يستطرد الإمام في عرض سمات المجتمع المتصاعد ذي الأُسس، ويقصد به المجتمع المتحرك نحو الكمال بأقدام ثابتة هو الذي ينطلق من فلسفة صحيحة، كالتعاون، والعلم، والفضيلة، والتقوى، وحب الناس، والإنسانية، وابتغاء الخير، والحرية، ونحوها... وأخذ يعمل بتؤَدة واتزان ومثابرة، ومثل هذا المجتمع سيبقى ينمو ويزدهر ويتوسع...
يطرح علماءُ الاجتماع وعلماءُ النفس الإجتماعي والمهتمون بدراسة التاريخ الإجتماعي آراءً وأفكاراً، وربما صاغوا نظريات محكمة في البناء الإجتماعي، لذا فإنهم يطرحون هذه الأفكار حول الطبيعة الإنسانية ومدى تآلفها لا سيما أنها تتسم بالمرونة، ويؤكد أحد علماء الإجتماع بقوله: يمكن صبها في أشكال مختلفة، ولكن في نفس الوقت هناك بعض الحدود، فتكونت إزاء ذلك مدرستان أو بالأحرى اتجاهان، الأول سموا أنفسهم بالواقعيين (كما يحبون أن يدعوا أنفسهم) والثاني النسبيين (كما لقبوا)، ويطرح الإمام محمد الحسيني الشيرازي رؤيته في البناء الاجتماعي بقوله: المؤسسات الإجتماعية عبارة، عن جماعة من الناس يبنون العمل المنظم، لأجل هدف خاص، سواء كان الهدف الهدم أو البناء، لكن كل هدف هدمي لا بد وأن يتطلع إلى هدف بنائي وراء ذلك الهدم، وعلم الإجتماع قد ينظر إلى المؤسسات بصورة عامة، وهذا هو الأهم، وقد ينظر إلى بعض المؤسسات أو إلى عمل عام من نوع واحد لكل المؤسسات، مثل أن ينظر في ارتباط الدولة مع المؤسسات وهذا هدف خاص، وليست له من الأهمية ما للقسم الأول(1).
ويطرح الإمام الشيرازي رأيه حول توسع المجتمعات الذي يحتم زيادة الحاجة إلى المؤسسات بقوله: إن الإحتياج إلى المؤسسات يزداد، كلما توسع الإجتماع، أو تقدم، وذلك لأن العلاقات في الإجتماع الموسع، ولو كان بدائياً، تزداد ومع ازديادها وتتشابك، فإن علاقة إنسانين (اثنين) بينما علاقة ثلاثة وستة وهكذا، كلما زادت العلاقة كلما زادت المعضلات، مما يحتاج إلى حلول كثيرة(2)، ويتناول علماء الاجتماع والعاملون في المجال الإجتماعي - النفسي إزاء ذلك فكرة التسهيل الإجتماعي Social Facilitation والتي تعني تدعيم سلوك الأفراد باستخدام الإندماج والمشاركة في عملية التفاعل الإجتماعي، وذلك كنتيجة لمجموعة من المثيرات الإجتماعية العارضة غير المقصودة، أي التي تنتج من مجرد وجود الفرد داخل الجماعة، فالوجود داخل الجماعة يسهل في حد ذاته عملية التعلم، غير أن هناك آراء أخرى تحبذ وجود تعزيز قسري كالتشجيع والتحفيز الاجتماعي، بل والتهديد الإجتماعي أحياناً، والمناقشة باعتبارها عملية اجتماعية تساعد على حركة التفاعل الإجتماعي وتيسره، وكذلك يعتمد التسهيل الإجتماعي على نوع القيم السائدة وتوافر الواقعية الإجتماعية (3).
ويناقش الإمام الشيرازي العلاقة بين المؤسسات، من جانب، والعلاقة بين الأفراد من جانب آخر، وكذلك العلاقة بين المؤسسات والأفراد، بقوله: أن الحياة مرتبطة بعضها ببعض، كذلك يكون حال المؤسسات أما ارتباط الحياة، فَلِما نشاهد من أن رعي الحيوان مرتبط بالنبات، والنبات بالمطر والمطر بالريح، وهكذا، وأما إرتباط المؤسسات، فاللازم أنه يقال أنه على قسمين:
1- إرتباط المؤسسات بعضها ببعض.
2- إرتباط الإجتماع بالمؤسسات.
واللازم على عالم الإجتماع، أن يكشف نوعية هذين الإرتباطين وعلّل قوة وضعف الإرتباط، وفائدة الإرتباط قوياً أو ضعيفاً، وضرر الإنفصام في الإرتباط. فإذا لوحظت المؤسستان:
1- فإما تكون بينهما صداقة مع تعاون.
2- أو صداقة مع حياد.
3- أو عداوة.
ثم إما أن تؤثر أحدهما في الأُخرى:
1- تأثيراً متقابلاً.
2- أو بالإختلاف.
3- أو لا تؤثر.
وقد تكون احداهما متوقفة على الأخرى، لا العكس.. وقد لا ترتبط مؤسسة بأخرى.
وفي الإجتماع كلما كانت المؤسسات أكثر، كان أنفع للإجتماع لكن بشرط أن لا تسبب الكثرة ضياع الإنتاج، ولا أن تسبب إمكانية الإلتواء(4). ويطرح علماء الإجتماع آراؤهم التي تتفق في بعض جوانبها مع رؤية الإمام الشيرازي بقولهم: مازلنا نرى أن العلاقات الإجتماعية (بمعنى طرق الإرتباط بالغير) والتصورات حول الطبيعة البشرية، حسب قانون التوافق لا يمكن أن تخلط ثم تتوافق، فرؤى الطبيعة البشرية ترتبط بالعلاقات الإجتماعية بشكل لا انفصام فيه، وقولهم أيضاً: يمكن أن نتوقع أن أي تغير في طريقة إدراك المرء للطبيعة البشرية سيكون مصحوباً بتغير في نمط العلاقات الإجتماعية الذي يبرره المرء لنفسه وللآخرين، وبنفس القول، فأي تغير في العلاقات الاجتماعية للفرد أو المؤسسة سوف يغير تصوره لماهية الطبيعة البشرية(5).
