القرآن الذي يتحوّل إلى منهج للحياة، وإلى مسيرة نحو بناء الحضارة، وإلى قوة لمواجهة عوامل الضعف.. لقد طبقت قوانين الإسلام في عهد رسول الله(ص).. فلم نكن نجد هناك من يعاني الفقر والمرض والجهل والحرمان، ولم نكن نجد الأوضاع المتردية التي بلغتها البشرية اليوم، وبالأخص ما...
يتجلى سلوك الإمام الشيرازي الميداني التوعوي من خلال:
1: مناقشته للنظريات الإلحادية بأنواعها والرأسمالية وغيرها التي دونت في كتبه (ماركس ينهزم)، (نقد المادية الديالكتيكية)، (نقد نظريات فرويد)، (وقفة مع الوجوديين)، (مباحثات مع الشيوعيين)، (بين الإسلام ودارون) وغيرها.
ففي كيفية تناوله للحقيقة.. والآراء، وتأثيرها على الثقافات يرى أن الحقيقة واحدة جارية في جميع الحقائق (الإلهية) و(الطبيعية) و(الإقتصادية) و(السياسية) و(الإجتماعية) و(التربوية) وغيرها(22) وعلى الإنسان أن يتحرى الحقيقة في مختلف شؤون الحياة.. وذلك لا يكون إلا بتمحص الآراء ومقايستها بالفطرة والأدلة(23)، فإن نقص الثقافة والمقصود بها ثقافة الحياة بمجموعها(24) يتطلب منا:
أولاً: أن نعرف طبيعة الإنسان.
وثانياً: أن نعرف ماذا يلائم طبيعته، وماذا ينافرها.
وثالثاً: أن ننظر هل الإجتماع مكوّن من الملائم أو المنافر، فليس من الصحيح أن نقول:
يجب اتباع الأكثرية، كما أنّهُ ليس من الصحيح أن نقول: يجب الحياد بعدم الإتباع أو المخالفة، كما أنه ليس من الصحيح أن نقول: يجب المخالفة، فإن كل شيء في موضعه حسن، فإذا كانت الأكثرية مستقيمة يجب اتباعها، وإن كانت منحرفة يجب مخالفتها، وان لم تكن مستقيمة ولا منحرفة، وإنما بين ذلك سبيلاً، فالواجب اتباع الصحيح ومخالفة المنحرف.. فكما أن لكل شيء في الحياة فطرة وخاصية حسب ما قرره الله سبحانه وتعالى، كذلك نرى في الإنسان فطرة خاصة، وهذه الفطرة هي التي تملي على الإنسان ما يلائمها وما ينافرها، وقد قال سبحانه: (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ) (الإسراء:84) بينما نرى الآن في العالم جماعة من المفكرين السياسيين وهم يظنون أن الإنسان صفحة بيضاء يمكن أن ينقش فيها أي نقش.. مما سبب الإنفصام في الشخصية العالمية، فصار الإنسان أجنبياً عن نفسه، وقد نبه على هذا القرآن الحكيم بعبارة دقيقة حيث قال سبحانه: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً) (الكهف: 28)(25).
إن التحليل هذا بحاجة إلى تنظير بمستوى المسؤولية، فليس من السهل التعامل مع النفس وإرضائها وتهيئة الفكرة والأطروحة البديلة لطرد الدخيل من الأفكار الغريبة، انه هم شغل الأنبياء والأئمة والمصلحين، وأما الكتب التي ألفها الإمام الشيرازي مثل (كتاب الإجتماع)، (الإدارة)، (الأزمات وحلولها)، (الإقتصاد الإسلامي المقارن)، (الإقتصاد الإسلامي في سطور)، (الإقتصاد)، (الإقتصاد عصب الحياة)، (الإقتصاد بين المشاكل والحلول)، (الرجوع إلى سنن الله)، (العقائد الإسلامية)، (كيف عرفت الله)، (من مأساة بلاد المسلمين) وغيرها الكثير ليست بدائل إحلالية بقدر ما هي تأصيل لقدرة الإسلام على قيادة الإنسان والمجتمع في أبعاده.
