نجحت الأمم وعَظُمَتْ الدول حينما تمكنت من قراءة المستقبل بصورة مقاربة من النتائج الفعلية التي يضمها أو يخفيها الزمن المجهول، فمن يعرف مستقبله بصورة شبه مؤكَّدة أو مقاربة للنتائج أو الوقائع التي سوف تحدث لاحقا، لابد أن يكون ملزما بخطوة أخرى تتبع هذه المعرفة المستقبلية...
نجحت الأمم وعَظُمَتْ الدول حينما تمكنت من قراءة المستقبل بصورة مقاربة من النتائج الفعلية التي يضمها أو يخفيها الزمن المجهول، فمن يعرف مستقبله بصورة شبه مؤكَّدة أو مقاربة للنتائج أو الوقائع التي سوف تحدث لاحقا، لابد أن يكون ملزما بخطوة أخرى تتبع هذه المعرفة المستقبلية، وهذه الخطوة الثانية هي التخطيط، أي أن المعرفة وحدها ليست كافية، وما سيجعل من معرفة المستقبل وأحداثه اللاحقة مجدية ومفيدة هي عملية التخطيط السديد.
ولعل هذا التناسق الدقيق بين المعرفة والتخطيط، هو الضامن الأوفر حظا لسير الدولة والمجتمع في الاتجاه الصحيح، فالأمة التي تعرف ولا تخطط، لا تختلف كثيرا عن الأمة التي تخطط بلا معرفة، إذ ما فائدة أن تجهد العقول في التخطيط وأنت لا تعرف شيئا عن المستقبل، في هذه الحالة سوف تكون النتائج صفراً على الشمال، وكذا الأمر حين تكون هناك معرفة جيدة بالمستقبل، وتنتفي عملية التخطيط الأجود، هنا أيضا لن يكون هناك أية فائدة تذكر لهذه المعرفة، أما الصحيح فهو المعرفة المتبوعة بالتخطيط.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (فقه المستقبل):
(إن معرفة المستقبل أمر واجب جملة وتفصيلا، والتخطيط له واجب آخر، وهذه تعد أول خطوة في هذا الاتجاه).
إذاً ثمة علاقة جدلية بين المعرفة والتخطيط، وإذا انتفى أحد طرفي هذه العلاقة، تلاشى قدرات الطرف الآخر أو اضمحلت، من هنا توجب صناعة المستقبل معرفة الأجزاء والتفاصيل المستقبلية بحذافيرها، ولا ينبغي إهمال جزء من جزئيات المستقبل في أي حال، ذلك أن هذه المعرفة هي البوصلة التي ترسم الاتجاه الصحيح للتخطيط، أما ضآلة أو اضمحلال المعرفة المستقبلية، فإنها ستنتهي بالتخطيط إلى حالة التصفير وانعدام الجدوى، كمن يشتري سمكاً في الماء، أي أنك حين تكون عاجزا عن فهم خفيا وخبايا المستقبل، من المحال أن تخطط له بما يضمن لك قطف الثمار المرتجاة، لهذا يشترط المنطق ربطاً وثيقا بين المعرفة والتخطيط ومع أن هذا الاستنتاج من الأمور البديهية، إلا أن هناك من يصر على الفصل بينهما، فيخطط بلا معرفة، أو يعرف ولكن بلا تخطيط.
يقول الإمام الشيرازي في فحوى هذا الاستنتاج: (يجب معرفة المستقبل بكل أبعاده وأجزائه وجزئياته، فبدون المعرفة لا يستطيع الإنسان أن يحسن التخطيط للمستقبل، وبدون حسن التخطيط لا يملك الإنسان حلولاً له، وربّما أوجب المستقبل سقوطه).
التنبؤ يضاعف من الحيطة والحذر
حتى على مستوى الأفراد لن تكون المعادلة في أعلاه قاصرة أو غير مؤكَّدة النتائج، فالفرد الذي يجهل المستقبل، لابد أنه سيدخل في متاهات كثيرة وخطيرة، لأنه لا يعرف أين يضع قدمه، وأين هو الموطئ الصحيح لها، أما ذلك الذي يتسلّح بالقدرة على التنبؤ الصحيح، فإنه سوف يتحاشى السقوط أو السير في الأماكن الخطيرة، وهذا بالطبع تشبيه مجازي، يعني فيما يعنيه أن الإنسان العارف غير الجاهل، والعارف هو وحده من سيكون أكثرا حيطة وحرا ممن لا يعرف مستقبله، وهذا النوع من البشر سوف يكون في قلب الكارثة، وسيخسر كل شيء في مسيرة الزمن التي تضج باحتمالات الوقوع في الخطر.
لهذا نجد أن الجاهلين هم الأكثر تضررا من الكوارث المستقبلية، على العكس بالعارفين بما سيحدث من أحداث وإن كانت مغيّبة في بطون القادم من الأزمنة، وانطلاقا من ذلك نجد أن الأفراد والأمم على حد سواء، قد يربحون أو يخسرون تبعا لضبط الإيقاع الجدلي بين (المعرفة/ المستقبل)، ومن الأمثلة على ذلك بخصوص العراق أن الجيل الحالي الذي يعيش في بحبوحة ثروات النفط لا يفكر بالأجيال القادمة، ولأنه يجهل مستقبلهم عمدا أو جهلا وإهمالا، فإن التخطيط المستقبلي لحفظ الثروات وحفظ حقوق الأجيال القادمة يكاد يكون معدوما، فالعلاقة الجدلية بين معرفة المستقبل والتخطيط له لا تعني الأمم وحدها، بل تعني الأفراد أيضا.