ويناقش الإمام الشيرازي المجتمعات بقوله:
ينقسم الإجتماع إلى أربعة أقسام:
1- المجتمع الجامد.
2- المتحرك نحو النقص والانحراف.
3- المتحرك نحو الكمال بإقدام ثابتة.
4- المتحرك نحو الكمال بدون أسس ثابتة.
فالمجتمع الجامد هو الذي يقف في مكانه بدون تجديد في فكر أو صنعة، وهذا إنما يمكن إذا كان المجتمع في محيط طبيعي وجغرافي خاص بعيداً عن المجتمعات البشرية والغزاة، وكان مجتمعاً قليل الأفراد لأنه إذا توفر فيه أحد الشرطين:
أ) إذا كان قريباً إلى المجتمعات البشرية، فلم يكن محاطاً بالجبال ونحوها مما يقطعه عن الناس، أو كان في السهل، ولكن كان بعيداً عن المجتمعات البشرية لكونه في جزيرة، أو في القطب، أو نحو ذلك..كان لا بد من احتكاكه بسائر أفراد البشر مما يوجب خروجه عن الجمود.
ب) إذا كان مجتمعاً كثير الأفراد، فإن مثل هذا المجتمع لا بد وأن يظهر فيه المفكرون والنوابغ، ولسعة المجتمع يكون ضبط الجامدين له صعباً، فتظهر فيه الأفكار الجديدة، وتبعاً لذلك تظهر فيه الصنائع الجديدة ولا يبقى مجتمعاً جامداً. عليه فإن المجتمع الصغير المنقطع هو الذي يبقى جامداً لأنه لا تظهر فيه الأفكار الجديدة لقلة أفراده وانقطاعه، ولو ظهرت خنقت قوة المسيطرين عليه.
ويعرف الإمام الشيرازي سمات المجتمع المتسافل بقوله: هو المجتمع المتحرك نحو النقص، المراد به المتحرك في الصنعة ونحوها، إلا أن الفلسفة التي ينطلق منها المجتمع فلسفة التردي، كما إذا كان منطلقاً عن فلسفة قومية أو وطنية أو اقتصادية أو جنسية أو وجودية أو دكتاتورية، أو ما أشبه.
ويستطرد الإمام في عرض سمات المجتمع المتصاعد ذي الأُسس، ويقصد به المجتمع المتحرك نحو الكمال بأقدام ثابتة هو الذي ينطلق من فلسفة صحيحة، كالتعاون، والعلم، والفضيلة، والتقوى، وحب الناس، والإنسانية، وابتغاء الخير، والحرية، ونحوها... وأخذ يعمل بتؤَدة واتزان ومثابرة، ومثل هذا المجتمع سيبقى ينمو ويزدهر ويتوسع إلى ما شاء الله.
أما المجتمع المتصاعد بلا أسس له فيطرح الإمام الشيرازي رؤيته عنه بقوله: المجتمع المتحرك نحو الكمال بدون أسس ثابتة، هو الذي ينطلق من فلسفة صحيحة بالنسبة إلى السمو والإنسانية، ولكن لا يرعى سلسلة المراتب، والعمل بتؤدة ومثابرة، ومثل هذا المجتمع خليق بالسقوط أيضاً لأن العمل إذا لم يكن عن إتقان لم يبق راسخاً، بل ينهار بعد مدة من الزمن(6).
ويطرح (سعد الدين إبراهيم) من مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية في كتابه الشهير (الملل والنمل والأعراق) حول موضوع التباين الإجتماعي بقوله: كل مجتمع بشري ينطوي على أنواع ودرجات متفاوتة من التباين الإجتماعي.. أبسط أنواع هذا التباين هو انقسام أفراد المجتمع إلى ذكور وإناث والى أطفال وشباب وكهول ومسنين، وأصل هذا النوع البسيط من التباين هو العامل البيولوجي، ولكن المجتمع يضفي على هذا التنوع البيولوجي -جنسياً وعمرياً- معاني رمزية، ويرتب عليه حقوقاً وواجبات اجتماعية، ومن ثم يحوله من تنوع بيولوجي في الأصل إلى تباين اجتماعي في النهاية، ويتجسم هذا في شكل أدوار اجتماعية و من تقسيم للعمل.
ومع تطور المجتمع يزداد التباين الإجتماعي تعقيداً فتتبلور أدوار اجتماعية جديدة، ويتفرّعُ تقسيم العمل ويظهر التخصص، وتتفاوت الإنجازات وحظوظ الأفراد من القوة والثروة والمكانة، وبعد أن يكون التضامن والتماسك الإجتماعي قائماً على التشابه أساساً في المجتمعات البسيطة، نجد أن مثل هذا التماسك يقوم على زيادة التباين والتشابك في المجتمعات الأكثر تطوراً، أي أن الإجتماع البشري يمضي في التجانس شبه الكامل إلى فريد من التنوع العضوي الذي تتخلق فيه مؤسسات وقيم ومعايير وتكوينات اجتماعية إضافية، وبزيادة التنوع العضوي تزداد العلاقات كثافة وتعقيداً، ليس فقط بين الأفراد، بل أيضاً بين الفئات والتكوينات الإجتماعية المختلفة، وقد يحكم هذه التكوينات الإجتماعية في علاقاتها ببعضها البعض تفاوتاً في القوة والثروة والمكانة، بحيث تتبلور هذه التكوينات إلى ما يمكن أن نسميه بالطبقات الإجتماعية(7).
ويطرح الإمام الشيرازي فكرة التآلف والتباعد بين أفراد المجتمع الواحد بقوله: من الناس من فطر على الألفة فتراه يألف الحيوان والجماد، فكيف بالإنسان! ومنهم من جُبل على الهجرة، فهو كالصخرة الصماء لا تلصق بشيء، وإن ألصقت فسرعان ما هاجرت وابتعدت، وإذا نظرنا إلى مجتمع الإنسان رأيناه أحوج ما يكون إلى الألفة.