2: استحضاره لماضي الأمة كنموذج حضاري، فقد تقدم المسلمون الأوائل لأنهم كانوا أصحاب إيمان وعقيدة، وقد ترجموا القرآن في سلوكهم، وهذا يكفي لصنع الانتصار.. لقد نفخ القرآن في نفوسهم فجعلهم يرمون لثواب الله وحده.. أما اليوم فلدى المسلمين كل شيء، لديهم الجامعات والصحف والمطابع والإذاعات والتلفزيونات، لكنهم لا يملكون ذلك الإيمان الذي كان يملكه المسلمون الأوائل. لديهم كل شيء ما عدا القرآن الكريم.
القرآن الذي يتحوّل إلى منهج للحياة، وإلى مسيرة نحو بناء الحضارة، وإلى قوة لمواجهة عوامل الضعف.. لقد طبقت قوانين الإسلام في عهد رسول الله(ص).. فلم نكن نجد هناك من يعاني الفقر والمرض والجهل والحرمان، ولم نكن نجد الأوضاع المتردية التي بلغتها البشرية اليوم، وبالأخص ما حلّ بالمسلمين من دمار وانهيار وتحطم.. والمشكلة أن البعض يعتقد أن الإسلام كدين هو سبب هذا الإنهيار مع أن الأمر بالعكس تماماً، إن سبب الإنهيار يكمن في ابتعاد الناس عن الدين الإسلامي، وابتلائهم بحكام جهلة لا يعرفون شيئاً عن الإسلام، بل الذي يعرفونه هو التبعية للأجنبي والتقليد الأعمى له.
لقد قضي على الإسلام ولم يبق منه سوى بعض الآثار القليلة، وهي التي أبقت على الأمة بالرغم من ضآلة تأثيرها، وهي بالرغم من ذلك قادرة على أن تكون قاعدة لإعادة الإسلام إلى الحياة مجدداً(26).
وقد كتب الإمام الشيرازي في هذا المضمار (إلى حكم الإسلام)، (إلى نهضة ثقافية إسلامية)، (أول حكومة إسلامية في المدينة المنورة)، (الأمة الواحدة)، (بقايا حضارة الإسلام كما رأيت)، (تحويل المعنويات الإسلامية)، (حوار حول تطبيق الإسلام) وغيرها من الكتب التي نقل الأذهان فيها إلى ماضي الأمة الإسلامية العريق واطلعها على أسسها في تقدمها آنذاك.
3: مطالبته من بعض أركان الحكم المعتدلين في تحقيق مطالب جماهيرية هامة أولاً، ولتسليط الأضواء على خفايا الأنظمة المنحرفة ثانياً، فمطالبته تنوير سياسي وفرز للأوراق التي يراد بها تضليل الجماهير. وثالثاً هي مقارعة صريحة للحكومات الجائرة ابتداءً من الحكومة الملكية وانتهاء بحكومة صدام، والتي دفع ثمنها بتهجيره وعائلته خارج العراق واغتيال أحد اخوته، فمن جملة مطالبه:
1ـ إعادة النظر في المناهج الدراسية على ضوء الإسلام.
2ـ المطالبة بمنح الحريات وتحقيق العدالة الاجتماعية.
3ـ المطالبة بتطبيق الإقتصاد الإسلامي وإضافته إلى المناهج الدراسية.
4ـ مطالبته بإيقاف العمل بقانون (الأحوال الشخصية) الذي شرّع في عهد عبد الكريم قاسم.
5ـ مطالبته بتطبيق قوانين الإسلام والحد من الفساد والأمور اللاأخلاقية.
6ـ مطالبته بالكف عن التعرض على حرمة الدين والمرجعية والحوزات العلمية.
7ـ مطالبته بإعطاء حقوق القوميات.
8ـ مطالبته بإلغاء قانون (الإصلاح الزراعي) وبإبداله بالقانون الإسلامي (الأرض لله ولمن يعمرها) وغيرها من المطالب التي قدمها شخصياً إلى المسؤولين في ظل الحكومات التي واكبها، كما أنه مارس توجيهه وتوعيته للجماهير من خلال حملات فكرية وسياسية إعلامية واسعة ضد الأنظمة، ولعل كتابه (تلك الأيام) خير معبّر عن تفاعله مع أزمات الأمة.
4: رؤيته للمرجعية القيادية.
المرجعية منصب ديني إلهي(27) تحظى بأهمية بالغة في العالم الإسلامي والشيعي على الخصوص وذلك لعمقها العقائدي أولاً، وللإقتضاء الإجتماعي ثانياً.
