قبل أن يتم اكتشاف النفط في البلدان الاسلامية والعربية، كان الفقر هو العلامة الفارقة للمسلمين، فقد كانت الحياة بسيطة قبل اكتشاف النفط، وكان الناس يعيشون على الكفاف، يأكلون مما يزرعون، ولم تكن بعد قد وصلت إليهم تعقيدات التكنولوجيا، وكان من المتوقّع أن يتم استثمار النفط بطريقة صحيحة في هذه البلدان، فتنتقل من الفقر وتوابعه الى الرفاهية، لكن هذا لم يتم بسبب سوء استخدام الاموال الطائلة التي دخلت خزائن الدول كإيرادات مالية ضخمة، ومما زاد الطين بلّة، أن هذه الثروات الكبيرة بدلا من أن تكون عونا للناس، وتجعل من حياتهم أفضل، أصبحت عبئاً عليهم، من جوانب عدة، فمثلا بعد ان كانت عيون الاستعمار بعيدة عن هذه المناطق وشعوبها، اصبحت تحت مرمى أطماعها بعد اكتشاف النفط، وقد رافق هذه الاطماع حالات احتلال مزمنة دامت عقودا من السنوات، سامت فيها المسلمين انوع العذاب والجوع والحرمان، بعد أن تم نهب ثرواتها النفطية بطرق احتيال منظمة.
كذلك فشل الحكومات المستبدة والفاسدة في ادارة ثروات النفط، الأمر الذي ألحق أفدح الاضرار بالمجتمعات الاسلامية لاسيما الفقراء منهم، حتى تحولت معظم الدول النفطية الاسلامية الى دول ريعية تعتمد في اقتصاداتها بصورة كلية على النفط، فتراجعت الزراعة والصناعة، وانتشر النمط المعيشي الاستهلاكي، وضعف الانتاج الى ابعد الحدود، ونسي القادة السياسيون وحكوماتهم أن مادة النفط قابلة للنضوب في يوم ما، فلم تستثمر الحكومات هذه الثروة الهائلة كما يجب، ولم تراعي حصة الاجيال القادمة منها، وكان عليها أن تضع الخطط المستقبلية اللازمة، في مجال انشاء المشاريع الضخمة، حتى تكون عونا لهم في المستقبل عندما ينضب النفط بصورة تامة كما هو متوقّع.
لذا يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيم الموسوم بـ (ماذا بعد النفط)، حول هذا الموضوع: (يجب رصد مقدار معين من عائدات النفط لصرفها في خطط مستقبلية تستطيع أن تسدّ النقص الذي من المتوقع أن يحصل بعد نضوب النفط).
علما أن السياسة الاقتصادية بلغت من الضعف والتخبط، اقصى الحدود، فلم تستثمر الحكومات هذه الثروة لا في الحاضر ولا من أجل المستقبل، على الرغم من أن التخطيط الجيد كان يمكن أن يكون سببا جوهريا، في تحويل هذه الثروات من عبء على المسلمين، الى كنوز حاضرة ومستقبلية تصب في صالحهم، فيما لو تم التعامل مع هذه الثروات باسلوب اقتصادي مدروس ومحسوب، يراعي مصالح الناس قبل حكوماتهم المرتبطة غالبا بالدول والقوى الكبرى وهي التي تحركها وفقا لأهدافها، وهي اهداف مضادة للمسلمين حتما.
من هنا يؤكد الامام الشيرازي تقصير المسؤولين عن هذا القطاع الاقتصادي الحيوي عندما يقول سماحته: (هناك موارد كثيرة يمكن استخدامها بطريقة اقتصادية محكمة، بحيث تستطيع أن توفر الرأسمال الكبير للدول النفطية، إذا ما أحسنت استخدامها).
رصد الاموال للمشاريع العملاقة
لا شك أن التخطيط الاقتصادي السليم، يستوجب البحث عن مصادر اخرى متعددة لإيرادات الدولة، وعدم الركون الى الاقتصاد الريعي الاحادي، خاصة اذا كان معرَّضا للزوال او النضوب كما هو الحال مع النفط، لذلك يطالب الامام الشيرازي الدول الاسلامية وانظمتها السياسية، منذ عقود خلت بأهمية رصد الاموال اللازمة لاقامة مشاريع اقتصادية انتاجية ضخمة، تدر الاموال وتمنح الدولة ايرادات خارج اطار النفط المقبل على الزوال كما تؤكد ذلك دراسات علمية متخصصة في هذا الجانب.