إن الجماد يتمكن أن يحافظ على كيانه وحده فالحصاة لا تحتاج إلى حصاة أخرى، والنبات يتمكن أن ينبت وحده في الصحراء ويبقى على ربّه؟؟ وبهجته إلى ان يصير هشيماً، والحيوان إذا سرح في واحة، أخذ ما يكفيه من النبات ولو ترك في صحراء تحرى جهده، حتى يصل إلى ماء وكلأ فيعيش حتى يخترمه الموت.
أما الإنسان فهل يمكن أن يعيش بلا لباس؟ أو هل يمكن أن يبقى بلا قوت؟ أو هل يمكن أن يظل بغير مسكن؟ وهكذا قل: في دواءه إذا مرض، وسفره براً وبحراً إذا احتاج، فالإنسان محتاج إلى الألفة من قرنه إلى قدمه ومن مهده إلى لحده (8).
وبنفس الأفكار يناقش (كاريذرس) عالم النفس الإجتماعي الروح الإجتماعية بقوله: إن الحديث عن الروح الإجتماعية، أشبه بحالة الذاتية المشتركة بمعنى النزوع الفطري لدى البشر للتعاهد المتبادل والنزوع للإستجابة المتبادلة، وإن بعض هذا النزوع الفطري عرفاني أو فكري، وبعضه وجداني، ولكن الطبيعة البشرية والشخصية البشرية لا توجدان على أي حال، إلا داخل ومن خلال العلاقات بين الناس، وبعضهم البعض.
وهكذا فإن البشر منذ طفولتهم الأولى لديهم توجه إزاء البشر الآخرين باعتبارهم القسمة الأهم المميزة للبيئة، ويدل هذا بالضرورة، من منظور تطوري، على تحول وجداني ومعرفي ونزوعي، وعلى اعتمادية متزايدة من الطفل على أبناء نوعه والإنفتاح تجاههم والضعف إزاءهم.
إن البشر بعضهم لبعض عون وفائدة، وقدراتهم لا تنمو وتتحول إلا بفضل الآخرين وفي إطار وضع اجتماعي، حقاً إن قدرات الروح الإجتماعية قد تكون متوافرة لدى الأفراد، بيد أنها لا تكتمل إلا فيما بينهم (9).
ويناقش السيد الشيرازي فكرة التجديد في المؤسسات الإجتماعية بأنواعها، وكذلك تجديد البنية الإجتماعية للإجتماع ويعيب على المجتمع الراكد بقوله: إنه في المجتمع الراكد يركد كل شيء، ويسير الزمان بتؤدة وبطئ وتخلو الحياة عن التجدد، ويكون كل فكر جديد وحركة جديدة موضع الأعراض والازدراء والإستهزاء، وإن لم ينفع الأعراض في ردع من أتى بتلك الفكرة، وتلك الصنعة، حكم المجتمع عليه بالسجن والقتل ونحوها، وبينما المجتمع المتحرك المتصاعد يجعل للتقدم جوائز، سواء من اكتشف فكراً جديداً أو صنعة جديدة، يقف المجتمع الساكن ضد أولئك بالتكفير والتشهير والعقوبات الجسدية وما إلى ذلك(10).
المجتمع بين التحطم والبناء:
لقد أكد الإمام الشيرازي فكرة وجود تحطم المجتمع وارجع أسبابها إلى:
1- المشكلات التي تنبع من خارج الإجتماع، مثل غزو الأعداء، والسيل والبركان، والزلزلة، والجفاف، بسبب قلة الأمطار، أو إن يصبح المحل مستنقعاً أو ما أشبه ذلك، فإن الإجتماع مهما كان رصيناً ومتعاوناً لا يتمكن أن يقاوم مع وجود هذه العوامل.
2- المشكلات التي تنبع من داخل الإجتماع، كما إذا وقعت بين المجتمع فرقة كبيرة سببت التنازع والمشكلات الدائمة له، فإن الإنسان إنما يفتش عن الأمن والراحة والإحترام والحرية.
أما إذا بُني الإجتماع بدون مقومات، لأمر طارئ، لم يمضي زمان إلا ويتحطم ذلك الإجتماع، بخلاف إذا ما بني الإجتماع -ولو لأمر طارئ- لكن كانت له مقومات البقاء، ومقومات البقاء، أما أمر معنوي، أو أمر مادي (11).
عليه فإن الإمام الشيرازي يعتقد اعتقاداً راسخاً بأن العلم والدين الصحيح كفيلان بإسعاد المجتمع، أحدهما من الناحية الروحية، والآخر من الناحية المادية (12)، ويورد علماء الإجتماع مسّلمة أساسية عن المجتمع مفادها: أنه لكي يستمر نمط الحياة يجب أن يغرس قيماً ومعتقدات بين أنصاره، والقابلية للنماء تتطلب من كل نموذج اجتماعي أن يعلّم أنصاره، من بين أشياء أخرى، أن يغلقوا مدركاتهم أمام بعض الأخطار وينتبهوا لأخرى. ان يلقوا باللوم على البعض لأعمالهم ويغفروا لآخرين، إن يقبلوا مفاهيم معينة حول الطبيعة المادية والبشرية ويرفضوا أخرى، ولكن إذا كانت التفضيلات والمدركات تبنى إجتماعياً بطريقة معينة لتبرير أنماط معينة من العلاقات الإجتماعية، فكيف يحدث التغيّر إن حدث؟ ولو كانت أنماط الحياة تحمي نفسها بنفسها، من خلال إرشاد الناس لما يقيّمون ولما يتجاهلون ويلاحظون وما يجتنبونه ويعتقدون به، فكيف يتأتى بحال أن تفقد أنماط الحياة (أو تكسب) الأنصار؟ (13).
ويطرح الإمام الشيرازي إزاء ذلك موضوعة الانضمام إلى المجتمع بقوله: إن الإنسان الذي ينضم إلى الإجتماع يوفر لنفسه ثلاثة أمور:
الأول: خروجه عن الوحدة التي يحس بها في باطنه، فإن الإنسان يحس في باطنه بالوحدة والإنفراد في هذا الكون الرحب، فإذا انضم إلى غيره خفت حدة هذا الإحساس.
الثاني: تكون أعماله حينئذ موجهة في وجهة خاصة، وضمن الإطار الإجتماعي الذي قبله الجميع قانوناً، وتخرج أعمالهُ حينئذ عن كونها فرطاً وفي هذا أيضاً رغبة إنسانية إذ يميل الإنسان بفطرته إلى النظام في قبال الإنفراط والإنفصام.
