطرف، والأخير يشغل الإنسان والأمة...
يُقصَد بالتوازن الكوني، ذلك النظام الدقيق القائم على تقابل الأضداد، وفق ندّية متساوية في خلْقِها وأهدافها، فالكون يقوم على التوازن والتتابع، مثلا الليل يقابله النهار، والصيف يقابله الشتاء، والشمس يقابلها القمر، الكائنات أيضا قائمة على التوازن، فقد خلق الله تعالى الإنسان في (أحسن تقويم)، اليَديْن يقابلهما ويسندهما الساقان، والدماغ يؤازره القلب، وهكذا فإن التوازن عنوان محكَم وعريض، يحكم الحركة الكونية باتِّساق وتتابع ودقة، ويفرض قوانينه على الإنسان أيضا.
هذا الدرس البليغ، ليس على البشرية، والإنسان إلا فهمه واستيعابه وهضمه، حتى ينعكس بشكل تام على تفكيره وسلوكه، لكي تكون السمات الأساسية للبشرية والإنسان الفرد، مستَّلة من التوازن والوسطية وقائمة عليها، لماذا علينا كمسلمين أن نستوعب درس التوازن الكوني والبشري؟
الركون إلى التوازن في الفكر والقول، دليل منهج وسطي متحضّر، يبتعد عن نزعة الإلغاء التي تنتعش في أوساط متطرفة لا تعترف بالتوازن، ولا تجد فيه منهجا يأخذ بها نحو أهدافها وفق منهج ناجح ومضمون النتائج، بالإضافة إلى أن التطرف يمنع الإنسان من الرؤية الوسطية الثاقبة، لذا فالمتوازن شخص حكيم، والأمة المتوازنة تنجح في سلوك طريق التطوّر، لأنها لن تنشغل في صراعات جانبية مع أمم أو دول أخرى، ويبقى السلام طريقها ومنهجها.
صناعة أمة متوازنة من المسلمين، يستدعي أولا صناعة الإنسان المتوازن، القادر على زرع هذه الصفة والسلوك في عمق شخصيته، لاسيما أنه خُلق أصلا وفيه مقومات التوازن، وما عليه سوى المحافظة عليها وتطويرها، وحمايتها من النفس الأنانية التي تستهوي السلطة والامتيازات، لتنحرف بها من جادة التوازن إلى حافة الهاوية، ثم تدفع بها نحو السقوط الحتمي، في حال عجز الإنسان وتوانت الأمة عن رأب الصدع وتجنب الابتعاد عن التوازن.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يصف في كتابه القيّم الموسوم بـ (الطموح في حياة الفرد والمجتمع) الإنسان المتوازن بقولهِ:
(يُقال: فلان شخص موزون، أي: دقيق الصفات متساوي الجهات، لا زيادة في حركاته وسكناته ولا نقصان).
وما يساعد الإنسان على ابتغاء منهج التوازن، أنه جُبِل تكوينيا على هذه السمة أو الصفة، وحين يسلك الطريق المعاكس، أي حين يذهب إلى وأد التوازن في شخصه فكرا وسلوكا، فإنه كمن يمضي بذاته وكيانه في المسالك الخاطئة المنحرفة، فما يناقض التوازن هو التطرف، والأخير يشغل الإنسان والأمة، ويجعل منها كيانا هزيلا ثرثاراً، يقول أكثر بكثير مما يعمل، ويُظهر عضلاته للملأ، في حين إنها خاوية ومهلهلة، فيسوق نفسهُ ومجتمعه نحو الثرثرة الفارغة، متناسيا بأنّه مخلوق متوازن تكوينيا.
يقول الإمام الشيرازي:
(خُلِقَ الإنسان بميزان في جميع مراحل الخلق، كسائر المخلوقات).
نتائج الانخراط في الحروب
حريّ بالإنسان، والأمة برمّتها، أن تعرف ذاتها، وتتعمق في تكوينها، وتعرف المزايا الجّمة التي وهبها الله إياها، وإذا عرف المسلمون ما وهبهم الله في الخلق، واستثمروا ذلك فعليّا، وعرفوا بأنّهم مجبولون على التوازن التكويني، فإن ذلك من شأنه أن يمنحهم الصدارة مجدّدا في قيادة العالم، وطالما أن الله لم يبخل علينا وأعطانا قابلية ذاتية مكتملة، فإننا من الغباء أن نهدر هذه الهبات سدىً.
لذا يقول الإمام الشيرازي:
(كل ما يحتاج إليه المخلوق حباه الله تعالى به ووهبه له؛ لأن الله تعالى ليس بخيلاً، بل هو فياض مطلق، قد أعطى كل شيء قدره، وبحسب قابليته الذاتية).
من الأخطاء التي ارتكبها المسلمون، ولا زالوا يرتكبونها حتى الآن، أنهم تركوا الانشغال بالتطور المضطرد الذي يشهده العالم، وانخرطوا في صراعات جانبية لا تغني ولا تسمن من جوع، فمن الصراعات الداخلية بينهم وبين بعضهم، إلى الخارجية مع الأمم والدول الأخرى، نسوا بأنهم ذووا تاريخ باهر، ساعدهم في صنعه تلك الحكمة والتوازن في التعاطي مع إدارة حياتهم بكل تفاصيلها وشؤونها، يُضاف إلى ذلك إن القضايا التشريعية والتكوينية محكومة بمصلحة الإنسان والأمة، وكذلك قانون الأسباب والمسببات.
