إن ما أقدم عليه رمز الثائرين الحسين (ع)، من فعل ثوري خالد ضد يزيد المنحرف، وإن ما أعلنه من أهداف عظيمة من هذه الثورة الولود المعطاء، لم تقدّم الفائدة العظمى للمسلمين وحدهم، وإنما كانت الفائدة الثورية الفكرية المبدئية ذات طابع إنساني يشمل البشرية كلها...
كان العراقيون ولا يزالون على احتكاك مباشر مع وقائع ومجريات أضخم شعيرة إسلامية و (عالمية)، ألا وهي زيارة أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام)، فالعراقيون هم أقرب الناس إلى هذا الحدث الجلل الذي أرعب الطغاة على مر التاريخ، وهم الذين يتأهبون سنويا لمستلزمات هذا المحفل الديني السنوي، استعدادا لاستقبال الحشود المليونية للزوار الكرام من خارج وداخل العراق، وهذه المكانة الفريدة للعراقيين جعلت منهم هدفا مباشرا للبطش الدكتاتوري.
فالطغاة لا يقلقهم شيء أكثر من الحسين، ولا يرعبهم أمر أكثر فكره ومبادئه منذ أن أطاح بالطاغية يزيد وأمثاله من الأمويين، ولهذا كانت المناسبات الدينية في العراق، في كربلاء المقدسة، والنجف الأشرف، والكاظمية المقدسة، ومرقد العسكريين في سامراء، سببا كافية لإثارة الرعب في نفوس الطغاة وحكوماتهم، كونها تزلزل عروشهم القائمة على الظلم والبهتان، ولا ريب أن هذا هو السبب الأساس الذي دفع بالنظام الدكتاتوري البعثي كي يناصب شعيرة الأربعين وسواها من الشعائر العداء وإعلان الحرب عليها وعلى زوارها والقائمين بها.
فتم استحداث أبشع أساليب الإرعاب والتخويف والمنع والمطاردة والإقصاء مع كل من يعلن عن عزمه على إحياء شعيرة الأربعين، بوصفها الحدث الديني الأهم والمحفل البشري الأكبر إسلاميا وعالميا، إذ يستقطب الملايين من الزوار من أنحاء العالم كافة، وهذا الحدث يقترن بالفكر الحسيني الثائر على الظالمين، ويحفّز الناس على زعزعة أركان العروش المارقة، لهذا السبب فإن أول شاغل يشغل الحاكم الأرعن هو معاداة زوار الإمام الحسين عليه السلام، مع أنهم عزّلا إلا من إيمانهم وحبهم المصيري لسيد الشهداء.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه القيّم الموسوم بـ (قبس من شعاع الإمام الحسين ع): لقد (جاء الطغاة وعلى مر التاريخ ليمنعوا المراسيم المقدسة والشعائر الحسينية ومنها زيارة أربعين الإمام الحسين عليه السلام).
وأورد سماحته مثالا من أرض العراق وكربلاء المقدسة، حين تصدى النظام الصدامي لمئات الآلاف من المشاة ومنعهم من التوجّه إلى كربلاء الحسين، فأغلق أمامهم الشوارع الرئيسة، ولم يكتفِ زبانيته بهذا الإجراء، فتوزعوا حتى في البساتين التي تقود إلى مرقده الشريف، فكان الزوار يضطرون إلى اختراق الطرق الفرعية الخفية، والمزارع والبساتين، فمنهم من ينجح بالنفاذ من كمائن المارقين، ومنهم من يقع بين أيديهم غير مبال بما سيواجهه من عواقب تصل حد الإعدام.
يقول الإمام الشيرازي حول أساليب الطغاة البائسة ورعبهم واهتزاز عروشهم من زوار الحسين عليه السلام:
(لقد بدأ نظام البعث الصدامي في العراق، بمنع العزاء الحسيني في مدينة بغداد أولاً، ثم منع إقامة التعازي في كافة مدن العراق، ثم منع أهل البصرة وغيرها من مدن العراق من المجيء إلى كربلاء المقدسة في أيام المناسبات الدينية كالعاشر من المحرم وزيارة الأربعين في عشرين صفر).
ملتقى شتى الحضارات الشرقية والغربية
ومما يقدمه هذا المحفل الديني الكبير الفريد (زيارة الأربعين)، أنها تقرّب بين الأمم والشعوب، وتجعلهم وجها إلى وجه بكل ما يحملونه من أفكار وثقافات فكرية أو سلوكية، فيلتقي الشرقيون بالغربيين، وتتداخل الحضارات مع بعضها وتتلاقح في طقوس باهرة، تجمعها شعيرة إسلامية باهرة، وثائر أعظم هو الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام)، فيحدث التواصل العميق وتتوهج الأفكار التي تخدم البشرية في حضرة سيد الشهداء، وتغدو الأنفس مطهّرة نقيةً في أوج نقائها.
