ان معالجة القانون العشائري ليست بصعوبة معالجة القانون الغربي مما يسهل الأمر على المعنيين بأمر هذه المعالجة، كالمشرعين والمثقفين والشيوخ الحكماء وغيرهم ممن يتعلق بهم هذا الأمر، وسبب سهولة معالجة الجانب العشائري أنها تنطلق من معالجة داخلية يتصدى لها العلماء الأفاضل بإخلاص ويمكنهم النجاح في جهدهم...
منذ سنوات طويلة شخّص الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، الفجوة الكبيرة التي تفصل بين طبيعة حياة المسلمين وواقعهم من جهة، وبين القانون الغربي المستورَد بطريقة من جهة أخرى، ومن الواضح أن جهل المشرّع بطبيعة حياة الأمة أو المجتمع، سوف يدخله في نفق من الأخطاء لا يمكنه الخروج منه، لذلك تولّد نوع من الجفاء بين المسلمين وبين القانون الغربي الذي لم يستوعب طبيعة الحياة والثقافة والتقاليد والأعراف في المجتمع الإسلامي التي تختلف قطعا عن طبيعة وتقاليد المجتمع الغربي.
كذلك يؤدي الجهل بالقوانين إلى الظلم، بمعنى إذا كان الإنسان يجهل منطوق القانون وفحواه، فإنه سوف يتجاوز عليه من دون أن يعلم بهذا التجاوز لأنه لم يفهم معناه أو مضمونه مسبقا، كذلك من يحكم بالقانون سوف يرتكب الظلم لأن التشريع لم ينبع من طبيعة واحتياج المجتمع نفسه، وهذا سيقود بالنتيجة إلى تقسيم المجتمع قسمين، أحدهما ظالم والآخر مظلوم، وسبب ذلك بالطبع هو الجهل بهذه القوانين التي تمّ تصنيعها في بيئة غربية راعت فيها طبيعة المجتمع الغربي ولم تراعِ حيثيات ومجريات المجتمع الإسلامي.
يقول الإمام الشيرازي في كتابه القيّم الموسوم بـ (الفقه: القانون):
(إن الجهل بالقوانين يقود إلى الظلم، لذلك انقسم المجتمع بين ظالم ومظلوم (آكلٍ ومأكول).
كما أن الجهل بالشيء يجعل الإنسان كارها له، ولا يحترمه لأنه لا يفقه تفاصيله، ولا يعرف حيثياته، وأي شيء يجهله الإنسان يحترز منه ويتجنبه وأخيرا ينتهي به الأمر إلى عدم الالتزام به لأنه أصلا لا يحترمه، إن طبيعة القانون الغربي شيء، وطبيعة المجتمع الإسلامي شيء آخر، وهذا التناقض الواضح أدى بالنتيجة إلى نوع من الجفاء بين الطرفين، وهناك أمثلة واقعية قدمها الإمام الشيرازي في كتابه هذا، أثبتت هذا التناقض بين القانون الغربي وبين المجتمع الإسلامي.
كما نلاحظ ذلك في قول الإمام الشيرازي:
(بسبب الجهل بطبيعة الحياة عند المسلمين، فقد القانون احترامه، فطبيعة الناس شيء، والقانون شيء آخر، وبينما يرى القانون الإسلامي حرمة الرشوة والربا والجمرك والبغاء والضرائب، ويرى جواز تعدد الزوجة وكثرة النسل، سنّ الغرب بجواز الخمسة الأولى وحرمة الأخيرين).
المسلمون يعتمدون القانون الإسلامي بتنظيم حياتهم
وحين يلمس الإنسان تباينا بين طبيعته وبين القانون، فإنه سوف يخالفه قطعا، إذ ليس من المنطق بشيء أن ألتزم بقانون لم يصدر من مشرِّع يعيش معي ويفهم مشاكلي وتعقيدات حياتي لكي يتسنى له وضع الحلول الصحيحة عبر القوانين، لكن إذا كان بعيدا عني لا يعيش معي ولا يفهم طبيعة مجتمعي، فإنني لا أثق به كمشرّع، ولا ألتزم بما يسنّه من قوانين لا تتوافق مع احتياجاتي ولا تتفاعل مع مشكلاتي، هنا ستحدث جفوة بين الناس من جهة وبين القوانين المستورَدة من جهة أخرى.
يتأكد ذلك في قول الإمام الشيرازي:
(من المعلوم أن المسلمين لا يعتبرون غير الإسلام قانونا لهم، لذا تفشى بينهم مخالفة القانون الغربي علنا، هذا بالنسبة للقوانين المستورَدة).
ويوجد لدينا ما يمكن نسميه بالقانون العشائري، فهناك سنن وقوانين وعادات عشائرية تحاول أن تتحكم بحياة الناس، بالطبع يوجد منها ما هو سليم يساعد الناس على تنظيم حياتهم، ويسعى لحل مشاكلهم بالعدل والإنصاف، لكن هناك أيضا سنن وأعراف عشائرية لا تقل في خطئها عن القانون الغربي، كونها توغل في عدم الإنصاف ومجافاة الحق، هنا سوف يتحول القانون العشائري إلى خطر كبير يتهدد حياة الناس، ومع ذلك فإن الفارق في التعامل بين القانون الغربي والعشائري يبقى كبيرا من حيث التصدي والمعالجة.
