من يتقن فن الصبر، سيكون قادرا على معرفة وإتقان فن الاصطبار، وثمة ما يرتبط بهذه المعادلة أو ما يقترب منها، فمن يتقن عملية الخضوع وفهم الآخر، سوف يكون قادرا على إخضاع الآخرين، ونكرر هنا أن المقصود بالخضوع والإخضاع، لا يعني الهيمنة على الآخر، وإنما إقناعه ومن ثم إلزامه بالأفكار المطروحة والخطوات العملية التي تلي هذا الإقناع، وهذا هو الأمر الذي يتعلق بخريطة الخضوع والإخضاع...
تمتلك كتابات الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، صفة البحث والتعمق في تفاصيل الحياة ووضع أو اقتراح الحلول المناسبة لها، فلم تُبقِ تلك الكتابات شاردة أو واردة إلا وسبرت أغوارها، وبحثتها وفصّلتها وبسّطتها بأسلوب غاية في الجمال والوضوح، ومن هذه التفاصيل والقيم التي يتوكّأ عليها الناس في مواجهة المشكلات بكل قسوتها وغموضها ومضاعفتها المؤذية، قيمة أو سمة الصبر، فهو كما تشير تجاربنا في الحياة، قادر على انتشال الإنسان من براثن أخطر المشكلات والعبور به إلى مرفأ السلام.
لذلك يقترح الإمام الشيرازي على الإنسان أن يتمسك بالصبر، ليس هذا فحسب، وإنما يشترط سماحته أن يسير الإنسان نحو هدفه المرسوم ولا يكتفي بالصبر فقط، في هذه الحالة، سوف يكون الصبر من أقوى الروافد التي تدعم الإنسان وترفده بالقدرة على مواجهة أعقد المشكلات وأقواها، كما أن الناس حين يمتلكون هذه السمة العظيمة فإنهم يوصفون ويحسبون على ذوي العزم، وأصحاب الإرادات القوية.
لهذا السبب يؤكد الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه القيم الموسوم بـ (شروط نجاح الجماعات) أهمية:
(الصبر على المشاكل وعلى السير إلى الهدف، فإنه من أقوى سمات القدرة)، ويورد سماحته الآية القرآنية المباركة: قال سبحانه: (ولمن صبر وظفر أن ذلك من عزم الأمر).
ومن أهم الصفات التي يمنحها الصبر للشخص الصابر، الهدوء والقدرة على حفظ النظام، والميل لجعل الحياة اليومية للناس أكثر اتزانا ونظما وشعورا بالمسؤولية تجاه الآخر، كما أن الإنسان الصابر يتحلى بصفة بالغة الأهمية، تلك قدرته وتميزه في تبصّر أمور الحياة رغم تشعبها، فالصبور هو ذلك الذي تتضح له خارطة الطريق بصورة واضحة، كما أنه يرى المشكلات صغيرها وكبيرها، ويعرف سبل حلّها، ولكن من خلال اعتماده للهدوء والحكمة والصبر، ليس خوفا من المواجهة، ولكن تقليلا للتضحيات أو سواها مما يلحق بالإنسان المتسرّع أو غير الصبور، فالتهرّب من الصبر أو التخلي عنه لا يزيد الشخص إلا تهورا وخسارة.
كما نلحظ ذلك في قول الإمام الشيرازي:
إن (الصبر ضمان لحفظ النظام ولحفظ الهدوء، ولتبصّر العواقب ولمعرفة ارتباط الأشياء بعضها ببعض).
ولابد أننا لاحظنا في حياتنا العملية اقتران الصبر بالإيمان، فالإنسان المؤمن هو الأقدر من سواه على امتلاك ناصية الصبر، وبالتالي يكون الأقدر على مواجهة مشاكله بهدوء ورباطة جأش، لذلك لا يكفي أن يكون الإنسان متمسكا بالإيمان وحده، إذ أن خارطة التأثير على الناس الآخرين تستوجب تحلي المؤمن بسمة أو قيمة أخرى هي الصبر.
إذ يورد الإمام الشيرازي قولا مأثورا: بأن (الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد)، فإنه المسيطر المسيّر للأمور، كما أن الرأس هو المسير للأعضاء والمسيطر عليها).
كيف نسيطر على الآخرين بالإقناع؟
من أهم السمات التي ينبغي أن يتحلى بها القادة والرؤساء بغض النظر عن طبيعة مهمتهم، هي السيطرة على النفس، وهذا لن يتحقق إلا بالصبر والقدرة على مواجهة المسؤوليات بإرادة قوية وإدارة محنكة، وهو ما يحتاجه العراقيون اليوم خصوصا بعد انتهاء الانتخابات النيابية في دورتها الجديدة، فالسياسي والقائد والمسؤول، إذا تحلّى بالصبر سوف يمكنه ردع نفسه عن الخطأ، وبالتالي يمكنه أن يُخضِع الآخرين له بالإقناع، أي أنه إذا صبر وتمكن من السيطرة على نفسه، لابد أنه سيكون قادرا على إخضاع الآخرين بالإقناع.