فالمعرفة وانتعاش الفكر يتناغم مع هذه الشعيرة الأربعينية الخالدة، والتواصل المعرفي يبلغ أوْجُهُ، وتصبح هذه الزيارة فرصة نادرة ومتميزة لتجمع بني البشرية جمعاء، حيث ملتقى الحضارات العالمية الشرقية والغربية بكل فروعها وصورها وخصوصياتها، تلتقي في كربلاء المقدسة، برعاية الإمام الحسين (عليه السلام)، فكيف والحال هذا أن يُصاب الطغاة بالرعب والخوف على عروشهم، وهم يرون بأم أعينهم ذلك الإقدام المليوني الذي يهدر صوته بلسان واحد (يا حسين)، بالطبع مثل هذه الأجواء العقائدية المتينة لا يمكن أن يتحملها الفاسدون من أرباب السلطة والقوة الغاشمة والأموال الحرام.
يقول الإمام الشيرازي في المصدر ذاته: (تعمل الزيارة الأربعينية على التلاقي الفكري والتواصل المعرفي بين شيعة العالم وغيرهم، وهي توفر فرصة لالتقاء شتى الحضارات الشرقية منها والغربية).
لهذه الأسباب ينظر الظالمين من حكام أو غيرهم إلى زيارة الأربعين على أنها مصدر خطر ماحق عليهم وعلى مصالحهم، لاسيما أنها تُنعش الأفكار النازعة إلى الحرية، وتُلهم العقول والقلوب بالنهضة الفكرية الحسينية وبجميع الأفكار الرافضة للظلم أيا كان مصدرها أو حجمها أو عنوانها، وتفتح السبل كافة إلى الوعي الذي يفهم ويفضح كل ما يحيكه الجبابرة من دسائس، لاستلاب الحقوق وتثبيت ركائز الظلم، متناغمين مع منهج يزيد في الفجور واللهو والانحراف، مع تعزيز السلطة ومضاعفة البطش والقمع بأبشع الأساليب.
لذا يؤكد الإمام الشيرازي على أن: (نهضة الإمام الحسين (عليه السلام)، جاءت لتفتح طريق الفكر والعمل على الإطاحة بكل الظالمين).
اجتثاث الشجرة الخبيثة
إن ما أقدم عليه رمز الثائرين وسيد شباب أهل الحنة الحسين (ع)، من فعل ثوري خالد ضد يزيد المنحرف، وإن ما أعلنه من أهداف عظيمة من هذه الثورة الولود المعطاء، لم تقدّم الفائدة العظمى للمسلمين وحدهم، باعتبار أن الثائر إسلامي الانتماء، وإنما كانت الفائدة الثورية الفكرية المبدئية ذات طابع إنساني يشمل البشرية كلها، ودليل هذا، أن الثائرين في العالم لدى الأمم والشعوب الأخرى، وجدوا في الإمام الحسين مثالا لهم، ونموذجا حيّا على مرّ الأزمنة، وأيقونة ثورية جمعت في رمزيتها مبدئية الرفض الإنساني الخالد للظلم والظالمين.
والدليل الآخر أن اجتثاث الشجرة الخبيثة ليزيد الأموي، اجتثاثا كاملا من على وجه الأرض، لم يكن هو الهدف الأخير لثورة الإمام الحسين، على الرغم من أهميته وحتميته، لكن الامتداد المنهجي للفكر الحسيني وقف إلى جانب البشرية وكل الشعوب المبتلاة بالطواغيت، فحفّزهم ذلك على قلع عروش الطواغيت من عروشهم وإلقائهم في مزابل التاريخ.
كما أكد ذلك الإمام الشيرازي في قوله الدقيق:
(لم يكن فضح الأمويين واجتثاث شجرتهم الخبيثة من فوق الأرض تجديداً لحياة الإسلام والمسلمين فحسب، بل كان فيه أعظم خدمة للبشرية جمعاء).
لهذا السبب وثمة أسباب كثيرة قد يصعب حصرها، تعلمّ ثوّار الإنسانية من سيد الشهداء الحسين (عليه السلام)، أبجدية الثورات، من خلال النهضة التي أحدثتها معركة الطف، وحيثياتها التي أعطت أعظم الدروس للإنسان في كيفية إلحاق الهزيمة بالقوى السلطوية الشريرة، وهزّ عروشهم، وإدخال الرعب في قلوبهم، ومن ثم القضاء الناجز عليهم، بفعل التأثير المباشر وغير المباشر للفكر الحسيني ومبادئه المحفزّة وما تمنحه من دوافع خلاقة، تدفع تضاعف من القوى الكامنة في نفوس الثائرين ضد الظلام والظالمين.
وإضافة إلى قلع الطغاة وتفكيك عروشهم وطبعها بالضعف والوهن والخواء، هناك عامل كشف زيف هذه السلطويات البائسة المنخورة في دواخلها وأعماقها، إذ سرعان ما تتهاوي وتسقط وتتلاشى كنمور ورقية تحرق نفسها بنفسها، ما أن يتحرك عليهم الثائرون المكتنزون بمبادئ الفكر الحسيني الرافض للظلم والطغيان.
لهذا يقول الإمام الشيرازي:
(لقد تعلمت البشرية من الإمام الحسين (عليه السلام) عبر نهضته المباركة كيف تثور ضد الظلم والظالمين وتكشف زيفهم وتجتث أصولهم في كل عصر وزمان).
اضف تعليق