لم تشهد البشرية عبر رحلتها الطويلة تطلّعاَ للمستقبل وهَوَساً به كما يحدث اليوم، فالملاحَظ دون أدنى شك أنّ هناك تسابقا عالميا هائلا، خصوصا بين الأمم المتقدمة نحو اكتشاف المستقبل بشتى الطرق والوسائل العلمية وفي المجالات كافة، انطلاقا من المقولة التي تنص على أن كل من يضمن المستقبل...
لم تشهد البشرية عبر رحلتها الطويلة تطلّعاَ للمستقبل وهَوَساً به كما يحدث اليوم، فالملاحَظ دون أدنى شك أنّ هناك تسابقا عالميا هائلا، خصوصا بين الأمم المتقدمة نحو اكتشاف المستقبل بشتى الطرق والوسائل العلمية وفي المجالات كافة، انطلاقا من المقولة التي تنص على أن كل من يضمن المستقبل يضمن الحاضر، لذلك هنالك اندفاع هائل باتجاه المستقبل وهذا لن يحدث طوعيا بل لابد من وجود تغيير كبير في أوجه الحياة كافة كي يتم التمهيد لمعرفة المستقبل وما يضمره من أسرار.
التغيير يعني تكييف الأنفس وتطويعها وتعليمها لكي تخرج من دائرة الاعتياد والسائد إلى المغاير الذي يقود الإنسان والأمة إلى منصة الانطلاق لمواكبة العصر بروح قوية فاعلة متوثبة لاقتناص فرص التقدم، وعدم الركون إلى التقليدي، فالتحول من العادي إلى المتطوّر عملية معقدة لا يمكن أن تحدث بطريقة آلية، بل هناك فعل وجهود ضخمة تسبق هذا التحول وتديم زخمه، إنها القوة الفاعلة التي تُسهم بطريقة وأخرى في صناعة المستقبل.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (فقه المستقبل): (عالمنا اليوم يشهد حركة قوية وسريعة نحو المستقبل في كافة أوجه الحياة، وهذه الحركة توجب تغيراً شديداً، فيجب أن نكيِّف أنفسنا مع هذا التغيير حتى نمتلك ناصية المستقبل).
(تتجلّى الأهداف الكبيرة في حاجات المستقبل الواسعة، بينما تظهر الأهداف الصغيرة في حاجات الإنسان المؤقتة؛ وصناعة المستقبل تتم عبر البرنامج الذي يضعه الإنسان لتحقيق أهدافه الكبيرة).
يحتاج الأمر إلى استعداد شخصي للإسهام في عملية التغيير، فإن كان الإنسان مستعدا للتعامل مع الغد بتميّز واستقباله برغبة وتطلّع للنجاح، لا ريب سوف يتحقق نوع من التجانس بين الأبعاد الزمنية الثلاثة، فإنسان الحاضر حتى يتغلب على عقبات التحوّل والتغيير، عليه أن يكون مستعدا لاستقبال الغد، وعليه أن يحرص كل الحرص كي يجعل الزمن مترابطا في سلسلة تجمع بين الحاضر والماضي والمستقبل معاً.
إن الربط بين الأبعاد الزمنية الثلاث، يضمن سياقا زمنيا متناميا، فالانتقال من الحاضر إلى المستقبل لا يجب أن يتم بذريعة إقصاء الماضي، بل الصحيح هو عملية تداخل وانتقال إلى المستقبل بالقوة الفاعلة التي تنطلق من الحاضر نحو المستقبل، ولا تهمل في أي حال الماضي، والخطوة الأهم في هذا السياق هي توافر الاستعداد الفكري والنفسي والعملي لتحقيق القفزة المدروسة والمتوازنة نحو المستقبل المضمون والمشرق.
يقول الإمام الشيرازي: (على الإنسان أن يكون على استعداد تام لاستقبال الغد والتأثير فيه، والتكيّف معهُ فيما لا يمكن تغييره، وربطه بالحاضر والماضي حتى لا ينقطع المستقبل عن الماضي والحاضر).
رصد الاحتمالات والتخطيط السليم
هناك ميزة تتوافر في الأفكار التي تطرحها مؤلّفات ومحاضرات الإمام الشيرازي، تظهر بقوة في ثنايا كلماته المكتوبة أو المنطوقة، هذه الميزة هي موهبة استقراء المستقبل، فقلّما نجد أحد كتبهِ أو إحدى محاضراته تخلو من قراءة للمستقبل في ضوء معطيات الحاضر وتجارب الماضي، فالربط الزمني غالبا ما يقودنا إلى سبل تغيير الحاضر والانطلاق المدروس نحو المستقبل.
وفي هذا الإطار يحدد الإمام الشيرازي بعض الخطوات بالغة الوضوح كي تتحقق عملية الانطلاق من نقطة الحاضر بركيزة الماضي نحو مستقبل متميز، أولى الخطوات هي رصد الاحتمالات التي قد تواجهنا في المستقبل حين نبتغي هدفا بعينه، لأن عملية الرصد تبعدنا عن المفاجآت غير المحسوبة، وبالتالي تجعلنا في مأمن من التعثّر والتراجع إلى الوراء.