الثالث: يحصل على التعاون المحتاج إليه في تعليمه وتعلمه وصحته ومرضه وزواجه ومسكنه ومأكله ومشربه ومركبه، وغير ذلك من حاجات الإنسان الكثيرة.
ويورد الإمام الشيرازي آثاراً لإنضمام إلى المجتمع بقوله: ثم إنه إذا تم الإنضمام إلى الجماعة حصل أمران:
أولهما: تقوية الإنسان باطناً حيث يرى الإنسان أنه في داخل كل إنسان كما يجد كل أفراد الإنسان في داخله، وهذا ما يسمى بـ (المشاركة الوجدانية) فكأنهما انسانان في جسد واحد أو كأن الإجتماع بكله إنسان واحد وهذا غير (الوحدة الإعتبارية) التي تحصل خارجاً من الإنضمام وإنما هي (وحدة باطنية)، بهذه الحقيقة فالإنسان وحدةٌ واحدة فمن أحياها أحيا هذه الوحدة، ومن قتلها قتل هذه الوحدة، ولا يحتاج الأمر إلى قتل الجميع أو إحياء الجميع، وعلى أي حال، ففي هذا الإنضمام تقوية الإنسان حيث يجد كل إنسان أن الكل في باطنه وأنه في باطن الكل.
ثانيهما: يسبب هذا الإنضمام تضعيف الإنسان حيث أن فرديته واستقلاله تقل وتضعف فليس الفرد المنفرط كالفرد المنضم إلى غيره في الإستقلال، فإن الفرد المنفرط كامل الإستقلال في ما يعمل ويأكل، ويتصرف، أما الفرد المنضم فإن كل شيء منه مفيد(14).
ويضيف الإمام الشيرازي مؤكداً على الفطرة الخلاقة بين الهدم والبناء بقوله: إن الإنسان إذا لم يصرف فطرته الخلاقة في البناء، لا بد وأن يصرف فطرته في الهدم، سواء في هدم نفسه أو هدم مجتمعه، فإن أفراد الإنسان والحيوان والنبات كلها خلاقة، النبات يخلق الأوراق والأزهار والأثمار والأغصان وما أشبه، فخلاقية الإنسان خلاقية واعية، بينما خلاقية الحيوان والنبات غريزية(15).
وهكذا تستمر جدلية البناء الإجتماعي للإجتماع وللأفراد وللجماعة في سياق الفطرة الخلاقة للإنسان والبيئة المهيأة لتكوين أنماط العلاقات الناجمة، خاصة إذا توفرت إرادة التأصيل في البناء الإجتماعي.
تكوين الجماعات:
يطرح الإمام الشيرازي عوامل أساسية لتكوين الجماعات وتشكيلها ويحددها في ثلاثة أمور وهي:
1- لأجل الإحتياج الذاتي، إما حاجة دينية أو حاجة دنيوية، مادية، أو غير مادية.
2-لأجل قضاء حاجة الإجتماع، مثل الجماعات الخيرية الإجتماعية.
3- لأجل الضغط الإجتماعي، مما ليس سببه القريب الإحتياج الذاتي أو الغيري -وإن كان ينتهي بالآخرة إلى أحد الأمرين السابقين- (16).
ويطرح بعض علماء الإجتماع رأياً حول تكوين الجماعات مفاده: أن البشر ينتظمون على هيئة سرب طيور إلى حد كبير، هذا الفهم للحياة البشرية يوحي إلى أن تكوين الجماعات وتشكّلها يعتمد على أساس:
1- كلي الحدوث وداخلي
2- ضروري للاستقرار
3- ليس أحادي الخط ولا الإتجاه (17).
أما (برونونيبرنير) فقد قدم نظرية للعوامل المؤثرة على سلوك الفرد في شكل مستويات ودورها في تشكيل بنائه القيمي، وقد صور ذلك في شكل مجموعة من الدوائر أو الحلقات تحتوي الكبرى منها الدائرة الصغرى، وكان أصغر تلك الدوائر دائرة مكونات شخصية الفرد التي تحتويها دائرة الأُسرة، ثم تأتي دائرة أكبر وهي دائرة الحي والمدرسة والأصدقاء، ثم دائرة المجتمع، وأخيراً دائرة الثقافة والتقاليد والقيم (18).
ثم يستطرد الإمام الشيرازي عن سمات الجماعات وأهمية النضج الفكري في استمرارها بقوله: إن الجماعة كلما قربت إلى الفهم مالت إلى المعايشة بسلام مع كل الجماعات، سواء جمعهم الإطار العام أم لا، ولذا كان الوعي من أولويات العيش بسلام، للجماعة مع الجماعات الأخرى، والذي يقوم على ملاحظة ثلاثة أمور كما يطرحها الإمام الشيرازي:
1- حالة الجماعة مع جماعة أخرى
2- حالة أعضاء الجماعة مع نفس الجماعة
3- حالة بعض أعضاء الجماعة مع بعض الأعضاء الآخر.
ويناقش الحالة الأولى بقوله: هي على ثلاثة أقسام:
أ) الحيادية بينهما: وتلك توجب عدم التأثير والتأثر بينهما
ب) النزاع: وذلك يوجب تماسك كل جماعة حول نفسها، والتنافس بينهما لأجل السبق
ج) الصداقة: وهي إن كانت في سبيل الهدف أوجبت التعاون والتقدم.
وأما الثانية، فإن الجماعة إذا خالف بعض أعضائها لها، كانت بقدر تلك المخالفة راكدة، وبالعكس إذا كان الانسجام التام، ومعنى هذا القسم أن تكون الأكثرية الكاسحة إلى جانب، بينما الأقلية إلى جانب آخر، والغالب أن يكون الخلاف والوفاق تابعين لحسن الإدارة في الإجتماع وسوئها.
أما الثالثة:
أ) قد يكون الأعضاء مع الأعضاء في حالة رقابة، ومثل هذه الحالة توجب التقدم.
ب) العداوة، وفي هذه الحالة تهدد الجماعة بالإنفصام، وتكوين كل جماعة منها جماعة جديدة.