وهي كمصطلح متأخر تعني الرجوع إلى المجتهد العالم بالحكم الشرعي في مجالات الحياة المختلفة في عصر غيبة الإمام المعصوم (ع).
والمتصدي لها يسمى(المرجع) وتكليفه إدارة المسلمين دينياً ودنيوياً(28). سواء كانت للمسلمين دولة تعمل بالإسلام في دساتيره وقوانينه، أولم تكن لهم دولة، لأن النظام الإسلامي عقيدة وشريعة ودولة.. والعقيدة والشريعة هما اللذان يبقيان(29).
إنّ إدارة المسلمين في ظل المرجعية وعلى مدى تاريخها تباينت بين شدة وضعف، ومعناه أن بعض المراجع تسمح لهم الظروف القيام بالإدارة الكاملة، فيقومون بكامل الإدارة، وبعض المراجع تضيق الظروف عليهم فيقومون بالقسط الممكن من الإدارة، كما أن الأنبياء والأئمة منهم من كان يتمكن من الإدارة الكاملة، كالرسول الأعظم(ص) والإمام أمير المؤمنين(ع) ـ في فترة من حياتهما طبعاً ـ ومنهم من كان لا يتمكن إلاّ بقدر، كالمسيح(ع) والإمام موسى الكاظم (ع)(30).
وهناك بعض المراجع أقدر على الإدارة من بعض.. وهذا الإختلاف يرجع إلى النفسيات أو الظروف(31).
أما أهمية المرجعية عقائدياً، فإن الولاية كلها لله سبحانه، وهذه (الولاية) تستعمل تارة بمعنى التكوين وأخرى بمعنى التشريع.. والولاية التكوينية يدل على أنها لله سبحانه ضرورة العقل، فإنه لاشك عند أي عاقل أن للكون إلهاً عالماً قديراً، هو الذي أوجده لاستحالة المصنوع بدون صانع.
والولاية التشريعية فلاشك أنها لله سبحانه.. أن الله سبحانه جعل شيئاً من الولاية التكوينية للأنبياء والأئمة، وأحياناً للصالحين أيضاً.. أما الولاية التشريعية لهم، فالتشريع بمعنى جعلهم القانون من أنفسهم ليس لهم إطلاقاً (إن الحكم إلا لله) وإنما للنبي والإمام البيان والتذكير..
والولاية بالنسبة إليه تعالى ذاتية، وبالنسبة إلى أوليائه عرضية مستندة إليه تعالى.
وهناك ولاية ثالثة للنبي والإمام، وهو تصرفهم في الأموال والأنفس فتكون لهم الحكومة على الناس.
وبعد الإمام يأتي دور الفقيه الجامع للشرائط في الولاية، والضرورة قامت على ولايته في الجملة في أمور الحسبة التي يؤتى بها قربة إلى الله سبحانه(32).
ولكن هل للفقيه ولاية عامة في باب التنفيذ كولاية الإمام (ع) والمقصود بها التصرف في الأموال والأنفس بما هو قائد يدبر شؤون الأئمة في سلمها وحربها ويتحمل عبئاً مثقلاً بالمسؤوليات بقدر أهمية المنصب وتزاحم المشاكل والصعوبات؟.
وإذا كان المرجع بمنزلة القائد، والأمة بمنزلة الجيش(33) يخلق تفاعلاً بينهما فسيترتب على كل منهما واجبات ومسؤوليات وحقوق متبادلة.
يتناول الإمام الشيرازي في كتاب (الاجتهاد: التقليد) من موسوعته الفقهية العناصر الداخلة في ترتب العمق العقائدي للمرجعية فقهياً، فهو يتناول التقليد والاجتهاد ويفصّل التحليل في اشتراط الإجتهاد المطلق في المرجع من خلال تقديمه لستة أمور هي:
الأول: في مرحلة إمكان المجتهد المطلق ووقوعه.
الثاني: جواز عمله لنفسه.
الثالث: جواز رجوع الغير إليه في الفتوى.
الرابع: نفوذ قضائه.
الخامس: جواز تصديه للأمور الحسبية.
السادس: ولايته العامة(34).
ففي إثبات ولايته العامة يقول:
إن الولاية العامة قسمين:
الأول: الولاية العامة المطلقة؛ بمعنى أن ما للإمام المعصوم (ع) من الصلاحيات تكون للفقيه الجامع للشرائط أيضاً، وتشمل الدماء والفروج والأموال.. وبحسب التتبع الناقص في كلمات الأعلام، لم أعثر على فقيه قال بها.