بعد خطوة الرصد التي لابد من أن تتم وفق مواصفات الدقة والعلمية التامة، ستعقبها خطوة لا تقل عنها في الأهمية، ونعني بها خطوة أو عملية التخطيط، فلكي تنجز هدفك لا يكفي أن ترصد الحيثيات والتفاصيل والمعوقات، هذا وحده لن يقودنا إلى عملية انتقال سليمة نحو مستقبل زاهر، فالخطوة التالية ستجعل من عملية الانتقال مضمونة ونقصد بها التخطيط الذي بدونه لا فائدة بخطوة الرصد السابقة، ولا أمل بالقفز من حاضر تقليدي إلى مستقبل نافر ومغاير للسائد.
يدعم الخطوتين الأولى الرصد، والثانية التخطيط، خطوة ثالثة هي اتخاذ القرارات الصائبة التي يقوم بها روّاد الأمة وعلماؤها ومبدعوها في المجالات كافة، بهذه الطريقة وهذا الأسلوب العلمي المدروس سوف يأتي البناء متكاملا، وضمان المستقبل هدفاً محسوماً.
يقول الإمام الشيرازي في المصدر نفسه: (مواكبة المستقبل تتمّ: عبر رصد الاحتمالات، والتخطيط السليم، والقرارات الصائبة التي يتّخذها روّاد الأمة وعلماؤها في مختلف الاختصاصات، في الهندسة والطب والزراعة والصناعة حتى يأتي البناء متكاملاً من حيث تكوينه).
صناعة المستقبل بقوّةٍ فاعلة
الناس مختلفون في تطلعاتهم ورؤيتهم للمستقبل، فهناك من لا تعنيه هذه الكلمة ولا يبحث في معناها وما مدى أهميتها، إنه أصلا لا يمتلك حساسية تجاه الغد، وهو بذلك يعيش أيامه كلّها سواسية، وهؤلاء ينطبق عليهم قول الإمام علي عليه السلام (من تساوى يوماه فهو مغبون)، ولكن هناك من هو شديد الحساسية تجاه الغد، وهو ينظر إلى المستقبل باهتمام، ويسعى بكل السبل المتاحة كي يوظّف كل العوامل حتى ينتقل إلى مستقبل لا يقل جودة عن الأمم الأخرى.
هذا الاستنتاج الواقعي يحتّم على من يهمّهُ المستقبل وتعنيه هذه المفردة من حيث اللفظ والمعنى والفعل، أن يبحث عمّن يتشابهون معه في التطلّع، وأن يتجمَّعوا معاً في قوة فاعلة تمتلك القدرة الحتمية على القفز إلى المستقبل من خلال تحريك كل عوامل ومحفزات التحرّك نحو مستقبل باهر، وحين يحدث هذا النوع من التآزر بين الذين تتجه بوصلتهم نحو المستقبل، فإن الهدف المرسوم سوف يكون في دائرة التحقّق، ويحدث نوع من الحثّ والتأثير حتى على غير العابئين بالمستقبل، فيصبحوا أكثر انشغالا به، وبالتالي تتشكل قوة فاعلة في المجتمع تندفع نحو مستقبل مشرق.
يقول الإمام الشيرازي: (طبعاً ليس المعنيون بالمستقبل ـ وهم كل الناس ـ حسّاسين للغد، لكن على هؤلاء الذين يتطلّعون للمستقبل ويعملون من أجله، أن يصبحوا قوة فاعلة في وسط المجتمع، تحركهم دائماً باتجاه المستقبل المشرق).
إن القوة الفاعلة لامتلاك ناصية المستقبل، قطعا تتكون من أصحاب العقول الكبيرة والمواهب الخلاقة والإرادات القوية وذوي النظرات الثاقبة، هؤلاء هم من يصنع المستقبل بما يمتلكونه من مزيج متجانس من العلوم والآداب والإرادات القوية والعقول الطامحة للتغيير والعاملة في هذا الاتجاه تخطيطا وتنفيذا، وهؤلاء هم من يفكك مغاليق المستقبل ويجعلونه ظاهرا أمام الآخرين، فيُصبح العامة على معرفة بالمستقبل وخوّاصه وأسراره ومزاياه أيضا، فيمضون إليه بثبات وإيمان وجرأة تنتهي بهم إلى الاستعداد التام للمضيّ قُدُماً.
يقول الإمام الشيرازي حول ذلك: (هؤلاء هم القوة الفاعلة، حيث يُصنَع المستقبل من خلال رؤيتهم الثاقبة لما سيجري في الغد، ومن خلال دفعهم المتواصل للأمة بهذا الاتجاه. فهُم يُطلعون الأمة على ما سيجري في المستقبل، فتتكيّف الأمة على نحو تستطيع امتلاك ناصية المستقبل بإذن الله تعالى).
ما ورد في أعلاه يمكن أن ينطبق على الدول الإسلامية، وعلى العراق الذي يجب أن يتطلع لمستقبل مشرق رغم الإخفاقات التي يمور بها واقعهم، فمن يريد من العراقيين أن يتخلص من الواقع المزري، عليه أن يدخل في إطار القوة الفاعلة التي تصنع المستقبل بعد قراءته والتخطيط له وفق خطوات آملة ومتقنة.
اضف تعليق