فالمطلوب على وجه السرعة تخصيص الاموال اللازمة لإنشاء مشاريع حاضرة ومستقبلية، يكون بمقدورها انتاج سلع متنوعة متميزة وكبيرة كما ونوعا، حتى يتم تصديرها مع النفط لكي تشترك في تحصيل الايرادات اللازمة للدولة، وأن لا يبقى النفط هو مصدر التمويل الوحيد لميزانية الدولة كما هو الحال الآن، حيث تم تحييد جميع انواع الانتاج الزراعي والصناعي في دول اسلامية عديدة ومنها العراق الذي يصدّر النفط لكي يعيش، وعندما يقل تصدير النفط او تهبط اسعاره يواجه البلد ازمة مالية خانقة كمل يحدث الآن تماما عندما هبطت اسعار النفط هبوطا سريعا وكبيرا، لهذا ينبغي التخطيط لمصادر ايرادات مرافقة للنفط.
كما يحث ويؤكد على ذلك الامام الشيرازي بقوله: (لا بد أن يتم رصد نسبة معينة من أموال النفط في إنجاز منشآت صناعية قرب البحار والأنهار وما شابه).
ولكن كل المؤشرات تؤكد أننا لم نعمل في هذا الاتجاه، ولم نخطط اقتصاديا للمستقبل، ولم يضع حكامنا وحكوماتنا في حساباتهم، ان النفط في طريقه الى الزوال، وانهم ينبغي ان يستعدوا منذ الآن لإيجاد مصادر تمويل وايرادات بديلة للنفط، من خلال تشييد مشاريع انتاجية كبرى، خاصة اذا استثمرنا اموال النفط بصورة صحيحة، ومضينا في هذا الاتجاه، علما أن هناك دولا بلغت درجات ومراتب عليا من التقدم والتطور الاقتصادي وهي لا تمتلك النفط، لكنها خططت للمستقبل بصورة حكيمة محكمة من دون ان تستعين بالنفط لانها لا تملكه اصلا.
كما نقرأ ذلك في قول الامام الشيرازي بهذا الخصوص: (هناك دول في العالم تقدمت صناعياً كاليابان ـ في الحاضرـ وهي لا تملك النفط، وكان تقدمها مرهوناً بالخطط الحكيمة الموضوعة من لدن خبرائها).
السياسة الصناعية والحاجة الفعلية
يعرف خبراء الاقتصاد أهمية الطاقة بالنسبة للدول الكبرى، كونه المحرك الاساس لمنظوماتها الانتاجية، لذلك تنظر الدول الكبرى الى النفط على انه عصب الحياة بالنسبة لها، وتعده من أهم المصالح الاقتصادية لها، لذلك فعلت ولاتزال كل شيء من اجل الحفاظ على هذه الطاقة وتأمين تدفقها بالاتفاق او اذا استوجب الامر بالقوة، والاستعمار والاحتيال وما الى ذلك من سبل تخطط لها كي تضمن النفط، ومن بينها تجعل الحكومات في الدول النفطية تابعة لها وتأتمر بأوامرها، إلا ما ندر، وعند ذاك يكون النظام الذي يغرد خارج السرب من ألد أعدائها.
ومع ذلك على الحكومات أن تهتم اولا بمصالح شعوبها وأن تخطط اقتصادها وفقا للحاجات الراهنة والمستقبلية، كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي بثول سماحته في الكتاب نفسه المذكور نفسه: (ينبغي أن تكون السياسة الصناعية قائمة على قاعدة حاجة الأمة في الحاضر والمستقبل، وليس حسب المخطط المرسوم من قبل الدول الكبرى والذي تسير على طبقه الدول المتخلفة، فلقد حوّل الاستعمار البلاد الإسلامية إلى مستعمرة تدرّ عليه الأموال الطائلة لسدّ حاجاتها لا سدّ حاجات الدول المتخلّفة).
وهذه السياسة الاقتصادية ينبغي ان ترتبط بصورة دقيقة بالحاجات الفعلية لهذه الصناعة او تلك، وأن يكون التخطيط الحاضر والمستقبلي هو البوصلة التي توجّه مسارات الاقتصاد حتى تكون اتجاهاته دقيقة وصحيحة وتصب في صالح الدولة والمجتمع، لذلك ينبغي ان ترتبط الصناعة بالحاجة الفعلية والمستقبلية المدروسة.
كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي قائلا: (إن ربط الصناعة بالحاجة هي أهم القضايا في استثمار عائدات النفط للأمور المستقبلية). كذلك ينبغي اعتماد سياسية التوازن في السياسة الاقتصادية للدولة، من خلال التنسيق بين المشاريع الانتاجية، وعدم الافراط في جانب والتفريط في جانب آخر، ضمانا للتوازن الاقتصادي حاضرا ومستقبلا، ويمكن أن يتحقق هذا الهدف من خلال التخطيط المستقبلي العلمي الدقيق.
يقول الامام الشيرازي حول هذا الجانب: (رعاية التنسيق والتوازن بين مختلف المعامل المحتاج إليها في البلاد الإسلامية كي لا يحدث إفراط وتضخم في جانب، وتفريط ونقص في جانب آخر).
اضف تعليق