ج) الصداقة، وحالها كما تقدم في الحالة الأولى (19).
ويناقش السيد الشيرازي العلاقة بين الفرد، باعتباره عضواً في المجتمع، وبين الجماعة باعتبارها أحد أركان تكوين المجتمع بقوله: الجماعة سواء كانت كبيرة كالإجتماع، أو صغيرة كجمعية اقتصادية أو ثقافية وان تبدلت أجزائها، فالأجزاء تتجدد:
1- من حيث الكم
2- من حيث الكيف
ويطرح الدور الأهم للثقافة في حركة المجتمع بقوله: إن الثقافة الإجتماعية لا حالة التأثير، والإنسان له حالة التأثر، والتأثير والتأثر قد يكون عميقاً، وقد يكون سطحياً، والعميق قد يكون سريعاً، وقد يكون بطيئاً(20).
فالثقافة تعرف على أنها الإنتظام الملاحظ في سلوك الأفراد، ومن تعدد النواحي التي يمكن ملاحظتها في سلوكهم كطرق الحياة المختلفة وطرق الإتصال بين الناس، وهي أيضاً أنماط السلوك غير الملموسة والتي تتمثل في المعايير والمعتقدات والقيم والحاجات، وهناك تعريف متكامل للثقافة وأثرها على المجتمع والتفاعل الإجتماعي، بأنها وحدة متكاملة من المعلومات والأفكار والمعتقدات وطرق التفكير والتعبير والترويح وطرق كسب الرزق وتربية الأطفال والصنائع اليدوية وغيرها من الظواهر السائدة بين أفراد المجتمع والتي تنتقل من جيل إلى جيل ويكتسبها الأفراد عن طريق الإتصال والتفاعل الإجتماعي.
ويناقش الإمام الشيرازي أثر الثقافة في الجماعة المنسجمة لأجل هدف ما، بقوله لها جانبان:
1- الوجوه المشتركة بين أعضاء الجماعة
2- الوجوه الخاصة بكل فرد فرد أو بكل تجمع صغير في داخل الجماعة.
وما دامت الوجوه المشتركة أقوى من الوجوه المختلفة، فالجماعة بخير، وكلما كثرت وازدادت الوجوه المشتركة كان الإنسجام أكثر والتقدم أسرع، وإذا انعكس الأمر، آلت الجماعة إلى الشتات والبعثرة (21).
ويشير علماء الإجتماع في ذلك إلى وجود المسافة الإجتماعية التي يقصد بها مدى درجة الألفة والتقارب التي تصف علاقات الأفراد مع بعضهم البعض، ويعرف (بوجاردوس Bogardous ) المسافة الإجتماعية بأنها: مقياس للصراع أو النزاع الحالي، والمتوقع بين أفراد جماعة وجماعة أخرى، كما أنه ينبئ بالمشاكل الإجتماعية الحالية أو المتوقعة بين الجماعات، ولذا اعتبر التفسير الإجتماعي للمسافة الإجتماعية أن الفرد الذي ينتمي إلى جماعة معينة يشترك معها في كثير من الإهتمامات، والمصالح والمعايير، والقيم، وإن هذه الأمور المشتركة تجعله يشعر بالإنتماء لجماعته، وبالإستعداد للدفاع عنها، وهذا ما يعبر عنه بالهوية الإجتماعية.
وإذا ما صادف الفرد جماعة أو جماعات أخرى فإنه ينظر إليها من منطلق تأثيرها المحتمل على الجماعة التي ينتمي إليها، فهو يتقرب من أفراد جماعة أخرى، بقدر ما يرى، وما يتوقع من دعم هذه الجماعة لجماعته، كما أنه يبتعد عن أفراد جماعة أخرى، بقدر ما فيها من تهديد لجماعته (22).
ويطرح الإمام الشيرازي تأثير الجماعة في الفرد بقوله: إن الجماعة تسبب تغييراً في أفرادها، والغالب أن يكون ذلك التغيير في الأبعاد الخمسة الآتية وهي:
1-تحطم الفردية.
2- الإنصهار في الجماعة.
3- إحساس الفرد بالأمن الذي لم يكن يحس بمثله.
4- إحساس الفرد المنضم إلى الجماعة بالقيمة.
5- شعور الفرد المنضم إلى الجماعة بالسعة في وجوده.
ثم يناقش الإمام الشيرازي عوامل قوة الجماعة بقوله: إن قوة الجماعة، وشدة أواصرها إنما تكون تبعاً للأمور التالية:
أ) قوة الفلسفة التي بنت الجماعة نفسها عليها، فإن قوة الفلسفة المذكورة تعمق جذور الجماعة في نفوس أعضائها.
ب) الهدف الذي تتوخاه الجماعة، فإنه كلما كان أسمى كانت الجماعة أشد تماسكاً وأبقى زماناً.
ج) ثم يأتي دور القيمومة، فكلما كانت القيمومة على الجماعة من كبارها أشد وأقوى كانت الجماعة أمتن وأدوم، والعكس بالعكس.
د) وأعضاء الجماعة كلما كانوا أكثر طاعة للقيادة، سارت الجماعة سيراً حسناً.
هـ) ثم كلما توسعت الجماعة في أعضائها ومناصريها والمدافعين عنها كانت أقوى، إذ السعة تلازم كثرة الكفاءات والإستمرارية، ولذا تحاول الجماعات -دائماً- توسعة عدد أفرادها.
و) كلما كانت نظم الجماعة أدق وأصح، كانت الجماعة أقوى وأدوم.
ز) ثم كلما قويت حالة الإستشارية في الجماعة، كانت الجماعة أمتن (23).
إن البنى الأساسية التي تقوم عليها المجتمعات هي بنى فردية وجمعية معاً، بنى قائمة على أساس أن الحياة تكون مع الناس، فأكثر ما يهم الناس هو كيف يودون أن يرتبطوا بالغير، وكيف يودون الغير إن يرتبطوا بهم، وبينما تخبرنا وتؤيد رؤيتنا معظم النظريات في العلوم الإجتماعية، إن الأفراد أو الجماعات تحكمها محددات معينة تتفق معها مثل القيم، الثقافة، المحددات البيئية الإجتماعية، المحددات السيكولوجية (النفسية) فضلاً عن المحددات البيولوجية.