الثاني: المرتبة النازلة من تلك الولاية وما فوق الأمور الحسبية، كالولاية على الاجتهاد والحدود والسياسات ونحوها مما كانت بيد النبي(ص) والخلفاء والولاة من قبلهم، وهذه المرتبة وإن كثرت فيها الكلمات واختلفت فيها الأقوال لكن الأقوى في النظر جواز تصدي الفقيه لها إلا ما خرج بالدليل الخاص. وذلك للروايات المتواترة الدالة على المطلوب(35)، وقد استدل عقلياً ونقلياً بروايات:
منها ـ التوقيع (أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله). إذ التعليل بقوله (إنهم حجتي) مع تعقبه بقوله (وأنا حجة الله) يوجب الظهور في العموم.
ومنها ـ رواية عن الإمام العسكري(ع): (فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلدوه) ووجه الدلالة أوضح من أن يخفى(36).
ومعنى التقليد الواجب، هو العمل الملون بلون مطابقة فتوى الغير ناشئاً عن فتواه، فلو كان مطابقاً بلا استناد لم يكن تقليداً، ولو خالف الواقع لم يعذر(37).
ومن هذا التعريف يظهر عمق الارتباط في التفاعل بين المرجع والأمة.
فالولاية كما تقدم لها مرتبتان، فحيث قطع بعدم المرتبة العالية للفقيه لا وجه لرفع اليد عن العموم بالنسبة إلى المرتبة الضعيفة، إذ ليس الأمر بين الولاية المطلقة وبين الأمور الحسبية فقط، بل بينهما واسطة. لابد من القول بها لدلالة الأدلة (الأربعة والتي ذكرنا منها النقلي فقط)، وإن شئت قلت: بعدم العموم، لابد من تخصصها بالقدر الخارج بالضرورة والإجماع، وهو الولاية العامة كولاية الإمام (ع)، أما غير ذلك وهو المرتبة الثانية من الولاية فلا دليل على خروجها عن العام(38).
وبهذا الاستدلال الفقهي على الولاية العامة يتضح العمق العقائدي في جدلية العلاقة المترتبة بين المرجع والأمة في حركتهما.
إما للاقتضاء الإجتماعي:
فلأن الإسلام خاتم الأديان والرسالات السماوية فهو نظام متكامل بأبعاده شامل لكافة نواحي الحياة، والرسول هو المبلغ والقائد الأول، ومن بعده الأئمة الأطهار (ع) ويليهم في عصر غيبة الإمام المعصوم (ع) ونوابه.
ولأن الإسلام عقيدة وشريعة ودولة.. فبوجود الدولة الإسلامية أو عدمها فإن تفويض المجتمع لأي عمل يقتضي قيادة المفوض إليه، ففي تعريف القيادة الرسمية يقول الإمام الشيرازي:
هي التي تكون حسب نوع العمل المفوض إليه (القائد) إجتماعياً كرؤساء القوى الثلاث في الحكومات وهي التنفيذية والتأطيرية والقضائية أو ما أشبه ذلك، وهذه القيادة لا تكون إلاّ حسب الإقتضاء الإجتماعي، وحتى قيادة مرجع التقليد تسمى في هذا الإصطلاح بالقيادة الرسمية بمعنى أن الأمة تفوض إليه القيادة بعد انطباق شرائط الشريعة عليه(39).
والشرائط هي:
البلوغ، العقل، الإيمان، العدالة، الرجولية، الحرية، كونه مجتهداً مطلقاً، الحياة، الأعلمية، طهارة المولد(40).
لذا كان التحري وانتخاب المرجع من المسؤوليات الخطيرة التي تواجهها الأمة في المجتمع الإسلامي والشيعي على وجه الخصوص لما له من ولاية عامة وهي نوع تصرف، وعليها اتباعه (إذا أرادت النجاح والخير)(41) على حد تعبير الإمام الشيرازي.
ولنرى كيف يتداول الإمام الشيرازي استجابة الأمة للمرجع والمرجعية من خلال نظرته إلى الثواب والعقاب:
يتطرق في كتابه (المرجع والأمة) إلى مسؤولية الأمة تجاه مرجعها، ويعبر عنها بالإلتفاف حوله جسماً ومعنى(42) فهي تهيئ له الأجواء ليتمكن من أداء رسالته وتنظمّ أموره وتكوّن لجانه وتخطط لعمله، ومع ملاحظة أن المرجع لا يجبر الأمة على عمل ما، فلابد من وازع يغرس في نفوسهم رجاء الثواب وخوف العقاب.