ولا شك أن الناس، عراقيون أو غيرهم، لا يمكن أن يستجيبوا أو يخضعوا إلى شخص ضعيف الإرادة، والإنسان الصبور لا يمكن أن تضعف إرادته، لذلك فإن المسؤول مطالب بأن يتحلى بقيمة الصبر، كي يسيطر على نفسه أولا، ومن ثم تتوافر له القدرة على إقناع الشعب بصبره وشخصيته التي يمكنه التحكم بها، وبذلك يستطيع أن يقودهم وفق رؤيته وتخطيطه وأفكاره.
نقرأ عن الإمام الشيرازي حول هذا الموضوع: قال أحد الفلاسفة: (أخضع نفسك لتستطيع إخضاع الآخرين، فإن لم تفعل ذلك لم تستطع أن تسيطر على الآخرين)، والقصد في ذلك واضح، أن الناس لا يخضعون لهش النفس الضعيف الإرادة). والمقصود هنا بالإخضاع ليس الهيمنة وإنما الإقناع.
إن شرط السيطرة على النفس مهم بل شرط أساس على القادة والرؤساء والمسؤولين، كما أنه شرط ينبغي أن يلتزم به عامة الناس، ولكن أهميته بالنسبة للمسؤول تفوق الفرد العادي والسبب مفهوم بسبب تأثير قرارات المسؤول على حياة الآخرين، ومن أهم ما تنتج عنه السيطرة على النفس هي قدرتها بالنتيجة على السيطرة على الآخرين بشكل طوعي وليس بالإجبار أو الفرض أو الطغيان، وهذا هو أهم أنوع السيطرة، لأنها إذا حدثت بالقوة عند ذاك تخرج عن إطار الإقناع، لهذا يُطالب الناس بالصبر لأنه يقود إلى تحجيم أهواء النفس ثم قبول الآخرين به.
حيث يؤكد الإمام الشيرازي ذلك بقوله:
(إذا تمكن الإنسان من جمع نفسه وتقويتها صلحت للسيطرة على الآخرين، وهذا من بعض علل الصوم، حيث أن الصوم يوجب تقوية الإرادة والسيطرة على الذات، وفي الآية الكريمة: (واستعينوا بالصبر والصلاة).
القائد وزرع الثقة والصبر
وينبغي أن لا يكتفي الإنسان بقيمة الصبر موفورة لنفسه فقط، كما أن القائد والمسؤول والإنسان المؤثر في الآخرين، يجب أن يبث في الآخرين روح الصبر، مع خاصية السعي والسير نحو الهدف دون كلل أو ملل، وذلك من خلال توعيتهم ومطالبتهم باعتماد الصبر كطريقة لمعالجة العقبات ومصاعب الحياة اليومية أو على المدى البعيد، وكلما كان الإنسان لاسيما القائد والمسؤول قادرا على زرع الصبر لدى الناس الآخرين، كان أكثر تأثيرا عليهم، كما أن من أهم صفات الرؤساء والقادة هي التأثير على أكبر عدد ممكن من خلال تحليه هو نفسه بهذه القيمة الكبيرة.
ويستند الإمام الراحل في تأكيده على هذه القيمة بالنص القرآني، الذي يدعو إلى الصبر والاصطبار والمرابطة والتقوى، فهذه الصفات والخطوات التي ينبغي أن يتخذها الناس تشكل سبيلهم نحو النجاح.
كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي في قوله:
(ينبغي أن يوحي العضو إلى الأعضاء بالصبر، فيقول لهم: اصبروا وثقوا وكونوا مثابرين تتذلل لكم الصعاب، قال سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون)، والمرابطة والتقوى أيضاً نوعان من الصبر).
ويعدّ الإمام الشيرازي الصبر بأنه فن ينبغي أن يتقنه الناس عموما، ومن باب أولى أن يكون القادة والرؤساء من أكثر الناس إتقانا لهذه القيمة العظيمة، ويؤكد سماحة الإمام بأن من يتقن فن الصبر، سيكون قادرا على معرفة وإتقان فن الاصطبار، وثمة ما يرتبط بهذه المعادلة أو ما يقترب منها، فمن يتقن عملية الخضوع وفهم الآخر، سوف يكون قادرا على إخضاع الآخرين، ونكرر هنا أن المقصود بالخضوع والإخضاع، لا يعني الهيمنة على الآخر، وإنما إقناعه ومن ثم إلزامه بالأفكار المطروحة والخطوات العملية التي تلي هذا الإقناع، وهذا هو الأمر الذي يتعلق بخريطة الخضوع والإخضاع.
حيث يقول الإمام الشيرازي: (من يعرف فن الصبر يعرف فن الاصطبار، ومن يقدر على الخضوع، يقدر على الإخضاع).
اضف تعليق