إنها بالنتيجة حكمة إلهية، حيث جعل الله حياتنا وحركتنا وسكوننا وكل ما يبدر منّا، تقف وراؤه العلّة والسبب، وهذا يعني إن جميع المتاهات ينبغي أن تكون معروفة لنا، وكل الانحرافات مرصودة، وليس هناك أية أعذار يمكن أن تبرر أو تجيز تشتت المسلمين وتأخرهم عن الأمم الأخرى.
يقول الإمام الشيرازي:
(إن كل الأمور والأشياء التشريعية والتكوينية تكون خاضعة للمصلحة والحكمة، وتابعة لقانون الأسباب والمسببات، إذ جعل الله لكل شيء طريقاً وسبباً، ولكل أمر علة وسبباً).
المفكرون والعلماء من المسلمين، يقع عليهم واجب وضع الأمة تحت مجهر الكشف والتحليل، ومن ثم الوصول إلى الأسباب التي جعلت من التطرف وغياب التوازن، ينهش بالتكوين المتكامل والتجانس المجتمعي للمسلمين، لننتهي بالنتيجة إلى أمة فاقدة للطموح، وإنسان لا يرى في حياته أي سبب لبلوغ القمة.
فقدان الهدفية انحدار نحو الهاوية
ما يقع اليوم على عاتق العلماء والرساليين من مسؤولية كبرى، يحتم عليهم قراءة واقعنا بدقة، ومن ثم وضع الحلول العملية القادرة على إعادة الطموح إلى روح الأمة وقلبها وعقلها، فالأمة التي لا تطمح بشيء لن تحصل على أي شيء في مجال التقدم والتطور ومجاراة الأمم الأخرى المتنافسة في عمليات الصعود اليومي إلى قمم النجاح والتألّق.
الإمام الشيرازي يرى: (إن الأمة الفاقدة للطموح والأمل ــ بمعناه الصحيح ــ المستتبع للصمود والعمل، واللذين هما مقدمتا التوازن والتعادل، سوف تواجه أياماً صعبة فاقدة للتوازن والتعادل مهما كانت طاقات تلك الأمة كبيرة، وإمكاناتها كثيرة).
على مستوى الأفراد، لم يتحلَّ المسلمون بالطموح، وهي ظاهرة خطيرة حقا، الأغلبية منهم تميل إلى الخمول والكسل والجمود، وهذه القوى المهدورة، لا تصبّ في صالح الأمة الإسلامية بدولها ومجتمعاتها، ولنا أن نتصور الكيفية والنفسية التي يكون فيها الإنسان الفاقد للطموح، والمحاط باليأس والعدمية والعبثية من الجهات الأربع، ومن يفقد الطموح يكسل ويعجز، والأخير لا يعنيه بعد ذلك أي نوع من الإصلاح، ولا تخطر في باله قواعد عمل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فمن يفقد الهدفية في حياته، لا تعنيه الأهداف الأخرى، ومن لا يجد ما يثيره في الحياة ويدفعه نحو الطموح، وصنع أهداف ترتقي به سلّم الارتقاء، فإنه لا يمكن أن يضع نفسه في موضع المساءلة لنصح الناس أو مساعدتهم، ولن يكون قادرا على امتلاك ضمير يؤنبه ويدفع به إلى أن يكون إنسانا صالحا وفاعلا، ومما يدعو إلى الأسف حقا، أن معظم المسلمين يُحسبون ضمن خارطة فقدان الطموح.
الإمام الشيرازي يقول حول هذه النقطة:
(إن أغلب المسلمين اليوم فقدوا طموحهم وأملهم، وتقاعسوا على أثر ذلك عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
ولكن هل نقطع الأمل، وهل نقف مكتوفي الأيدي والعقول كمسلمين؟، هل علينا مواصلة العجز والتخلي عن دورنا في الحياة؟، بالطبع كلا، نحن جزء من العالم، ومشارك حقيقي وكبير في تقاسم الهمّ البشري، ويقع علينا مسؤولية النهوض والوقوف على أرجل لا يطولها الكلل، وهذا ليس بصعب المنال.
الرساليون من المسلمين ليس وحدهم في هذا الصراع، بين أن نبقى أمة بلا طموح، أو نتحول إلى مشارك فاعل في المجتمع البشري الأكبر، كما أننا كمسلمين نمتلك القدرات الذاتية لبلوغ هذا الهدف، ولسنا بحاجة إلى أي مددٍ خارجي.
نعرف ذلك مما يقول الإمام الشيرازي:
(إن وراء المؤمنين الرساليين ملياراً وخمسمائة مليون مسلم، وهم أصحاب منابع طبيعية عظيمة، مادية ومعنوية، فالمسألة ليست مسألة مدد من الخارج، بل إنها قضية طموح وأمل، وسعي وعمل).
بالنتيجة نحن أمة المسلمين، بأقل درجات الحاجة إلى استثمار التوازن الكوني والبشري، حتى نتخلّص من الصراعات الداخلية بين المسلمين، وكي نلجم التطرف وننهيه إلى الأبد، وانطلاقا من ذلك سوف نعود أمةُ الصدارةِ عالميا، وطريقنا إلى ذلك التوازن، ووأد التطرف من حياتنا نهائيا.
اضف تعليق