إن الإنسان هو العنصر المهم الذي سخّر الإسلام جميع الأشياء في سبيل حمايته من المهلكات، وحتى التشريع لرعاية هذا الإنسان الخليفة(43) وحيث أن الإنسان يستقيم بالشريعة ـ عند المتشرعين ـ وبالقوانين الوضعية ـ عند أهله ـ فلابد من الإلتزام والتطبيق، وذلك لا يكون إلاّ بأن يتوفر فيه الشرف النفسي، أو خوف العقاب ورجاء الثواب، أو الحفاظ على الشخصية، فالمجتمع الصالح هو الذي قد امتلأ نفوس أفراده بهذه الأمور الثلاثة(44) ولذلك عندما نتصفح التاريخ نرى أن الأنبياء هم الذين بنوا المجتمعات بالمعنى الإنساني الدقيق، ووضعوا لها أحكاماً ونظاماً عبر الدين والتشريع الإلهي(45) والعلماء ورثة الأنبياء تقع على عاتقهم مهمة الحفاظ على الإنسان، المجتمع، الإنسانية.
وكما يقال في العلم الحديث لكل مثير استجابة تتناسب كماً وكيفاً، فإن أدوات المرجع وأساليبه التي يوظفها في إدارته للأمة فضلاً عن قدراته النفسية ستخلق حالة التفاعل والإنسجام بين المستجيب وما يقابله من تدعيم وتعزيز لرؤيته بقيادته لها حتى تدافع عنه وتلتف حوله وتمكنه من أداء رسالته وتقدره على نشر الإسلام وبث الأحكام وإدارة البلاد.
لذا كانت المرجعية تشكيل وعمل وقائي وتوسعي لصالح الإسلام والمسلمين و(حيث) المرجع هو الذي منه يؤخذ، وإليه ينتهي(46).
وبذلك تتحقق اللبنة الأولى في بناء المؤسسة الإجتماعية بكل أبعادها وبها كانت المرجعية الدينية الجهة صاحبة النفوذ في العراق وكانت تعتبر الركيزة الرئيسية التي يستند عليها المجتمع العراقي ـ آنذاك.. وقد كانت المشاكل المستعصية ـ مهما كان حجمها ـ تحل بيد العلماء وذلك لما يتمتعون به من العلم والذكاء والقدرة والنفوذ بين الناس، ولذا كانت للعالِم مكانة خاصة في القلوب ويتمتع باحترام كبير من قبل الناس بسبب خدمته للناس وتحركه بينهم، فقد كان يشاركهم في كل عمل من الصلاة وإجراء صيغة النكاح ويحضر مناسباتهم في الأفراح والأحزان فضلاً عن أنهم كانوا ينظمون أسس الحياة المجتمعية والعملية في العبادات والمعاملات، فقد كان ـ العلماء الفقهاء ـ الذخيرة الحية للمؤمنين وكان الناس على علم بأن في طاعة العلماء نيل الحسنات وإزالة السيئات.. وكان العالم يستمد قوته من الشعب وبالتالي كانت الأمة تحصل على الحرية والأمان(47).
ويتطرق الإمام الشيرازي في كتابه (المرجع والأمة) إلى مهام وواجبات المرجع في إدارته للمسلمين وقد ذكرها في عشرين بنداً:
1ـ أجوبة المسائل.
2ـ الإفتاء.
3ـ إرشاد الناس.
4ـ الدعوة إلى الإسلام.
5ـ الأمر بالمعروف.
6ـ النهي عن المنكر.
7ـ تأليف الكتب.
8ـ تنظيم الحوزة العلمية.
9ـ بعث الوكلاء.
10ـ الإصلاح بين الناس.
11ـ إرسال المبشرين.
12ـ جمع الأموال وتوزيعها.
13ـ ترفيع مستوى المسلمين.
14ـ القضاء.
15ـ الحيلولة بين الظالم والمظلوم
16ـ التحفظ على قوانين الإسلام.
17ـ الوقوف دون تسرب الأفكار الباطلة.
18ـ رد المظالم.
19ـ قضاء حوائج الناس.
20ـ حفظ البلاد الإسلامية عن الأعداء.