فالقانون الغربي تم الترويج له بين أوساط المسلمين بوساطة مثقفين غربيين يعملون في المجتمعات الغربية نفسها، وأوجدوا الوسائط التي تساعدهم في ذلك، أما القانون العشائري فتقف وراءه جملة التقاليد والعادات التي تسعى لزرع الفردية والأنانية والاستئثار والاستعلاء، وحب الذات والغرور والتبجح، وهي صفات منبوذة ولا تناسب الشخصية الإسلامية المتوازنة.
يقول الإمام الشيرازي حول هذا الأمر:
(أما بالنسبة إلى قوانين العشائر، فالجهل فيها أوضح حيث كان وراء قوانين الغرب عددا من المثقفين الغربيين، بينما لم يكن وراء قوانين العشائر إلا حفنة من العادات ومجموعة من النزعات الفردية الداعية للأنانية والاستئثار وحب الظهور والاستعلاء).
كابوس القانون الغربي المستورّد
إن من أبرز الصفات التي تتخلل القانون الغربي، صفة اللف والدوران، وهذا يجعل منها تضاهي قوانين القرون المظلمة إن لم تفقْها في السوء، ومع وجود هذه العيوب الخطيرة، تمكن الفاعلون المريبون غربيون وغير غربيين من جعل قوانينهم تتسلل إلى البيئة القانونية في المجتمعات الإسلامية، وهذا ما جعل حياة المسلمين بعد تسلل القانون الغربي لحياتهم وطبيعتهم، أكثر تعقيدا، حيث شاعت الأساليب الملتوية التي لا يمكن التصدي لها أو معالجتها إلا عبر جهود مضنية تستلزم أموالا كبيرة وتستهلك أوقات وطاقات هائلة، وهذا ما زاد في الطين بلّة، وجعل حياة المسلمين ليست سهلة وهي مخترَقة بقوانين يمكن القول عنها أنها دخيلة كونها لا تناسب حياتهم وتفاصيلها الفرعية الكثيرة.
لذلك يقول الإمام الشيرازي:
لاحظنا وجود (اللف والدوران في قوانين الغرب بما لم يسبق له مثيل حتى في القرون الوسطى المظلمة، لذلك بعد وصول القوانين الغربية إلينا صار كل شيء صعبا وملتويا يستلزم استهلاك أموال وأوقات وطاقات).
وأدى ذلك بالنتيجة إلى أن يتحول القانون الغربي المستورَد إلى كابوس يكتم على أنفاس البلاد الإسلامية، ويصبح وبالا على المسلمين، وبهذا لابد من وجود آليات وخطوات متخصصة للتخلص من هذا الخلل القانوني الذي يجعل من خسائرنا بالغة الثمن، ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فالمطلوب أيضا التصدي للقانون العشائري في جانبه المظلم، فالاثنان القانون الغربي والقانون العشائري في جانبه المظلم، يؤديان إلى نفس النتائج، ويسهمان في نشر الظلم، لذلك يستوجب التخلص من الاثنين في خطوات علمية متخصصة.
الإمام الشيرازي نبّه إلى هذا الأمر بقوله:
(صار القانون الغربي المستورَد كابوسا على بلاد الإسلام، ووبالا على المسلمين مما يجب التخلص منه، كما يلزم التخلص من القانون العشائري أيضا).
ويرى الإمام الشيرازي أن معالجة القانون العشائري ليست بصعوبة معالجة القانون الغربي مما يسهل الأمر على المعنيين بأمر هذه المعالجة، كالمشرعين والمثقفين والشيوخ الحكماء وغيرهم ممن يتعلق بهم هذا الأمر، وسبب سهولة معالجة الجانب العشائري أنها تنطلق من معالجة داخلية يتصدى لها العلماء الأفاضل بإخلاص ويمكنهم النجاح في جهدهم هذا الجانب كونه يمثل انحرافا موضعيا (داخليا)، ولكن الصعوبة تكمن في معالجة ما هو خارجي، وهو ما يستوجب التخلّص من ذيول الاستعمار، وهو أمر ليس سهلا كما يعرف الجميع ولكنه ممكن من خلال تقدم الجهود الكبيرة والوقت الطويل مع استخدام الأساليب التي تبتعد بشكل كلّي عن العنف، أي يجب أن تتم المعالجة بالتثقيف والأساليب السلمية التي ترتكز إلى الإقناع والوعي المجتمعي.
يقول الإمام الشيرازي:
(لا يحتاج التخلص من القانون العشائري إلا إلى جهود مخلصة من العلماء لأنه انحراف موضعي، بينما يحتاج التخلص من القانون الغربي المستورَد إلى وعي متزايد في الأمة وتخلّص من ذيول الاستعمار، وهذا يستدعي جهودا كبيرة وجهادا طويلا بلا عنف ولا خرق).
اضف تعليق