الثقافة في الفكر الاجتماعي للإمام الشيرازي:
إن الإفتراض الأساس في نظرية الثقافة هو، إن الحياة تكون مع الناس: فأكثر ما يهم الناس هو كيف يودون أن يرتبطوا بالغير وكيف يودون الغير أن يرتبطوا بهم، وبينما تخبرنا معظم النظريات في العلوم الإجتماعية كيف يشرع الأفراد أو الجماعات في الحصول على ما يريدونه، فإن نظرية الثقافة تسعى لشرح لماذا يريدون ما يريدونه وكذلك كيف يشرعون في الحصول عليه، وهكذا، فإن تركيزها على صياغة التفضيلات، وليس فقط درجات تحقيق التفضيلات.
إن نظرية الثقافة، بعبارة أخرى، ترى كل نمط حياة في حالة دينامية من التميز بالتضاد مع الغير، فاستيعاب بعض الناس يتضمن لا محالة استبعاد أناس آخرين، والأفراد الناجحون في بناء شبكات تحمل شخصية فعالة، على سبيل المثال، سوف يمنعون، لا محالة، أولئك الذين يجدون أنفسهم باتجاه هوامش هذه الشبكات من أن يفعلوا الشيء نفسه (يقصد النجاح).
تزعم نظرية الثقافة إن هناك ثلاثة نماذج معيشة للعلاقات الإجتماعية، وهي:
الشبكات المركزة على الذات، والجماعات المساواتية المترابطة، والجماعات المبنية على نحو تدريجي، وكل من تلك النماذج يشكل نفسه، وهو بصدد تعظيم معاملات أعضائه، في نوع من التوازن الديناميكي.
ويطرح الإمام محمد الحسيني الشيرازي رأيه في الثقافة بكل أشكالها بقوله: في الإجتماع نوعان من الثقافة أحدهما من ضمن الآخر، أما الثقافة العامة فهي التي تعطي الإجتماع لوناً خاصاً وتميزها عن سائر الإجتماعات، المجتمعات، سواء عمودياً أو أفقياً، حتى وإن كانا من دين واحد، كما أن كل مجتمع عام في داخله جماعات إما طبيعية كالقبائل أو اصطناعية كالأحزاب، والجمعيات لكل جماعة ثقافية خاصة، لكن ليس بينهما وبين ثقافات المجتمعات فجوة، ومن مجموع تلك الثقافات المضمونة تتولد الثقافة العامة للإجتماع، بعد أن يضاف على تلك الثقافات لون الإجتماع بما هو اجتماع.
أما الثقافة الإجتماعية فهي عبارة عن الدين والعلم والأخلاق والرسوم والعادات ونحوها.
ويطرح الإمام الشيرازي مدى تأثير الإسلام على الثقافة العامة والإجتماعية بقوله:
إن من فضائل الإسلام أمرين:
أحدهما مرتبط بالمقام -وهو إن الإسلام يصلح للإنسجام مع مختلف الشعوب في مختلف الأزمان والأماكن، لأنه دين يسر، بالإضافة إلى ملائمة قوانينه للعمل- ولذا يتمكن كل جماعة أن يتخذه ديناً وعقيدة ونظاماً مع بقاء عاداته وتقاليده وما أشبه مما لا تتصادم مع الإسلام.
والأمر الثاني: مرتبط بنبي الإسلام، وكان سبباً لسرعة تقدم الإسلام، مما يرتبط بالتالي بالإسلام نفسه، وهو أن كل إنسان وإن كان من ألدّ أعداء الإسلام، عرف أنه يتمكن أن يعيش في كنف الإسلام في أمن وسلام، سواء أسلم أم لا.
فالثقافة الإجتماعية، عبارة عن العقائد والأعمال الفردية، منظمة إلى الأمور الإجتماعية من الروابط التي يتأتى بها الفرد مع الآخر، والجماعات مع الجماعات(25).
ويستمر الإمام الشيرازي في طرحه لآليات الثقافة من عناصر تكامل الثقافة، إلى تعقد الثقافة والميكانزمات المكونة لتشابه المجتمعات مع إدراك قوة التأثيرات الإنتروبولوجية في تاريخ الإنسان، حيث يشرحها بقوله: والإنسان لا يعلم تاريخه ومتى كان آدم (ع)، وكل ما في بعض التواريخ ليس مستنداً إلى علم قطعي، أو قول معصوم يعلم الغيب بإذن الله تعالى، ويناقش أيضاً فكرة الماديين في تفسير التاريخ ومراحل تطور الإنسان.
إن للإمام الشيرازي أبعاداً في رؤيته الحضارية والتاريخية، تمتد بعيداً لتصل إلى التنقيب عن الآثار التاريخية بقوله، يلزم معرفة ثقافة أي مجتمع اندثر في التاريخ، كعاد وثمود وفرعون وقوم لوط، وكذلك من قبلهم، ومن بعدهم، ومعرفة الثقافة تحصل من آثارهم.
ثم يستدرج في التطور الفكري ليصل في رأيه إلى أن ثقافة الإجتماع على كثرة وحداتها، تنتظم في ثقافة موحدة، هي بمنزلة الهيكل العظمى للثقافة العامة للإجتماع، وكما أنّ الهيكل العظمى موحد وأنه تركيب من أجزاء، ثم يأتي بعد ذلك دور ما يحيط الهيكل من اللحم والأنسجة والعروق والأوردة وما أشبه، كذلك حال الثقافة، فثقافة العقيدة، وثقافة الآداب والرسوم، وثقافة المعاملات، وثقافة العبادات، وثقافة الأحوال الشخصية و...، أجزاء يركب منها الهيكل الثقافي العام للإجتماع.
عناوين ضرورية لأفكار عميقة:
- التعديل الإجتماعي:
يرى السيد الشيرازي أن المجتمع يجعل تدريجياً لنفسه قوانين يراها ملائمة لحياته النفسية والجسمية، سواء كان الجعل اقتباساً، كالذين يتدينون بدين السماء، أو اختراعياً كالذين يخترعون القانون، وحيث أن المجتمع يرى ملائمة تلك القوانين، كان لا بد له من مراعاتها، لكي لا تنهدم وينهدم بسببه المجتمع الآمن، إذ القانون الملائم إذا انهدم، فإما أن ينهدم أصل المجتمع بالتفرق والتشتت، وإما أن ينهدم أمن المجتمع، بابتلائه بالفوضى وعدم الملائمات النفسية أو الجسمية مثل القلق والفقر والمرض.