وما تقدم من أنواع الإدارة، فالغالب اتصاف المرجع الأعلى بها، وفي كثير من الأحيان يتصف المراجع الآخرون أيضاً بقدر كبير منها(48). ولعل اتصاف المرجع الأعلى بها لما تحمله من سمات مسؤولية المؤسسات الإجتماعية الجامعة بين الإجتماعية والإقتصادية والتربوية والقانونية وحتى العسكرية وغيرها..
ودائرة المرجع، جهازه المسؤول عن التشكيل والعمل لوقاية المسلمين وتوسعة الإسلام كما مر ويتألف من أقسام رئيسية ثلاثة:
1ـ المرجع.
2ـ اللجان المساعدة له.
3ـ وكلاء البلاد(49).
وهذا هو الأسلوب التقليدي في عمل مرجع التقليد الذي دأب الإمام الشيرازي المجدد برصيده الفكري الهائل الذي يرى أن الإسلام مرتكز في النفوس فإذا تبنّى المرجع والأمة العمل كانت المهمة قريبة الثمار وإن لم تكن يسيرة(50) أن يجدد ويصلح وينهض بالأمة الممزقة المضطهدة المستبدة المحتاجة إلى قيادة ليست بالمعنى التقليدي للمرجعية.
فمرجعيته لها أبعاد فقهية وفكرية وسياسية ولها منهجيتها في مواجهة الأزمات بأنواعها حتى غدت مدرسة للعطاء الفكري بنظرة واقعية إلى الأمور.
فهو في الوقت الذي يدعو المسلمين إلى رفض الظلم ومقاومة التحديات وقطع دابر الديكتاتورية والفساد يشترط أن تكون بالممارسات السلمية والخطوات الخالية من العنف ويدعو إلى الانفتاح والحوار والتفاهم والتعددية، ويرفض التحزب والتعصب للحزب أو للجماعة، وفي نفس الوقت الذي ينادي بولاية الفقيه ووجوب إقامة الحكومة الإسلامية ينادي أيضاً بوجوب أن تكون الحكومة الإسلامية تعددية تضم جميع الفقهاء ومراجع المسلمين الكبار في مجلس قيادي واحد للتشاور في الشؤون العامة(51).
تتلخص رؤية الإمام الشيرازي للمرجعية من خلال تناوله:
1ـ لشورى الفقهاء المراجع.
2ـ لولاية الفقيه.
3ـ للحريات.
4ـ للتعددية الحزبية.
5ـ للحكومة الواحدة.
شورى الفقهاء المراجع:
يتناول الإمام الشيرازي (الشورى) كمبدأ في مقابل الإستبداد الفردي في الحكم فيضيف من رصيده المعرفي بأن الشورى:
1ـ مبدأ إسلامي عام لا يختص فقط بالمجال السياسي بل حتى في الحياة الأسرية والإجتماعية.
2ـ (لها) مجالان؛ الأول: مشورة الحاكم المسلم للمسلمين في الأمور المتعلقة بهم، والثاني: مشورة المسلمين فيما ببينهم على إدارة شؤونهم، فهي دعوة الطرفين إلى الشورى، طرف الحاكم وطرف الرعية.
3ـ (كمبدأ للتشاور) قائم في الأمور المتعلقة بشؤون المسلمين دون الأحكام الشرعية التي ورد فيها النص(52).
ثم يضيف الإمام الشيرازي من مخزونه الفقهي في موارد إلزام الشورى ويستدل على أن وجوب الشورى في مجيء الحاكم إلى الحكم فلأنه نوع تسلط على الناس والناس لا يصح التسلط عليهم إلاّ برضاهم.. أما وجوب المشورة في أمور الناس بعد مجيئه إلى الحكم، لأن للحاكم بقدر تخويل الناس له للصلاحية، ففي غيره يحتاج إلى إذنهم(53).
بهذه الرؤية للشورى يمكن استنتاج الملامح الرئيسية لنظرية شورى الفقهاء المراجع عند الإمام الشيرازي. ففي الإسلام الحكم شورى، يعني إذا كان للأمة أكثر من مرجع تقليد فيجب إشراك الجميع في الحكومة على نحو الاستشارة، وما قررته الأكثرية منهم يلزم الأخذ والعمل به(54) وبذلك يمكن استيعاب المراجع الفقهاء مع اختلافهم في وجهات النظر.