يقول الإمام الشيرازي حول هذا الموضوع:
إن (الإنسان الذي يتنبأ بأوضاعه الاقتصادية في المستقبل، سوف يأخذ الحيطة والحذر في ذلك، وإلاّ فإنّ كارثة مّا ستحلّ عليه، ويخسر كلّ شيء في صفقة الزمن المملوء بالاحتمالات).
ويقدم لنا الإمام الشيرازي مثالا عمّا ورد في أعلاه، وقد استشرف وتنبّأ سماحته هذا المثال وأسبابه ونتائجه في العراق، قبل عشرات السنوات، وهذا المثال يتعلق بشحة المياه التي عصفت بالعراق في هذه المرحلة، وما حدث في البصرة في الزمن الحالي من شحة مياه وعدم التخطيط لها نتيجة عدم الاهتمام بالمستقبل أو جهله، هو المثال الحي عما حذر منه الإمام الشيرازي قبل عشرات السنين، كما سنلاحظ ذلك في قوله (قدّس سره):
(إن الأمم التي لا تتمكن من التنبؤ بمستقبل شِحة المياه، فإنّها ستعاني من الجفاف وقلة الزرع وكثرة الأمراض، وربما الحروب الناتجة عن ذلك، بينما من تنبَّأ بالمستقبل فإنه يستعد لذلك الخَطر، ويقوم بتخزين المياه، وترشيد صرفها).
أفضلية التطلّع إلى القادم
لهذا سنجد أن الأمم والشعوب الناجحة هي تلك التي تتطلع إلى مستقبل أفضل وتبحث في تفاصيله ودقائقه، عبر إعمال الكفاءات وتشغليها واستثمار خبراتها، فالأمم الناجحة هي تلك التي تجهد نفسها وتشحذ قدراتها كاملةً من أجل تفكيك مجهولية ما سيحدث في القادم من الأزمنة، وتجهز كل الاشتراطات المطلوبة لتحقيق هذه المعرفة، ولن تكتفي عند هذا الحد، إذ أنها تحرص أشد الحرص على إتْباع معرفة ما يضمره المستقبل من أسرار ومفاجآت بسلسلة متعاظمة من عمليات التخطيط الدقيقة، التي تنشأ على جدلية العلاقة مع المعرفة المستقبلية.
لهذا نلاحظ أن الفرد أو المجتمع الذي يتطلع إلى المستقبل فإنه سيكون في حالة سباق دائم مع الزمن، كما أنه لن يتعرض لمفاجأة غير محسوبة لسبب معروف، أن التخطيط السليم وضع في الحسبان كل المفاجآت التي قد تحدث، بل حتى لو ظهرت إلى السطح مفاجأة عصيبة، فإن الاستعداد العلمي المستقبلي المسبق، سيكون كفيلا بامتصاص كل التداعيات على تترتب على مثل تلك المفاجآت.
من هنا يرى الإمام الشيرازي:
(إنّ الذي يعي المستقبل ويخطط له في راحة، حتى لو حلّت الكارثة؛ لأنه قد تدبّر لكل أمرٍ أمراً، ووضع لكل احتمالٍ حلاً. فهو متطلع دائماً للزمن القادم، ممّا سيجعله في سباق مع الزمن وفي تقدم مستمر).
وعلى العكس من المتطلعين إلى المستقبل، سيكون المنعزلون هم حطب المحرقة المستقبلية، لسبب وجيه، أنهم لم يفكروا للقادم، لأنهم جهلوه، أو أهملوه، وفي الحالتين لن يكون بمقدورهم مجاراة أولئك المتطلعين إلى المستقبل، العارفين به، والمخططين له، لهذا فإن التجارب السابقة وحتى الحالية، أكّدت بأن الإنسان المنعزل البعيد عن الأحداث، النائم في قمقمه، سيكون أو لقمة سائغة تلتهمها نيران المستقبل، وينطبق هذا بنحوٍ كبير على المجتمعات والأمم، فالأمة العاكفة عن دراسة القادم، النائمة في مطامير الراهن، الخافضة لرؤوسها عن رؤية المستقبل، فإنها ستصبح المحرقة المناسبة للزمن الذي لا يؤتَمن، وهذا ما ينبغي أن يحسب حسابه العراقيون اليوم ونعني صناع القرار وحتى الأفراد، إذ عليهم رؤية المستقبل بعيون علمية فاحصة، تجنبهم خطر الانكماش والإنزياح من على وجه البسيطة.
لهذا يقول الإمام الشيرازي:
(أما أولئك الصنف من الناس الذين فرضوا على أنفسهم العزلة عن التفكير بالمستقبل، فإنهم عادة ما سيصبحون مَحرَقَةً للأحداث القادمة).
اضف تعليق