ويطرح أيضاً عناصر تؤيد سلامة القوانين من أهمها:
أ) قانون الجذب.
ب) قانون الدفع.
ويوضح أيضاً أشكال التعديل الإجتماعي بصورتين:
أ) الإقناع، حيث المجتمع يمدح المستقيم (على قوانينه) ويذم المنحرف، سواء كان مدحاً وذماً عملياً أو لفظياً.
ب) الإجبار، يمثل الضرب والشتم والسجن وما أشبه، سواء تحقق ذلك بواسطة الدولة أو بواسطة من له القدرة على ذلك.
أما عناصر الضغط الإجتماعي لأجل التعديل فيطرحها الإمام بما يلي:
أ) إما بدني، كالضرب والإجاعة ونحوهما.
ب) وإما روحي، بالشتم والإهانة وفرض الحصار الاجتماعي بعدم التكلم معه وعدم احترامه في المجالس، وعدم إعطائه الصلاحية لمقام سياسي أو إداري، أو ما أشبه ذلك.
ويناقش السيد الشيرازي مصادر التعديل الإجتماعي بقوله: إن المسلمين لا يختلفون في أن مصدر التعديل الإجتماعي، هو ما يستفاد من الأدلة الشرعية: (الكتاب، السنة، الإجماع، العقل) أما غير المسلمين فحيث أنهم يحكمون الآراء في القوانين، كان لا بد وأن ترى كل جماعة منهم قانوناً غير ما تراه الأخرى، وحسب ذلك القانون المصوّب عندهم يضغطون على المخالف، فليس القانون الوضعي عندهم كالقانون الطبيعي حيث أن الثاني مستند إلى الطبيعة، لا يتغير ولا يتبدل، بخلاف المسلمين، حيث أن القانون الوضعي عندهم كالقانون الطبيعي، لأن كليهما مستند إلى الإله الدائم الأبدي..
وعدم استناد القانون الوضعي إلى شيء دائم ثابت، مصدر مأساة لغير المسلمين، إذ هم يفكرون ماذا هو الميزان؟.
فهم يرون تساقط القوانين الواحد تلو الآخر بتبدل رأي الاكثرية، وباختلاف الأكثرية هنا عن الأكثرية هناك (26).
- الجمع والجماعة:
من بين المفاهيم السياسية التي أصبحت تستعمل بوفرة في الكتابات المعاصرة، مفهوم (المجتمع المدني)، ولا شك أن اتساع دائرة استعماله في حقل هذه الكتابة، يندرج ضمن دائرة العناية المستجدة في الفكر السياسي بالمنظومة السياسية الليبرالية، فقد انتعشت في العقدين الأخيرين، إلا أن الملاحظ أن هذه الظاهرة لم تعن بالحد في الأصول النظرية للمفاهيم المستعملة، وفي الإستعمالات الرائجة لمفهوم المجتمع المدني ما يدل على عشوائية استعماله، صحيح إنّ أغلب الذين يستعملونه يوظفونه في سياق الإستعمال الأيديولوجي (27).
ويطرح الإمام الشيرازي رأيه في تكوين المجتمع بقوله: إن الإنسان يجتمع مع الآخرين في مجتمعات صغيرة، ثم كبيرة، والمجتمع الذي يعيش الإنسان تحت ظله لا يكفيه غالباً، في ملْ رغباته، فيعمل لأجل ان يجتمع في وحدات، وهذه تسمى (بالجماعة) وهي غير (الجمع) فإن الأول له الإنسجام والدوام النسبي، بخلاف الثاني، فإن الجمع يطلق على:
1- الجمع الذي يجتمع تلقائياً، وبدون سابق تخطيط.
2- الجمع سريع الزوال، فكما يجتمع فجأة ينفض فجأة.
3- الجمع الذي ليس بين أعضائه تجانس.
4- الجمع يمكن بدون تجمع أفراده.
5- الجمع -غالباً- تحدوه العاطفة الشديدة للتجمع والعمل.
6- الجمع -غالباً- لا تركيب ثابت له بينما الجماعة بالعكس، فالجماعة لها أعضاء يغلب بقائهم، وتبدلهم قليل، أما الجمع -كالذين يجتمعون لمشاهدة زلزال أو مظاهرة فجائية أو ما أشبه- وأما الجماعة، فقد عرفت أنها تتشكل من أفراد لهم هدف خاص، ولها دوام، وفكرة وأسلوب عمل، والإنسجام بين الجماعة يقوي كثرة التبادل والمشورة، كما أن السير نحو الهدف يزيد من الإرتباط والإنسجام، وإذا كان أمام الجماعة جماعة منافسة، إشتد التجانس، وكثر العمل، حيث أن التنافس من أقوى أسباب تقدم الإنسان، لذا فالجماعة بحاجة إلى أمرين:
1- الفلسفة التي تجمعهم وتكون منهجاً لحياتهم الإجتماعية.
2- العاطفة المشبوبة التي تسيرهم وتحثهم على التقدم.
- الأدوار الاجتماعية:
يعرض الإمام الشيرازي نظريته الإجتماعية ويمضي إلى التكوينات والأدوار فيقسمها إلى:
1- المجتمع يتجزء إلى رتب إجتماعية، كل فرد في درجة خاصة منها.
2- والإنسان في درجته الإجتماعية، له مكانة خاصة به، وتسمى بالمكانة الإجتماعية، والفرق بينهما بالعموم المطلق فكل مكانة إجتماعية لا بد وأن تكون تحت درجة إجتماعية خاصة، وليس كل درجة تلازم المكانة.
3- ثم الفرد يقوم بدور إجتماعي، حسب مكانته -غالباً- وذلك الدور ينقسم إلى:
أ) دور محوّل إليه.
ب) ودور هو يقوم به خارج ما حوّل إليه.