فالمستوى الأول في نظريته هو (مجلس شورى الفقهاء المراجع)(55) حيث انتخابهم من خلال مقلديهم، تحقيقاً للحاكم من الشعب إلى الشعب، ولأن الأمة لها رأيها فيمن سيأخذ بزمام الحكم(56).
وأن شورى المراجع في نظريته هي التي تدير الحكم بأكثرية الآراء في الأمور العامة كالإقتصاد العام والحرب والسلم، والسياسة العامة، والإجتماع العام بما يرتبط بكل الأمة.
أما التقليد، فأمور الصلاة أو الصيام، والحج، وما أشبه من الأعمال الفردية، أو شبه الفردية كالعائلة، تنوط بمرجع التقليد لا ربط لسائر مراجع التقليد فيها(57).
أما المستوى الثاني فهو الأحزاب الإسلامية التي تنتهي إلى المراجع.. فالمراجع يكوّنون الأحزاب الإسلامية التي يكونون عوناً لهم في تطبيق الإسلام وتقديم الأمة إلى الأمام وهذه الأحزاب بمعونة شورى المراجع ينتخبون القوى الثلاث(58).
وأما المستوى الثالث فيتمثل في دور بناء المؤسسات الإجتماعية كالاقتصادية، السياسية، الاجتماعية وغيرها، والتي تجدها في النظام الإسلامي الكامل والشامل للحياة وبكل قوانينه.
وفي كتابه (هكذا حكم الإسلام) بيان مفصل لطبيعة الحكم في الإسلام والمبادئ التي يرتكز عليها وكيفية سياسته الخارجية وكيفية تناوله للأحزاب وغيرها من مفردات الحكم في الإسلام، وبناء المؤسسات لا يخرج عن مبدأ الشورى وحرية الانتخاب.
وأما المستوى الرابع فيرتقي إلى مشروع حضاري إنساني يطرح الإمام الشيرازي الإسلام في قيادته الرسالية العالمية.
ولاية الفقيه الجامع للشرائط:
بعد تقديمنا لاستدلال الإمام الشيرازي للولاية العامة للمرجع، فإن الولي الفقيه الجامع للشرائط هو الحاكم الأعلى في نطاق شورى الفقهاء المراجع، فالولاية لشورى الفقهاء المراجع وفي الإطار الشرعي الذي حدده القرآن الكريم والسنة المطهرة المروية عن رسول الله(ص) وأهل بيته(ع)(59).
الحريات:
إن في الإسلام من الحريات ما هو شامل وواسع فقوله تعالى: (يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف: 157) فالمسلم حر في مزاولة كل عمل والقيام بكل تحرك إلاّ في الواجبات والمحرمات فقط(60).. (ومن حرياته) حرية انتخابه لمرجع تقليده، وحرية انتخابه لرئيس دولته، وحرية انتخابه لنواب مجلسه وإمام جماعته وقاضيه، وهو حر في أن يسافر ويبني وغيرها من الحريات، حتى أن الحرية التي يمنحها الإسلام شمولية تشمل الكافر في مختلف أنواع الحقول(61).
الحكومة الواحدة:
الإسلام عقيدة وشريعة ودولة، وإقامة الدولة الإسلامية واجبة(62)، وقد اختلف واستشكل الكثيرون حول إمكان تحقيق حكم الإسلام في عصر الغيبة، إلاّ أن الاطلاع على الأهداف التي ينظّر لها الإمام الشيرازي في رؤيته للدولة الإسلامية يوضح إيجابه في إقامتها:
الأول: إرجاع الأمة الواحدة حيث أن المسلمين أمة واحدة كما قال سبحانه: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً).
الثاني: إرجاع أحكام الله تعالى إلى الأمة، فإن أحكام الإسلام في عصور الإسلام المختلفة حتى أيام الخلفاء المتأخرين من الأمويين والعباسيين ومن إليهم لم تكن الأمة منسلخة عن تلك الأحكام بهذا النحو الذي انسلخت الأمة عنها بعد سيطرة الإستعمار على المسلمين.
الثالث: حفظ الأمة من الإنهيار. فإن المسلمين منذ قرن أخذوا في الإنهيار التام ولا يمر يوم إلاّ والمسلمون في تقلص والإسلام في انحصار، فبلادهم نهب لليهود مرة كما في فلسطين، وللنصارى مرة ثانية كما في السودان، وللملحدين ثالثة كما في الجمهوريات الإسلامية التي اقتطعها الشيوعيون، وللهندوك رابعة كما في الهند حيث صارت الهند تحت حكومة كافرة بعد أن كانت بيد المسلمين عشرة قرون.
الرابع: إنماء الأمة في مختلف الميادين، فقد تقدم العالم في الصناعة والنظام وما أشبه تقدماً مذهلاً بينما بقي المسلمون متأخرين بمراحل كثيرة.
الخامس: توسيع الأمة، كما فعله الإسلام بزيادة المسلمين بسبب التبليغ والخدمة(63).
ورؤيته هذه إنما تنطلق من الواقعية أولاً، ومن مخزونه المعرفي بأن إقامة حكم الإسلام في زمن الغيبة بواسطة نواب الإمام المهدي (ع) الجامعين لشرائط الفتوى من أوجب الواجبات(64).
إنقاذ المسلمين:
يحدد الإمام الشيرازي في كتابه إنقاذ المسلمين أبعاداً ثلاثة لمشروعه النهضوي في إنقاذ الأمة الإسلامية، وهو مشروع مستمد من الواقعية مؤصّل بالفكر الإسلامي العملاق، يستشرف منه الغد المشرق والمستقبل الزاهر.
أما البعد الأول، فيعد شروطاً ومقومات في تحقيق المشروع وهي:
1ـ توحيد الأمة.
2ـ إعادة الأخوة الإسلامية.
3ـ إطلاق الحريات الإسلامية.
4ـ تطبيق القوانين الإسلامية.
وأما البعد الثاني فيتمثل بالأساليب الواجب اتباعها في مشروعه وهي:
1ـ التنظيم.
2ـ التوعية.
3ـ تخلّق العاملين لأجل الإنقاذ بالأخلاق الفاضلة.
وأما البعد الثالث فهو بعد وقائي نهضوي عالمي ويتلخص بـ:
1ـ إنشاء منظمة إسلامية عالمية.
2ـ نشر الثقافة الإسلامية وتعميمها في البلاد الأجنبية.
3ـ عقد المؤتمرات الصغيرة المحلية والكبيرة العالمية.
ثم ينتقل الإمام الشيرازي إلى الحيز التطبيقي في تنظيره، المسألة الأكثر خطورة واستيعاباً وإفرازاً للرؤية الإجمالية السياسية والفكرية والاجتماعية واستخداماً للأدوات والأساليب في التطبيق، ولنرى كيف يقوم الإمام الشيرازي بعملية النقل:
يبدأ أولاً بتناول التطبيق على مستوى الدولة الواحدة فيحدد بعدين داخلي وخارجي، أما البعد الأول فهو خطوات تدريجية في تطبيق الشريعة.
وأما البعد الثاني فهو صيانة ورقابة إجرائية على التطبيق.
ويطبق البعد الأول (الداخلي) بالخطوات التالية:
1ـ تطبيق الشورى في الحكم.
2ـ إطلاق الحريات باستثناء المحرمات.
3ـ إرجاع القضاء إلى البساطة الإسلامية.
4ـ إقرار التساوي بين الناس أمام القانون.
5ـ التعامل بإنسانية ورفق مع الأقليات الدينية.
6ـ الامتناع عن أخذ الضرائب من المواطنين.
7ـ حرية حيازة المباحات.
8ـ رفع القوانين الوضعية.
وأما في البعد الثاني (الخارجي) فيجب اتباع الخطوات التالية:
1ـ التوفيق بين القوانين.
2ـ التدرج في إلغاء القوانين الوضعية.
ثم يتناول ثانياً التطبيق بمستوى جميع الدول الإسلامية بالكيفية التالية:
1ـ التدرج في إلغاء قانوني الجمارك والحدود، وما أشبه لئلا يستلزم اهتزاز الاقتصاد واضطراب البلاد حسب قانون (لا ضرر) وقانون (الأهم والمهم) كما حدث ذلك إجمالاً في توحيد الدول الأوربية.
2ـ التدرج في التعامل والعلاقات مع الدول غير الإسلامية.
ونظرية الإمام الشيرازي مشروطة بمشاركة الأمة في تقرير مصيرها عبر:
1ـ الانتخابات الحرة.
2ـ المؤسسات الدستورية.
3ـ الأحزاب الحرة.
4ـ شورى الفقهاء.
اضف تعليق