4- ثم للإنسان تحرك إجتماعي في رتبته ومكانته:
أ) أحياناً أفقياً.
ب) وأحياناً عمودياً.
5- وأخيراً يأتي دور تأثير الأمور السابقة في حياة الإنسان الفردية والإجتماعية.
ويطرح الإمام الشيرازي مظاهر اختلاف الرتب الإجتماعية ويرجعها إلى الثقافة كأحد العوامل في الإختلاف فضلاً عن تأثير الثقافة الخاصة على المساواة الإجتماعية، ويورد الإمام الشيرازي مزايا الرتبة الإجتماعية ويقسمها إلى:
أ) السعة
ب) الدوام
ج) التعارض
ويطرح عوامل تكون الرتب:
1- الثقافة
2- الملكية
3- الحكام يشكلون رتبة في قبال سائر الناس.
أما السعة فهي عبارة عن أن الرتبة لا تحد بالحدود القومية، واللغوية والجغرافية والمذهبية -إلا في أطر أخرى.
وأما الدوام، فلأن الرتبة إنما تتولد تحت موازين خاصة، نفسية، واجتماعية، ونحوهما، وحيث أن تلك الموازين ليست سريعة النمو، كما هي ليست سريعة الزوال، فالرتبة تبقى مستمرة.
وأما التعارض، فلأن الرتبة حيث تحتوي على أفراد تتزاحم مصالحهم لا بد وأن يقع بينهم التعارض، إذ النفسيات مختلفة، والمصالح قليلة، لا تكفي الكل.
ويناقش الإمام الشيرازي أهمية الجماعات والأدوار وتأثير الرتبة في الإنسان ويقسمها إلى:
أ) الرتبة عن استحقاق النابعة، عن المؤهلات الحقيقية كالعلم والمال المستحق والحاكمية الانتخابية وما أشبه.
ب) الرتبة لا عن استحقاق، كالتي موجودة في النظام الرأسمالي، أو الأنظمة الأيديولوجية الأخرى، وهذه الرتبة توجب إسراق رتبة وحرمان رتبة.
إن الإمام الشيرازي في طرحه لأسس البناء الاجتماعي يعتمد في ذلك التنوع الثقافي لوحدة إنسانية قائمة على أساس المعرفة والمعرفة العلمية الفلسفية فضلاً عن دراسة الطريق المؤدي إلى المعرفة، ووسائل المعرفة مع الإشارة إلى أقسام الإجتماع وتقسيم الجمهور والأُمة، مع مكونات المجتمع المتخلف الذي يعد بؤرة الرذائل الخلقية.
إن الإمام الشيرازي أهتم بالموضوعات كالثقافة العامة والثقافة الإجتماعية وأسس تحركها الأفقي والعمودي للمجتمع، وتناولها بشكلها الموسع، في كتابه الموسوعي (فقه الإجتماع) الذي عرضنا بعض أفكاره ونستمر بإضافة ما يمكن الإلمام بالجزء الممكن لا سيما أن الثروة الفكرية، المعرفية المعروضة تجعلنا نلخص الأفكار الأساسية وربما فقط العناوين ومنها:
العوامل المؤثرة في الفرد والتأثير المتقابل بين المحيط الإجتماعي والطبيعي وعوامل تكوين الشخصية، وكيفية تكوين الشخصية فضلاً عن الشخصية الفردية والإجتماعية، مع الإشارة الواضحة إلى أقسام الشخصية المعنوية.
لقد تناول السيد الشيرازي انحراف الشخصية في كتابه فقه الإجتماع في جزئه الأول وبين عوامل الإنحراف وشروط عقاب المنحرف، وكيف يعالج المنحرف، وامكانية دعائم إصلاح المجتمع.
يطرح السيد الشيرازي في مسألة (26) في كتاب (فقه الإجتماع) بين المدينة والقرية عنواناً مهماً يناقش فيه أهمية الإجتماع العام والإجتماع المحلي مع تفعيل عن بدء الحياة الإنسانية، وأيهما أفضل القرية.. أم المدينة مع الإشارة إلى المدن المغلقة والمدن المفتوحة، والفوارق بينهما، وكيفية بناء المدن، في إشارة إلى أقسام المدن ومشاكل المدن الكبيرة ووضع الحلول لها، ولم يفت المؤلف أهمية الأرض والسكان وكيفية تراكم السكان وأسبابه، مع دور الثقافة في ازدياد الأفراد.
إن الإمام الشيرازي يطرح في كتابه الموسوعي (فقه الإجتماع) بجزئه الأول أهمية دراسة الانفجار السكاني وضرورة التخطيط الدقيق له مع مقارنة علمية يتساءل: هل الأرض تكفي، مع الإشارة إلى عوامل ارتفاع مستوى المعيشة.. لقد ناقش العديد من الموضوعات الأساسية التي تهم الإنسان المعاصر في حياته الإجتماعية مثل بحوث في الاقتصاد الاجتماعي مشيراً إلى تطرق علمي للعديد من المآخذ على الأنظمة الحالية في عالم اليوم.. ويطرح فكرة الإٍقتصاد الإسلامي، ودور الحكومة في مسألة (32)، مع الإشارة إلى الحلول المقترحة تحت عنوان (كيفية إنقاذ المسلمين) والتنظيم الإسلامي وعوامل الاستقطاب، مع دور الحكومة الإسلامية الواحدة والمؤامرات الإستعمارية، مؤشراً على أهمية البناء الحركي.
أما في الجزء الثاني من كتاب (فقه الاجتماع)، فيناقش تكوين العائلة، ودور المرأة والعمل ومشاكل العائلة الحديثة، وأسباب الطلاق، مع اقتراحات في كيفية المحافظة على نقاء المحيط العائلي، وامكانية تأهيل الطفل للمستقبل، مشيراً إلى أهمية التقدم العلمي في خدمة العائلة.
ويناقش في مسألة (40) أهمية الجديد والقديم، مع موقف الحكومات تجاه الحركات الإصلاحية، وشروط نجاح التخطيط، معبراً في رأيه القاطع برفض الإنقلابات العسكرية، وملامح النظام الدكتاتوري.. مع الإشارة إلى حركة التاريخ.
اضف تعليق